بقلم الشيخ / ايهاب صالح
هذا هو المنشور الرابع لنقد التيارات المعاصرة، فنقد كتبت نقد الصوفية المعاصرة في منشورين، وهذا هو المنشور الثاني لنقد السلفية المعاصرة، لتكتمل الصورة ويكتمل ما عندي.
والسلفية المعاصرة المقصود بها السلفية الدعوية بكل فرقها، وليس السلفية العلمية.
ظهرت فرقة السلفية الوهابية في العصر الحديث، بحجة اتباع السلف الصالح، بمقولتهم المشهورة: (بفهم السلف)، واتبعت طريقة دعوية عاطفية تناسب العوام.
وبدون شك لهم كل الاحترام والتقدير، فالتيارات المتنوعة كثيرة، ولكل طريقته، ولكن – وللأسف – تخطى الأمر مسألة طريقة فهم الدين والعبادة، إلى الإقصاء والتوحش والتشنيع والتكفير. لذلك نحتاج إلى عدة وقفات منها هذه الوقفة.
نستطيع القول بأن فتاوى السلفية الوهابية وما يروجونه بين اتباعهم، وما يزرعونه في عقول العوام، هو الأشد خطورة على المسلمين في زمننا هذا، فبجانب الأقوال المنكرة التي يروجونها في العقائد، والفتاوى المتشددة المتطرفة، تظهر مسألتان في غاية الخطورة:
المسألة الأولى- إنكار المذاهب الفقهية الأربعة والقول بفقه الدليل:
وهذه بدعة منكرة تمثل خطرا كبيرا على التراث الإسلامي.
فبعد أن قامت المذاهب الفقهية الأربعة، وتابعها فقهاء أهل السنة على مر تاريخها، جيلا عن جيل، وطبقة عن طبقة، وقاموا بتحرير المسائل وضبطها، وإحكام قواعدها وطرق الاستدلال عليها، وقواعد الترجيح، وتطويرها من جيل إلى جيل، لتناسب تطور حركة الحياة.
ظهرت لنا السلفية الوهابية لتنكر المذاهب الفقهية الأربعة، بحجة اتباع القرآن والسنة، وعدم جواز اتباع الرجال، ويرددون مقولتهم المعروفة: (اتبع القرآن والسنة أم أبي حنيفة والشافعي؟) وكأن المذاهب الفقهية الأربعة لا تتبع القرآن والسنة. وما ذلك إلا لتبرير شذوذ فتاواهم، وانحرافهم عن إجماع أهل السنة، متمثلا في مذاهبها.
وجدير بالذكر أن هذا النهج أشد خطورة على الأمة من مثيله العلماني، فبدعة فقه الدليل لا تنتج إلا تدمير التراث الإسلامي، ونسف المنهجية العلمية التي قام عليها، وتشتيت الأمة، وشغلها بمعارك فقهية ساذجة، نتيجة تعليم اتباعهم أن آراء شيوخهم هي فقط صحيح الدين، وليست اجتهادات، وبالتالي فكل من يخالفهم مبتدع لا يسير مع الدليل، إن لم يكن كافرا، بل وصل الأمر إلى تكفير بعضهم البعض، لأنهم تيارات متخاصمة، كالجامية والحدادية والمدخلية والسرورية والجهادية، بل وكل تيار يختلف من مدينة لمدينة.
وتكمن الخطورة هنا في ناحيتين:
فمن ناحية وبدلا من وجود مذاهب أربعة، معتبرة تحترم كلها، وجدنا عشرات المذاهب تحتل محلها، فكل تيار منهم يرجح حسب هواه، وما وصل إليه من معرفة قليلة، ومن يخالفهم فهو مبتدع منحرف، ومن يناقشهم في الغالب يتم سبه وشتمه، وإذا واجهتهم بمخالفة شاذة صريحة جادلوك فيها، أو ادعوا أنها مدسوسة على شيوخهم.
كما أن الفتاوى أو الترجيحات المزعومة لا تقوم على منهجية علمية، بل هي ممن لا يتقنون الأصول وقواعد الاستدلال، فضلا عن الترجيح.
وكل ذلك من شأنه تدمير التراث العلمي، من مذاهب فقهية منضبطة، وقواعد فقهية محكمة، وما تركه علم أصول الفقه من قواعد أصولية وضوابط حاكمة لعملية الاستدلال، فظهرت لنا أقوال وفتاوى مفككة مشوهة، لا تقوم على منهجية ولا ضوابط ولا معايير منضبطة ثابتة، بل تقوم على فهم سطحي للنصوص، واهتمام بالشكل الظاهري فقط، على حساب الفهم والمضمون، وكثير منها يخالف إجماع المذاهب، والحجة: اتباع فقه الدليل، ولكن الدليل المزعوم هذا يحتاج لمجتهد كي يستنبط الحكم منه، فهل وصل الذي يفتي أصلا إلى مرتبة المجتهد الذي يمسك بزمام الأصول والضوابط، ثم ألمّ باستدلالات كل مذهب، حتى يستطيع الاستدلال أو الترجيح؟ بل وصل الأمر أن بعضهم اتهم الأزهر، واعتبر علم الأصول لا فائدة منه! واتهمه البعض الآخر بالبدعة!
المسألة الثانية- إنكار الأشاعرة والماتريدية وإخراجهم من أهل السنة:
يعتبر السلفية الوهابية الأشاعرة والماتريدية من الفرق المنحرفة، وليسوا من أهل السنة والجماعة، بل وصل الأمر إلى التشنيع عليهم، وفي هذا التشنيع جريمة نكراء، لأن الغالبية الساحقة من علماء أهل السنة في كل التخصصات والعلوم – في علوم الفقه والأصول وعلوم الحديث والعقيدة والكلام والتفسير وعلومه والقراءات واللغة وغيرها من علوم عملية وعقلية – فما هم إلا أشاعرة وماتريدية، وهم الذين دافعوا عن أهل السنة في العقيدة، ونافحوا عنها أمام فرق المجسمة والمعتزلة والشيعة وغيرهم، ووقفوا لأصحاب الديانات الأخرى – الوضعية منها وذات الأصل السماوي – وأسسوا علم مقارنة الأديان، للرد عليهم، وصد هجماتهم وشبهاتهم.
وتكمن الخطورة هنا في ناحيتين:
فمن ناحية هم بقولهم هذا ينسفون التراث العلمي لأهل السنة، لأن إنكار الأشاعرة والماتريدية وإخراجهم من أهل السنة يؤدي ضرورة إلى إنكار مؤلفاتهم ورفضها، مما سينتج عنه عدم وجود مؤلفات – في أي علم – تعبر عن أهل السنة إلا عدد قليل جدا.
ومن ناحية أخرى فالتشنيع على العلماء الأشاعرة والماتريدية وتشويه صورتهم، نتج عنه ثقافة عامة بينهم، وهي عدم احترام العلماء وما تركوه من تراث علمي ضخم، بل وأجازوا التطاول عليهم، بل وأقحموا العوام في مسائل علمية دقيقة لا يفهمونها، لأن محلها قاعة الدرس، فانتشرت هذه الثقافة القبيحة بين العوام.
وجدير بالذكر أن آراءهم التكفيرية موجودة مثبتة في فتاواهم على اليوتيوب، وعلى مواقعهم، وفي كتبهم، فبالإضافة لاتهام الأشاعرة والماتريدية عامة بالانحراف والبدعة أو الكفر، نجد اتهامات المُعين، وعلى سبيل المثال: تكفير أبي حنيفة، أو اعتباره من المرجئة المنحرفين، وتكفير الرازي، وابن سينا، وتبديع الغزالي، وتكفير أو تبديع النووي وابن حجر والسيوطي والدردير – وغيرهم كثير – وصولا إلى الشيخ الشعراوي وعبد الحليم محمود وعلماء الأزهر عامة، حتى وصل الأمر إلى فتوى بطلان الصلاة وراء الشيخ الأزهري، وتحريم دخول المساجد التي إمامها أزهري.
وأخيرا: فما تقدمه السلفية الوهابية يمكن اعتباره الجناح الآخر للعلمانية، حتى ولو كان عن جهل، أو وعن غير قصد، فهما يشتركان في ثلاثة أمور كبرى:
تدمير التراث، والقضاء على المنهجية، وتشويه العلماء.
بل يمكن اعتباره أشد خطورة، لأنهم يتقنعون بالشرع الشريف، ويلتحفون بلباس الدين، ويقدمون أنفسهم على أنهم هم فقط أهل السنة والجماعة، وما عداهم منحرف مبتدع إن لم يكن كافرا.