خطبة بعنوان: “الحياء خير كله” للشيخ عادل عبدالكريم توني

موضوع خطبة الجمعة القادمة :

الجمعة 27 من جمــادى الأول 1446هـ

الموافق 29 من نوفمـــــــبـر 2024م

تحت عنوان: “الحياء خير كله”

 إعداد  الشيخ /  عادل عبدالكريم توني إبراهيم

إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف

عناصر الخطبة :

١- دعوة الإسلام إلي مكارم الأخلاق .

٢- معنى خُلُق الحياء و فضائله وثمراته .

٣- أنواع وصور ونماذج للحياء .

٤- مظاهر ذهاب خُلُق الحياء .

***

الخطبة الأولى:

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علمًا، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو بكل لسان محمود.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الإله المعبود، صاحب الكرم والعطاء والجود، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

(١)- فإن من أهم مقاصد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ففي مسند الإمام أحمد بسند صحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ”،

وحُسْن الخلق والإيمان متلازمان؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا” (رواه أبو داود في سننه بسند صحيح)؛ فالإيمان -يا عباد الله- يَعْظُم ويَكْمُل بِحُسْن الأخلاق وكمالها .

وحُسْن الخلق يثقِّل الموازين، ويزيد في إيمان العبد حتى يصل إلى مراتب الكمال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن” أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وهو سببٌ للقرب من الله تعالى، ونَيْل محبته؛ فعن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن أحبكم إلى الله وأقربكم منِّي أحاسنكم أخلاقاً…” أخرجه أحمد وصححه ابن حبان.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: “أحبُّ الناس إلى الله أحسنُهم خلقاً” أخرجه أحمد.

ومن أقوى الأسباب التي تُدخل الجنة، فقد سئل النبي -عليه الصلاة والسلام-: ما أكثر ما يُدخلُ الناس الجنة؟ فقال: “تقوى الله، وحسنُ الخلق”. قيل: فما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: “الجوفان: الفم والفرج” صححه الترمذي والحاكم وابن حبان.

وروى أبو أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا زعيم ببيت في ربَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه”

أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه .

***

(٢)- ومن الأخلاق الفاضلة التي قُرِنَتْ بالإيمان خُلُق الحياء، وقد عرف العلماء الحياء بتعريفات

فقال ابن القيم: “الْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ، وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ”.

وقَالَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: “الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ، وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ”.

وقال الجرجانيُّ رحمه الله-: “هو انقباض النَّفْس مِن شيءٍ وتركه؛ حذرًا عن اللَّوم فيه”،

وقال ابن حجر رحمه الله: “الحَياء خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التَّقصير في حقِّ ذي الحقِّ”.

وعرفه بعضهم تعريفا جامعا فقال: “هو خلق يحمل صاحبه على فعل الجميل وترك القبيح”..

– الحياء خُلُق الإسلام؛ فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ))؛ [رواه ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].

والحياء شُعبة من شعب الإيمان؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)).

بل هو قرين الإيمان فإذا رُفِعَ الحياء عن الإنسان نقص من إيمانه بقدر ذلك، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ”،

وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: “مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ”، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ)).

– والحياء مِفتاح لكلِّ خير؛ فما كان الحياء في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه، هو شعار الصالحين، ودثار المتقين، ودليل عقل وخلق ودين، وهو في الدنيا طريق خير وصلاح، وفي الآخرة سبيل سعادة وفلاح ، وهو أبهى زينةً يتزيَّن بها المؤمن؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه))؛ [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب].

وفي الصحيحين عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ))، وفي رواية: ((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)).

قال ابن القيم -رحمه الله-: “الحياء أصل لكل خير، وهو أفضل وأَجَلّ الأخلاق، وأعظمها قَدْرًا، وأكثرها نفعًا، ولولا هذا الخلق لم يُوفَ بالوعد، ولم تُؤَدَّ الأمانةُ، ولم تُقْضَ لأحد حاجة، ولا تحرَّى الرجل الجميل فآثره، والقبيح فتجنبه، ولا سُتِرَ له عورة، ولا امتنع عن فاحشة، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤدّ شيئا من الأمور المفتَرَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حقًّا، ولم يَصِلْ له رَحِمًا، ولا بر له والدا” انتهى كلامه -رحمه الله-.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياء منهج حياة، وضابطا للإنسان يضبط به أعماله وأفعاله؛ فعَنْ أبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت)[الْبُخَارِيُّ].

وفيه معان عديدة، منها:

والمعنى: أنَّ الرَّادع عن القبيح إنَّما هو الحياء، وبغياب الحياء تُدمَّر الأخلاق، وترتكب الفواحش والموبقات، فمَن لم يستحِ فإنَّه يصنع ما شاء.

فمن نزع منه الحياء لم يبال بما يفعل، حلالا أم حراما، كريما أو خبيثا، صالحا أو طالحا، لأنه لا حياء عنده من الله ولا اعتبار للناس في نظره. فهو جرئ على القبائح، مقبل على النقائص.

– وقيل هو من باب التهديد، أي يا قليل الحياء افعل ما شئت فسوف تجازى به، مثل قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير}.

يروى عن عمر رضي الله عنه: “من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه”.

إذا لم تخـشَ عاقبة الليالي ***

ولم تستحِ فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير ***

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير ***

ويبقى العود ما بقي اللحاء

– ومن فضائل الحياء أنه صفةٌ من صفات الله تعالى التي تليق بجلاله؛ عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))؛ [رواه الترمذي والبيهقي، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع]، قال ابن القيم رحمه الله: “وأمَّا حياء الربِّ تعالى من عبده، فذاك نوعٌ آخر، لا تُدرِكه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول، فإنَّه حياء كرم وبرٍّ وجود وجلال”.

– والحياء خُلُق يحبُّه الله تعالى؛ عن أشج عبد القيس رضي الله عنه قال: قال لي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ)) قُلتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الحِلمُ وَالحَيَاءُ))؛ [صحَّحه الألباني في صحيح الأدب المفرد].

وَعَن يَعلَى بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم رَأَى رَجُلًا يَغتَسِلُ بِالبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثنَى عَلَيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسَّترَ، فَإِذَا اغتَسَلَ أَحَدُكُم فَليَستَتِر)).

– والحياء يقود إلى الجنَّة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياءُ من الإيمان، والإيمانُ في الجنَّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار))؛ [رواه التِّرمذي، وابن ماجه، وصحَّحه الألباني].

***

(٣)- أنواع وصور الحياء :

قال الماوردي في أدب الدنيا والدين : واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: حياؤه من الله تعالى، والثاني: حياؤه من الناس، والثالث: حياؤه من نفسه.

– فأما حياؤه من الله تعالى فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره، وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا مِن الله حقَّ الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء). وهذا الحياء يكون من قوة الدين وصحة اليقين .

قال ابن رجب: “يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج”.[جامع العلوم والحكم:464].

وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام رجلا من المسلمين فقال: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلا صالحا من قومك) [وراه الترمذي بسند حسن].

– وأما حياؤه من الناس فيكون بكف الأذى وترك المجاهرة بالقبيح …. وهذا النوع من الحياء قد يكون من كمال المروءة وحب الثناء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ـ يعني ـ والله أعلم ـ لقلة مروءته, وظهور شهوته …. وقال بعض الشعراء:

ورب قبيحة ما حال بيني *

وبين ركوبها إلا الحياء

إذا رزق الفتى وجها وقاحا *

تقلب في الأمور كما يشاء

وقال آخر:

إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا *

وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع.

– وأما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات، قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك، وقال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر،

ودعا قوم رجلا كان يألف عشرتهم, فلم يجبهم, وقال: إني دخلت البارحة في الأربعين وأنا أستحي من سني،

وقال بعض الشعراء:

فسري كإعلاني وتلك خليقتي *

وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري

وهذا النوع من الحياء قد يكون من فضيلة النفس وحسن السريرة، فمتى كمل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة فقد كملت فيه أسباب الخير, وانتفت عنه أسباب الشر, وصار بالفضل مشهورا, وبالجميل مذكورا،

وقال بعض الشعراء:

وإني ليثنيني عن الجهل والخنى *

وعن شتم ذي القربى خلائق أربع

حياء وإسلام وتقوى وطاعة *

لربي ومثلي من يضر وينفع

وإن أخل بأحد وجوه الحياء لحقه من النقص بإخلاله بقدر ما كان يلحقه من الفضل بكماله، وقد قال الرياشي: يقال إن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ كان يتمثل بهذا الشعر:

وحاجة دون أخرى قد سنحت لها *

جعلتها للتي أخفيت عنوانا

إني كأني أرى من لا حياء له *

ولا أمانة وسط القوم عريانا. .

ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في مدارج السالكين قسم فيه الحياء على عشرة أوجه: حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حشمة، وحياء استصغار للنفس واحتقار لها، وحياء محبة، وحياء عبودية، وحياء شرف وعزة، وحياء المستحيي من نفسه،

– والحياء خُلُق الأنبياء، والملائكة الأصفياء:

فقد اتصف به موسى عليه السلام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ))؛ [رواه البخاري].

– وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم المَثَل الأعلى في الحياء؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ”.

قال النووي رحمه الله : “معناه أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتكلم بالشيء الذي يكره لحيائه، بل يتغير وجهه، فنفهم كراهيته، وفيه فضيلة الحياء”.

وعن عائشة رضي الله عنها: (أنَّ امْرَأَةً من الأنصار جاءت تسأل النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن غُسْلِهَا مِنَ المَحِيضِ، فأمَرَهَا كيفَ تَغْتَسِلُ، قالَ: خُذِي فِرْصَةً مِن مَسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بهَا، قالَتْ: كيفَ أتَطَهَّرُ؟ قالَ: تَطَهَّرِي بهَا، قالَتْ: كيفَ؟ قالَت عائشة: فاسْتَحْيا، فأعْرَضَ بوَجْهِهِ، وقال: سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِي. قالت عائشة: فَاجْتَبَذْتُهَا إلَيَّ، فَقُلتُ: تَتَبَّعِي بهَا أثَرَ الدَّمِ)(رواهما البخاري).

وقد تعلم الصحابة رضوان الله عليهم من نبيهم الحياء حتى بلغ بعثمان الحياء مبلغا جعل الملائكة تستحيي منه من شدة حيائه، وحتى قال عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه: (ألا أسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلائِكَةُ) [أخرجه مسلم].

أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

*********************

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي سبَّحت الكائنات بحمده، وعنَت الوجوهُ لعظمته ومجده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

(٤)- مظاهر وصور ذهاب الحياء :

ذكر ابن عبد البر في الاستذكار أثراً موقوفاً على سلمان رضي الله عنه أنه قال: ( إذا أراد الله بعبد شراً أو هلكة نزع منه الحياء فلم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، وإذا كان كذلك منعت منه الرحمة فلم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان كذلك نزعت ربقة الإسلام من عنقه، فكان لعيناً ملعوناً)

– فمن صور ذهاب الحياء: المجاهرة بالذُّنوب والمعاصي وعدم الخوف من الله تعالى:

فلما غاب الحياء من الله عند كثير من النَّاس، تجرؤوا على محارم الله؛ ففي الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)).

– ومن صور ذهاب الحياء: إفشاء أسرار الزوجية؛ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الرجال فقال : ” هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله ؟ قالوا : نعم ، قال : ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلتُ كذا ، فعلتُ كذا ؟ قال : فسكتوا ، قال : فأقبل على النساء ، فقال : هل منكن من تحدث ؟ فسكتنَ ، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها فقالت : يا رسول الله إنهم ليتحدثون ، وإنهن ليتحدثنه ، فقال : هل تدرون ما مثل ذلك ؟ فقال : إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيتْ شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه “.

رواه أبو داود

– ومن صور ذهاب الحياء : الفُحْشُ في الكلام؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)).

– ومن صور ذهاب الحياء: كشف العورات أمام الناس ، ومن ذلك : ما يلبسه بعض الشباب من السراويل القصيرة إلي أنصاف الفخذين، والملابس الضيقة؛ عن بَهْزِ بن حَكيم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: ((احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ))، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ القَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: ((إِنْ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا تُرِيَنَّهَا))، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: ((فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ))؛ [رواه الترمذي].

– ومن صور ذهاب الحياء: تشبُّه النساء بالرجال، وتشبُّه الرجال بالنساء:

وهذا فعل مستقبح تأباه الفطرة السليمة والذوق والحياء، وقد حرَّمه الشرع ونهى عنه.

ومنها : لبس الملابس الضيقة اللاصقة، أو الملابس المُخرَّقة والمفتَّحة من الأعلى والأسفل حتى وصلت إلى حدود العورات المغلظة.

– ومن صور ذهاب الحياء: تَبَرُّج النِّساء وخروجهنَّ كاسيات عاريات ، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يكون في آخر أمَّتي رجالٌ يركبون على سروج كأشباه الرِّحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهنَّ كأسْنِمة البُخْت العِجاف، ألعنوهن فإنَّهنَّ ملعوناتٌ، لو كان وراءكم أمَّة من الأمم خدمتهنَّ نساؤكم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم)), [أخرجه أحمد، وابن حبان ]

ومنها : التبوُّل والتغوُّط في الطُّرُقات أمام أعين النَّاس بلا حياء؛ عَن يَعلَى بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم رَأَى رَجُلًا يَغتَسِلُ بِالبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثنَى عَلَيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسَّترَ، فَإِذَا اغتَسَلَ أَحَدُكُم فَليَستَتِر)).

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ)) قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ في ظِلِّهِمْ)).

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها ، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، واحمِ حوزَةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلادِ المُسلمين.

اللهم انصر إخواننا في غزة وفلسطين وجميع بلاد المسلمين ، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً, اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً, اللهم عجّل فَرَجَهُم, وارفعِ البلاء, واكشفِ الغُمَّةَ عنهم.

اللهم مُنزلَ الكتاب, مُجري السحاب, هازمَ الأحزاب, اهزمْ عدوهم, اللهم اهزمهُم وزلزلهُم, اللهم إنا ندرأُ بك في نحورِهِم, ونعوذ بك من شرورِهِم, اللهم عليك بهم…

اللهم انصُر عبادك المستضعفين في كل مكان.

اللهم أنجِ عبادك المستضعفين في فلسطين، اللهم كنْ لهم وليًّا وظهيرًا ومعينًا ونصيرًا.

اللهم أمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأعذنا من الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن.

اللهم يا حيُّ يا قيُّوم برحمتِك نستَغيث، أصلِح لنا شأنَنا كلَّه، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مباركًا مرحومًا، وتفرَّقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ربنا لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا طالبًا أمرًا من أمور الخير إلا سهَّلته له ويسرته.

اللهم تقبَّل توبتنا واغسِل حوبتنا، وأجِب دعوتنا، وثبِّت حجتنا، واهدِ قلوبنا، وسدِّد ألسنتنا، واسلُل سخيمةَ قلوبنا.

اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث.

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان،

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان، برحمتك يا أرحم الراحمين .

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.