إعداد الشيخ /أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
٢٧ /جمادى الأول / ١٤٤٦ه – ٢٩/ نوفمبر ٢٠٢٤
عناصر الخطبة
١- معنى الحياء
٢- فضائل خُلُق الحياء
٣- من صور ذهاب الحياء
٤- نماذج من الحياء
المقدمة
———
الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل والإحسان، جعَل الحياءَ شُعْبَةً من شُعَب الإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجانّ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين بإحسان.
أما بعد: معاشر المؤمنين: اتقوا الله -تعالى- واستحيوا منه حقَّ الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم، يسمع سبحانه ويرى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102].
معنى الحياء
————–
معنى الحَيَاء الحشمة، وهي ضد الوقاحة.
• ومعنى الحَيَاء كما قال ابن حجر رحمه الله: “الحَياء خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التَّقصير في حقِّ ذي الحقِّ”.
فضائل خُلُق الحياء:
————————-
1- حُسْن الخلق يثقِّل الموازين، ويزيد في إيمان العبد حتى يصل إلى مراتب الكمال، ومن الأخلاق الفاضلة التي قُرِنَتْ بالإيمان خُلُق الحياء، فإذا رُفِعَ الحياء عن الإنسان نقص من إيمانه بقدر ذلك، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ”، وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- مزيةَ للحياء على سائر الأخلاق فقال: “إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ” (رواه ابن ماجه بسند حَسَن).
2- وفوق ذلك الحياء صفةٌ من صفات الله تعالى التي تليق بجلاله؛ عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ))؛ [رواه الترمذي ]
قال ابن القيم رحمه الله: “وأمَّا حياء الربِّ تعالى من عبده، فذاك نوعٌ آخر، لا تُدرِكه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول، فإنَّه حياء كرم وبرٍّ وجود وجلال”.
=فإنه -سبحانه- حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صِفْرًا خائبتين، ويستحيي أن يعذِّب ذا شيبة شابت في الإسلام، وفي الأثر يقول الرب -جل جلاله-: “مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي؛ يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي”.
3- والحياء شريعة جميع الأنبياء، فهو مما توارثوه عليهم السَّلام؛ ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدري رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))
والمعنى: أنَّ الرَّادع عن القبيح إنَّما هو الحياء، وبغياب الحياء تُدمَّر الأخلاق، وترتكب الفواحش والموبقات، فمَن لم يستحِ فإنَّه يصنع ما شاء.
4- والحياء من الأخلاق التي كانت تُعرَف في الجاهلية؛ ففي صحيح البخاري في قصة أبي سفيان رضي الله عنه، وعندما كان على الإشراك مع هرقل: عندما سأله أسئلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى الكلام بينهما قال أبو سفيان مقولته الشهيرة: “فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ”.
5- والحياء خُلُق الأنبياء، والملائكة الأصفياء:
فقد اتصف به موسى عليه السلام؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ))؛ [رواه البخاري].
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم المَثَل الأعلى في الحياء؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ”.
=وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا؟ قَالَ: فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ. ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ تَتَطَهَّرُ بِهَا. قَالَتْ الْمَرْأَةُ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ فاستحيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعرض بوجهه وقال: “تَطَهَّرِي بِهَا سُبْحَانَ اللهِ” قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فأخذتُها فَجَذَبْتُهَا فأخبرتها بما يريد النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-“.
=وكان -صلى الله عليه وسلم- يتحرج بأن يُشْعِرَ زوارَه والمستأنسينَ بمجلسه بأنهم قد طال جلوسُهم عنده وحديثهم في بيته، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) [الْأَحْزَابِ: 53].
=فلذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- وأرضاهم يعزِّزُونَ في نفوس أبنائهم خُلُقَ الحياء ويربونهم عليه كما رباهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان غلاما في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: “إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟” قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “هِيَ النَّخْلَةُ”. (رواه البخاري ومسلم).
=واتَّصَف به الملائكة الكِرام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في عثمان رضي الله عنه: ((أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟))؛ [رواه مسلم].
6- والحياء شُعبة من شعب الإيمان؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)).
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: “مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ”، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((دَعْهُ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الحياء والإيمان قرنا جميعًا فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر))؛ [ مشكاة المصابيح].
7- والحياء مِفتاح لكلِّ خير؛ ففي الصحيحين عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ))، وفي رواية: ((الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ)).
8- والحياء أبهى زينةً يتزيَّن بها المؤمن؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه))؛ [صحَّحه الألباني في صحيح التَّرغيب].
9- والحياء خُلُق يحبُّه الله تعالى؛ عن أشج عبد القيس رضي الله عنه قال: قال لي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ)) قُلتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الحِلمُ وَالحَيَاءُ))؛ [ الأدب المفرد].
وَعَن يَعلَى بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم رَأَى رَجُلًا يَغتَسِلُ بِالبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثنَى عَلَيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسَّترَ، فَإِذَا اغتَسَلَ أَحَدُكُم فَليَستَتِر)).
10- والحياء يقود إلى الجنَّة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياءُ من الإيمان، والإيمانُ في الجنَّة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار))؛ [رواه التِّرمذي].
من صور ذهاب الحياء
————————–
1- فمن صور ذهاب الحياء: المجاهرة بالذُّنوب والمعاصي وعدم الخوف من الله تعالى:
فلما غاب الحياء من الله عند كثير من النَّاس، تجرؤوا على محارم الله؛ ففي الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)).
2- ومن صور ذهاب الحياء: إفشاء أسرار الزوجية؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ مِنْكُمُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَاسْتَتَرَ بِسِتْرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلْتُ كَذَا؟)) فَسَكَتُوا، فَأَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: ((هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ؟)) فَسَكَتْنَ، فقالت امرأةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَتَحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُنَّ لَيَتَحَدَّثْنَه، فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ ذَلِكَ؟))، فَقَالَ: ((إِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانَةٍ لَقِيَتْ شَيْطَانًا فِي السِّكَّةِ، فَقَضَى مِنْهَا حَاجَتَهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ))؛ [رواه أبو داود].
3- ومن صور ذهاب الحياء: الفُحْشُ في الكلام؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)).
4- ومن صور ذهاب الحياء: كشف العورات أمام الناس.
فمن صورها: ما يلبسه بعض شباب المسلمين من السراويل القصيرة إلىأنصاف الفخذين، والملابس الضيقة؛ عن بَهْزِ بن حَكيم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: ((احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ))، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ القَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: ((إِنْ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا تُرِيَنَّهَا))، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: ((فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ))؛ [رواه الترمذي].
5- ومن صور ذهاب الحياء: تشبُّه النساء بالرجال، وتشبُّه الرجال بالنساء:
وهذا فعل مستقبح تأباه الفطرة السليمة والذوق والحياء، وقد حرَّمه الشرع ونهى عنه.
ومن صورها: لبس الملابس الضيقة اللاصقة، أو الملابس المُخرَّقة والمفتَّحة من الأعلى والأسفل حتى وصلت إلى حدود العورات المغلظة.
6- ومن صور ذهاب الحياء: تَبَرُّج النِّساء وخروجهنَّ كاسيات عاريات.
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يكون في آخر أمَّتي رجالٌ يركبون على سروج كأشباه الرِّحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهنَّ كأسْنِمة البُخْت العِجاف، ألعنوهن فإنَّهنَّ ملعوناتٌ، لو كان وراءكم أمَّة من الأمم خدمتهنَّ نساؤكم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم))؛ [حسَّنه الألباني في صحيح التَّرغيب].
7- ومنها: كثرة خروج المرأة من البيت؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إِنَّ المَرْأَةَ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنْ وَجْهِ رَبِّهَا، وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا))؛ [رواه ابن خزيمة، وصحَّحه الألباني].
وقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ))؛ أَيْ: زَيَّنَهَا فِي نَظَرِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ: أَي: نَظَرَ إِلَيْهَا، لِيُغْوِيَهَا وَيُغْوِيَ بِهَا.
8- ومنها: خروج المرأة مُتَعَطِّرَةً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا، فَهِيَ زَانِيَةٌ))؛ [صحيح الترغيب والترهيب].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ لامْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِـهَذَا المَسْجِدِ، حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ غُسْلَهَا مِنَ الجَنَابَةِ))؛ أَي: كَغُسْلِهَا مِنَ الجَنَابَةِ؛ [ سنن أبي داود].
هَذَا حُكمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فِيمَن خَرَجَت إلى المَسجِدِ مُتَعَطِّرَةً، فَمَا ظنُّك بِمَن تَخرُجُ إلى عُرسٍ وَنَحوِهِ مُتَعَطِّرَةً؟!
فالمسلم الصادق -يا عباد الله- يستحيي مِنْ نَظَرِ الخالقِ إليه؛ فلا يتأخر في الطاعة ولا ينسى شكرَ نعمة، ولا يراه حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره؛ فالله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- أحقّ أن يُستحيا منه؛ ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه؛ ففي معجم الطبراني أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَوْصِنِي. قَالَ: أُوصِيَك أَنْ تَسْتَحْيِيَ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي رَجُلًا صَالِحًا مِنْ قَوْمِكَ”، وفي جامع الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ” . قَالُوا: إِنَّا لَنَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: “لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ” فبيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم أمورا أربعة فيها جِمَاع الخير كله: أن تحفظ الرأس وما وعى، فلا تسجد لغير الله ولا ترفع هذا الرأس تكبرا على خَلْق الله.
=ويدخل في ذلك حفظ السمع والبصر واللسان مما حرم الواحد الديان: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الْإِسْرَاءِ: 36]، وأن تحفظ البطن عن أكل الحرام وما اتصل به من القلب واليدين والفرج والرجلين؛ ففي صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ”، وكلما كان القلب مليئا بالحياء من الله بعثه حياؤه على حفظ رأسه وبطنه عما حرم الله -تعالى-، ثم ذكر -صلى الله عليه وسلم- أمرين عظيمين فقال: “وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا” فمن تذكر أنه سيموت ويبلى وسيقف بين يدي الله -جل وعلا- وأن الله سيحاسبه يوم القيامة على ما قدَّم في هذه الحياة الدنيا استحيا من الله حقَّ الحياء من أن يلقاه يوم القيامة بأعمال سيئة مشينة.
=حضَر الموتُ أحدَ التابعين فأخذ يبكي بكاء شديدا، فلما عوتب في ذلك قال: “والله لو أُتِيتُ بالمغفرة من الله -عز وجل- لأهمَّني الحياءُ منه مما قد صنعتُ؛ إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييا منه”.
نماذج من الحياء:
——————–
1- فقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق؛ كما قال الله تعالى عنها: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].
فهذه الآية تدل على حياء تلك المرأة من وجهين:
الأول: جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل، ولا تبجح، ولا إغواء.
الثاني: كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام؛ إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه.
2- ومن النماذج أيضًا: حياء الصدِّيقة بنت الصدِّيق عائشة رضي الله عنهما؛ روى الإمام أحمد والحاكم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: “كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي، فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ”.
3- لِما لا وقد تربَّت في بيت العفاف، والطُّهر، والحياء؛ فهذا أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه يخطبُ النَّاس يومًا، فقال: “يا معشر المسلمين، استحيوا مِن الله، فو الذي نفسي بيده، إنِّي لأَظَلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنِّعًا بثوبي استحياءً مِن ربِّي عزَّ وجلَّ”.
4- وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: ((يغسل ذكَرَه)).
5- وهذا نموذج رائع للحياء؛ ففي الصحيحين عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتكَشَّفُ، فَادْعُ الله لِي، قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ، صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ الله أَنْ يُعَافِيكِ)). فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتكَشَّفُ: فَادْعُ الله أَلَّا أَتكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا”.
6- وهذا نموذج آخر للحياء؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ جرَّ ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، فقالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها: “فكيف يصنعن النِّساء بذيولهنَّ؟” قال: ((يرخين شبرًا))، فقالت: “إذًا تنكشف أقدامهنَّ”، قال: ((يُرخينه ذراعًا، لا يزدن عليه))؛ [رواه التِّرمذي،].
7- ومما ورد في الحياء من رسول الله ما قد ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: “لما بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنتُ أشدَّ الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتُ عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعتُه بما أُريدُ حتى لحق بالله عز وجل حياءً منه”؛ [أخرجه أحمد].
نسأل الله العظيم أن يهديناإلى أحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيِّئَها.