بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا
أستاذ الفقة المقارن – ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقا
إني لأنظر حولي في عجب، وأرى أن الاعتزال في هذه الأيام أروح لنفس المؤمن، والخلوة نعم الجلسة مع كتاب الله تعالى أو مع فكرة في خلقه وإبداع صنعه جـل جلاله، أما التأمل في حال الناس اليوم فإنه يرد البال كسيفا حسيرا، ويجعل المرء متحسرا على ما وصل إليه حال المسلمين، إنهم يتقنون مخالفة أوامر الله تعالى، ويقلبون سنن الله في أرضه، وسيطر عليهم الشيطان سيطرة تامة، فلا تكاد تجد تعلقا إلا بالقشور، ولا تمسكا إلا بالمظاهر، أما صحيح الدين والعلم فقلما تجد مقدما عليه متمسكا به.
لقد أفزعني مظهر من هذه المظاهر التي أصبحت حال حياة، وهو السهر في المقاهي والمتنزهات، والمطاعم والمحلات حتى مطلع الفجر، ثم الخمود والهمود والخلود إلى النوم دون صلاة، وليتهم يسهرون في تنقيح علوم، أو زيادة معرفة، أو خلوة مع الله تعالى، ولكنه فسق وفجور وإضاعة وقت فيما لا ينفع، بل فيما يرجع بضرره على الدين والصحة.
لقد اعتاد الناس قديما أن يخلدوا إلى النوم بعد صلاة العشاء، وكانت هذه حالة عامة، فمتى سمعت صوت أحد ليلا علمت أنه أمر طارئ، ومن هنا كانت البركة تحل البيوت، إنهم يربطون أوقاتهم وأبدانهم بأوقات الصلوات، فينامون بعد آخر صلاة، ويستيقظون مع أول صلاة، فينامون بعد العشاء، ويستيقظون مع طلوع الفجر أو قبله ليقوموا جزء من الليل، فكانت البركة في صحتهم وأموالهم وأوقاتهم.
انظر إلى الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون)، إن الحديث هنا وإن استدل به العلماء على أن خفق الرؤوس وهو أول النوم لا ينقض الوضوء، لكنه من جهة المعنى يدل على أمر آخر، وهو أنهم ينامون عقب صلاة العشاء، وكانوا ينتظرون الصلاة حتى يخلدوا إلى نومهم، وتنال أجسامهم قسطها من الراحة، وكانوا يقيلون جزء من وسط النهار لإراحة أجسامهم مما بكرت إليه من العمل.
لقد عادت تلك البركة على أوقاتهم وأجسادهم، فكان الواحد منهم يقضي كل أموره في يوم واحد مع ضعف الوسائل، وكان طلاب العلم يشربونه شربا في لحظات البكور، ويحفظون كتاب الله تعالى، وينطلقون إلى علومهم مبكرين، فيكون الواحد منهم نشيط الذهن، صافي القلب والفكر، فيتعلم في يوم واحد ما يعجز عنه الطلاب حاليا في عام، فظهرت المؤلفات البديعة التي نعيش على علومها إلى يومنا هذا؟.
وعادت البركة في أجسادهم صحة وقوة، فما كنا نسمع عن أمراض تصيبهم، ولا هذه البلايا المنتشرة بين الناس، ولذا كان المرض حالة تذكر في كتب الفقه والسنة، لأن أجسادهم استيقظت، فتنفست من هواء الفجر العليل، ونسمة أواخر الليل البليل، وأشرقت مع إشراق نور الله، فأخذت حظها من البركة.
وفي الحديث عن صخر الغامدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها، قال: وكان إذا بعث سرية، أو جيشا بعثهم في أول النهار) وكان صخر -وهو راوي الحديث- رجلا تاجرا، فكان يبعث تجارته في أول النهار، فأثرى وكثر ماله حتى ضاق به أين يضعه.
وقد أدرك من بعدهم من السلف الأول نعمة التبكير، ونعمة البركة في البكور، فكانوا ينبعثون إلى العلم والتجارة والعمل أول النهار وبعد صلاة الفجر، لأن الذهن فيه أصفى وأرق، والقلب خال ومستعد لتلقي العلوم، والاجتهاد والابتكار في العمل، علاوة على ما فيه من بكور بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا لأمته بالبركة في البكور.
وهم ما فعلوا ذلك إلا اتباعا لسنة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (باكروا طلب الرزق والحوائج، فإن الغدو بركة ونجاح).
وعن فاطمة رضي الله عنها بنت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قالت: (مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجعة متصبحة، فحركني برجله، ثم قال: يا بنية، قومي اشهدي رزق ربك، ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس).
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نوم الصبحة يمنع الرزق).
وفي الحديث : اطلبوا العلم كل اثنين وخميس، فإنه ميسر لمن طلبه، وإذا أراد أحدكم حاجة فليبكر إليها، فإن البركات في البكور.