شذرات من تاريخ الجامع الأقمر

بقلم د / عمر محمد الشريف

في شارع المعز لدين الله يقف الجامع الأقمر شامخاً بتاريخه وبهائه شاهداً على حضارة الإسلام، يبهر العيون بأحجاره وزخارفه المنحوتة ببراعة. يعود بنائه لسنة 519هـ، حيث بناه الوزير المأمون البطائحي بأمر من الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله. وتعد الواجهة الرئيسية للجامع واحدة من أقدم الواجهات الحجرية الباقية بمصر، وقد اُهتم ببنائها وزخرفتها بدخلات من عقود مشعة وعبارات شيعية أهمها تكرار كلمتي “محمد وعلي”. و “لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله”. دوّن على واجهة الجامع تاريخ إنشائه بخط كوفي كبير، نصه:
“بسم الله الرحمن الرحيم مما أمر بعمله فتى مولانا وسيدنا الإمام الآمر بأحكام الله ابن الإمام المستعلي بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وعلى آبائهما الظاهرين وأبنائهما الأكرمين تقربا إلى الله الملك الجواد آمين – اللهم انصر جيوش الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين على كافة المشركين – السيد الأجل المأمون أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين وأدام قدرته وأعلى كلمته في سنة تسع عشرة وخمسمائة لإقامة البرهان”.

أنشئ الأقمر ليكون من المساجد الجامعة بجانب الجامع الأزهر وجامع الحاكم. وقد نقل المقريزي أن ابن الطوير ذکر جلوس الخليفة الفاطمي في الموالد الستة، ومن مراسم هذا الجلوس أن يخطب خطباء المساجد الجامعة فيقدم خطيب الجامع الحاكم فيخطب كما يخطب فوق المنبر إلى أن يصل إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول أن هذا يوم مولده إلى من منّ الله به على ملة الإسلام من رسالته ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر ويقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك والقراء في خلال خطابة الخطباء يقرأون.

وذكر ابن واصل الحموي أن الخليفة الآمر بأحكام الله كان يخطب في الجامع الأقمر بنفسه. وبهذا الجامع تحصن الوزير رضوان بن ولخشي وزير الخليفة الحافظ لدين الله حتى قتل فيه. تولى رضوان الوزارة من سنة 531هـ حتى سنة 533هـ حين دب الخلاف بينه وبين الخليفة الحافظ، فقرر الخليفة الإطاحة به، ليهرب الوزير إلى الشام، وبعد عودته إلى مصر اعتقله الخليفة في القصر مدة تجاوزت الثماني سنوات، ثم نجح في الفرار وتجمع حوله عدة من الجنود وعرب لواتة وتمكن من دخول القاهرة ونزل بالجامع الأقمر يوم الجمعة 26 من ذي القعدة سنة 542هـ، وفي النهاية قتل على يد جنود الخليفة.

الوزير رضوان هو الذي أسس أول مدرسة في مصر لتدريس المذهب المالكي، في مدينة الإسكندرية سنة 533هـ،. واستدعى الفقيه أبي طاهر إسماعيل بن مكي بن عون (ت 581هـ)، شيخ المذهب المالكي، وأسند إليه التدريس في المدرسة التي عرفت بالمدرسة الحافظية نسبة للخليفة الحافظ. كما عرفت بالمدرسة العوفية نسبة لمدرسها الفقيه المالكي أبي الطاهر ابن عوف.

بعد زوال الدولة الفاطمية اهتم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بالجامع حيث رتب فيه درساً وفقيهاً ووقف عليه أوقافاً جليلة. ورغم أن الجامع من المنشآت الفاطمية إلا أنه تحول في العصر الأيوبي ثم المملوكي إلى جامع يعقد به كبار علماء أهل السنة والجماعة مجالسهم العلمية فيه بانتظام، محتفظاً بالعبارات الشيعية على جدرانه، دون أن يمسها أحد.

ومن علماء السنة الذين درسوا بالجامع: القاضي عماد الدين أبو عمرو عثمان الكردى الحميدىّ الشافعى (ت620هـ). ذكر المنذرى أنه درّس بالجامع الأقمر، وبالمدرسة السيفية بالقاهرة مدة.

والقاضي شمس الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد بن كثير الصنهاجي الفاسي (ت639هـ). قدم مصر فِي صباه وسكنها وتفقه على الشيخ شهاب الدين الطوسي، وَسمع هبة الله البوصيري وغيره. ولي قضاء قوص ودرس بالجامع الأقمر بالقاهرة.

وفي سنة 644هـ وقع الملك الصالح أيوب للعلامة القاضي جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله ابن واصل الحموي (ت697هـ) صاحب “مفرج الكروب في أخبار ملوك بني أيوب” بوظيفة التدريس بالجامع الأقمر، وكُتب التوقيع بإنشاء الصاحب فخر الدين بن لقمان الإسعردي. ذكر ابن واصل الحموي أن بعد وفاة الشيخ شمس الدين عثمان الصنهاجي الفاسي طلب التدريس بالجامع الأقمر جماعة من الأعيان فلم يسمح الملك الصالح أيوب بتولية أحد منهم، حتى قرر تعينه.

كما ذكر الصفدي أن الشيخ الإمام العلامة حجة العرب بهاء الدين أبو عبد الله بن النحاس النحوي (ت698هـ) شيخ العربية بالديار المصرية كان له تصدير بالجامع الأقمر. وذكر الرحالة محمد بن عمر بن رشيد الفهري السبتى في رحلته أن التقى بابن النحاس، وحضر مجلسه بالجامع الأقمر ووصف مجلسه قائلاً: “فألفيت جمعاً من صدور أهل العلم قد اجتمعوا بين يديه من شيوخ وكهول وشبان. وسمعت مآخذ ومذاكرة ومناظرة … فلما أراد القيام قام التلاميذ معه وأحدقوا به يقرؤون عليه في الطريق إلى منزله، ما بقي من دولهم. فدرسهم طول الطريق إلى أن وافى منزله، فدخل معه فريق وانفض فريق”.

كما تولى الإقراء بالجامع الأقمر تلميذ ابن النحاس، الإمام أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الأندلسي (ت745هـ). قال عنه الصفدي “إمام الدنيا في النحو والتصريف”. وقال الحافظ الذهبي: “مفخرة أهل مصر في وقتنا في العلم “.

ومن الذين درسوا علوم النحو بالجامع الشيخ شرف الدين أحمد بن عثمان بن عمر المجدلي المعروف بالسنجاري، المولود سنة 625هـ. قال عنه الإمام الشيخ أثير الدين أبو حيان: “كان إمام الجامع الأزهر بالقاهرة، متصدرا في النحو في جامع الأقمر”.

وعز الدين أبو حفص عمر بن أحمد المدلجي النشائي (ت٧١٦هـ) كان إمامًا بارعًا في الفقه والنحو والعلوم الحسابية، أصوليا محققا دينا متصوفًا يحبُّ السماعَ ويحضره، وكان متصدرا لإقراء النحو بالجامع الأقمر.

كما ذكر الصفدي أن جمال الدين محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم، القاضي الشافعي، المعروف بابن السقطيّ (ت707هـ) درّس بالجامع الأقمر، وتولى نيابة الحكم بمصر والجيزة والقاهرة والقليوبية.

وجمال الدين أحمد بن محمد بن سليمان الواسطي المعروف بالوجيزي لكونه كان يحفظ الوجيز للغزالي، كان إماماً حافظاً للفقه، ولد بأشمون الرمان سنة 643هـ، وتفقه بالقاهرة ونابَ في الحاكم بها، وأعاد بالظاهرية وجامع الأقمر، توفي بسكنه بجامع الأقمر سنة 727هـ.

كما تولى الحافظ الإمام قاضي القضاة عز الدين أبو عمر عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمدبن جماعة الكناني (ت767هـ) التدريس والنظارة بالجامع الأقمر، وأخذ عنه تلميذه الحافظ العراقي الذي حضر دروسه بالجامع.

وذكر تقي الدين الفاسي أن الشيخ فخر الدين عثمان بن محمد بن وجيه الشيشيني (ت799هـ)، سمع على المسند علي بن أحمد بن محمَّد العرضي الدِّمشقيّ (ت٧٦٤ هـ)، والمسند المكثر المعمر مظفر الدين محمد بن علاء الدين محمد بن يحيى بن عبد الكريم القرشي العسقلاني المصري النحاس، المعروف بابن العطار (ت761هـ)، “جامع الترمذي” بجامع الأقمر بالقاهرة. وقد أجاز الشيشيني شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني.

كما ذكر شيخ الإسلام ابن حجر أن شيخه إبراهيم بن أحمد ابن عبد الواحد بن عبد المؤمن بن سعيد بن كامل بن علوان التنوخي البعلي ثم الدمشقي ثم القاهري (ت800هـ)، المعروف بالبرهان الشامي، شيخ الإقراء، ومسند القاهرة، نسبه بعضهم “القمري” لإقامته بجامع الأقمر دهراً طويلاً إلى أن مات رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر: “قرأْت على الشيخِ أبي إِسحاق إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد التَّنُوخِيِّ، ثم الدمشقي، ثم القاهري، بمنزله الجامع الأقمر ……..”.

وممن سمع على البرهان الشامي بالجامع الأقمر الشيخ تاج الدين عبد الملك بن حسين بن علي بن إِسماعيل الطوخي الشافعي الْمُقْرِئ (ت858هـ). قال عنه البقاعي: “قرأ الشاطبية أيضا على البرهان الشامي، بقراءة لها على قاضي القضاة البدر محمد ابن جماعة، وبسماعه لها عليه مرة أخرى بسماعه على الخير أبي الفضل عبد الله بن محمد بن عبد الوارث الأنصاري – عرف بابن الأزرق – بسماعه من ناظمها ، صح في مجلس واحد يوم الثلاثاء مستهل ربيع الآخر سنة ۷۹۹هـ بقاعة العز بن جماعة من جامع الأقمر ، وسمع معه أخوه المحب أبو الطيب محمد ، وأجاز المسمع” .

وتولى الإمامة بالجامع الشيخ شرف الدين أبو الفضل محمد بن محمد ابن أبي بكر بن عبد العزيز القدسي (ت806هـ) المعروف بخادم السنة، خطيب المدرسة الصالحية بالقاهرة، وإمام الجامع الأقمر. عني بسماع الحديث والإفادة على شيوخه، وكتابة أجزاءه. سمع منه شيخ الإسلام ابن حجر.

ومن العلماء الذين عقدوا مجالس منتظمة بجامع الأقمر شيخ الإسلام الحافظ عبدالرحيم العراقي (ت806هـ) الذي عقد مجالس لإسماع الحديث ومدارسته، وحضر مجالسه مشاهير الطلاب السنة في عصره. قال عنه شيخ الإسلام ابن حجر أنه قد أحيا مجالس الإملاء للحديث الشريف ونصه: “فأحيا الله به سنة الإملاء بعد أن كانت دائرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس، قال الحافظ وكانت أماليه يمليها من حفظه متقنة مهذبة محرَّرة كثيرة الفوائد الحديثية، قال: وكان الشيخ منور الشيبة، جميل الصورة، كثير الوقار، نزر الكلم، طارحًا للتكلف، لطيف المزاح، سليم الصدر، كثير الحياء”.

كذلك عقد الحافظ نور الدين الهيمثي (ت807هـ) مجالسه بالجامع، وقد ذكر البقاعي سماع الحافظ شهاب الدين البوصيري القاهري (ت840هـ) على شيخيه العراقي والهيثمي “صحيح البخاري” بسنده عن شيخيه: ابن شاهد الجيش، وابن التركماني، وكان ذلك السماع بقراءة شهاب الدين الكلوتاتي، في مجالس آخرها يوم الأحد ١٨ من شعبان سنة 795هـ بجامع الأقمر بالقاهرة، وتلفظ بإجازة كل المستمعين روايته عنه.

وخطب البدر بن قاضي القضاة الشمس الونائي وهو صغير بالجامع الأقمر في رمضان سنة 836هـ او 837هـ، عقب ختمه لحفظ القرآن الكريم. وقال في خطبته عن شيخ الإسلام ابن حجر: أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر. وذكر أوصافاً، منها: البيهقي الثاني، أحمد بن علي الكناني العسقلاني.

ومن الذين تولوا الإمامة بالجامع الشيخ الزاهد العلامة نور الدين السنهوري الضرير، إمام جامع الأقمر، قال الإمام عبد الوهاب الشعراني : وقرأت عليه عدة كتب ؛ منها : “شرح نظمه” للآجرومية ، ومنها : “شرح شذور الذهب” ومنها : “شرح الألفية ” للمكودي ، وغير ذلك.

جُدد الجامع في عهد السلطان المملوكي الظاهر برقوق عام 799هـ على يد الأمير يلبغا السالمي، أحد المماليك الظاهرية، وذكر المقريزي أنه أنشأ بظاهر بابه البحريّ حوانيت يعلوها طباق، وجدّد في صحن الجامع بركة لطيفة يصل إليها الماء من ساقية، وجعلها مرتفعة ينزل منها الماء إلى من يتوضأ من بزابيز نحاس، ونصب فيه منبراً، وبني على يمنة المحراب البحريّ مئذنة، وبيّض الجامع كله ودهن صدره بلازورد وذهب.

لم يكن بالجامع خطبة منذ زوال الدولة الفاطمية إلى أن جدده الأمير يلبغا السالمي، ورتّب فيه خطبة، فأقيمت أول جمعة به في 4 رمضان سنة 799هـ، وخطب فيه شهاب الدين أحمد بن موسى الحلبيّ أحد نوّاب القضاة الحنفية، واستمرّ إلى أن مات سنة 801هـ.

وفوق المحراب لوحة رخامية سجل عليها الأمير يلبغا العمارة التي أجراها ، كتب عليها: “بسم الله الرحمن الرحيم فَانظُرْ إلى آثَارِ رحمة اللَّهِ كيف يُحيي الأرض بعد موتها إِن ذلك لمُحيِي الموتى وهو على كل شيء قديرٌ – أمر بعمل المنبر والمنارة وغيره بعد اندراسه في أيام مولانا الملك الظاهر أبي سعيد برقوق حرس الله نعمته العبد الفقير إلى الله تعالى أبو المعالي عبد الله يلبغا السالمي الحنفي الصوفي، لطف الله به في الدارين، وحشره مع الصالحين، في شهر رمضان المعظم سنة تسع وتسعين وسبعمائة وكان بني هذا الجامع في أيام الخليفة الآمر بأحكام الله بن المستعلي بالله في سنة تسع عشرة وخمسمائة من الهجرة النبوية”.

ذكر البعض أن سليمان آغا السلحدار أمر بتجديد الجامع في عام 1236هـ في عهد محمد على باشا بناء على رواية للمؤرخ الجبرتي، والجامع الذي جدده السلحدار هو الجامع الأحمر بالرويعي بنص الجبرتي وليس الجامع الأقمر. وفي تسعينيات القرن المنصرم تم ترميم الجامع من قبل طائفة البهرة.

كتبه: عمر محمد الشريف.
٢١ ذو القعدة سنة ١٤٤٤ هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.