ترجمة سيدي أحمد الدردير رضي الله عنه (1127 هـ – 1201 هـ) ..
ننقلها بتصرُّف من “تاريخ الجبرتي” , ومن “ترجمة سيدي أحمد الدردير” للشيخ إسماعيل صادق العدوي رحمه الله , إمام مسجد سيدي الإمام العالم العلامة ..
قال عنه الجبرتي: أوحد وقته في الفنون العقلية والنقلية , شيخ أهل الإسلام وبركة الأنام أبوالبركات , الشيخ أحمد بن أحمد بن أبيحامد العدوي المالكي الأزهريّ الخَلْوَتِيّ , الشهير بأحمد الدِّرْدِيرِ , رضي الله عنه ..
صاحب المؤلفات الكثيرة النافعة والتصنيفات الشهيرة المقنعة والرسائل العلمية الممتعة ..
ولد بقرية بني عديّ , التي تسكنها قبيلة بني عدي القُرَشِيَّة في أسيوط بصعيد مصر .. وهم من نسل الصحابي الجليل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ..وجُلُّهم – إن لم يكونوا كلهم – على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه .
ولد سنة سبع وعشرين ومائة وألف للهجرة (1127هـ) وحفظ القرآن وجوَّده , وحُبِّب إليه طلب العلم , فورد الجامع الأزهر وحضر دروس العلماء وسمع الحديث المسلسل بالأَوَّلِية عن الشيخ محمد الدفراوي بشرطه , وعلوم الحديث النبوي الشريف عن الشيخ أحمد الصباغ ..
وتفقه علَى الشيخ علِيِّ الصعيدي العَدَوِيّ , ولازَمه في كل دروسه حتى ظهرت نجابته ونباهته .. وعلى شمس الدين الحفني, وبه تخرَّج في طريق القوم , فتلقن الذكر وطريقة الخلوتية من الشيخ الحفني وصارمن أكبر خلفائه , وأخلَصَ في حب شيوخه مع كمال الصيانة والزهد والفقه والديانة.
وقد كان صوفيا نقيا سنيا زاهدا , قوّالا للحق , زجّارا للخلق عن المنكرات والمعاصي , لا يهاب واليا ولا سلطانا ولا وجيها من الناس ..
وحضر بعضَ دروس الشيخين الملَّوِي والجَوْهري وغيرهما , ولكن كل اعتماده وانتسابه على الشيخين الحفني والصعيدي ، وكان سليم الباطن مهذب النفس كريم الأخلاق.
وذكر لنا عن لقبه (الدردير) أن قبيلة من العرب نزلت ببني عدي , وكان كبيرهم رجل مبارك من أهل العلم والفضل يدعى الدردير, فلُقب سيدي أحمد به تفاؤلا لبركته.
ولسيدي أحمد الدردير مؤلفات منها:
– شرح مختصر خليل, الذي هو عمدة الفقه المالكي .. أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني , واقتصر فيه على الراجح من الأقوال ـ مَتْنٌ في فقه المذهب المالكي , سماه “أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك”.. ثم ألّف شرحا له سماه الشرح الصغير .. وهذا الشرح هو الذي أقرّه جميع المالكية في الفتوى الآن , وعليه مشهور المذهب المالكي والأقوال المعتمدة فيه , فلا تجد مالكيا على وجه الأرض إلا وينتفع بهذا الكتاب ويعتمد عليه , لأنه آخر ما اتفق عليه الأئمة المالكيون ووثّقوه .. واعتمدوه في تلقين المذهب للطلاب , وفي الفتاوى على مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى .. وقد شرحه وعلق أيضا العلامة سيدي أحمدالصاوي ..
ـ وله رسالة في متشابهات القرآن ..ـ ونظم الخريدة السَّنِيَّةِ في العقيدة السُّنّيّة ..في علم التوحيد , وشرحها كذلك ـ وتحفة الإخوان في آداب أهل العرفان في التصوف السني الصحيح
وله شرح على وِرْدِالأذكار للشيخ كريم الدين الخلوتي – وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال البكر. – ورسالة في المعاني والبيان .. في علوم اللغة والبلاغة. – ورسالة أفرد فيها طريقة حفص في القراءات. – ورسالة في المولد النبوي الشريف. – ورسالة في شرح قول الوفائية “يا مولاي يا واحد يا مولاي يا دائم يا عليُّ يا حكيم”. – وشرح على مسائل في الفقه المالكي .. منها: (( كل صلاة بطلت على الإمام – وشرح على الأصل للشيخ البيلي .. – وشرح على رسالة في التوحيد من كلام العلامة الدمرداش . – ورسالة في الاستعارات الثلاث – وشرح على آداب البحث والتأليف- وشرح على الشمائل المحمدية ـ ورسالة في صلوات شريفة اسمها ( المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق – والتوجه الأَسْنَى بنظم الأسماء الحسنى .. وتسمى بمنظومة الدردير أو منظومة الأسماء الحسنى للدردير , وهي من أوراد السادة الخلوتية ـ ومجموعٌ ذكر فيه أسانيد الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم – ورسالة جعلها شرحا على رسالة قاضى مصر عبد الله أفندي المعروف بططرزاده في قوله “يوم يأتي بعض آيات ربك” الآية .. وله غير ذلك.
ومما سُمع من شعره:
من عاشر الأنام فليلتزمِ… سماحة النفس وترك اللجاج
وليحذر المعوج منأخلاقهم .. أي طريق ليس فيه اعوجاج
ولما توفي الشيخ علي الصعيدي تعين سيدي أحمد الدردير شيخا على المالكية , وفقيها وناظرا على “وَقْفِ الصعايدة”, بل وشيخا على”رواق الصعايدة” بالأزهر .. بل شيخا على أهل مصر بأسرها في وقته , حِسًّا ومعنى ..
فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كلا من الراعي والرعية , ويصدع بالقول مع صولة الحق , ولا تأخذه في الله لومة لائم وله في السعي على الخير يد بيضاء.
تَعَلَّل أياما ولزم الفراش مدة , حتى توفى في ثالث شهر ربيع الأول من سنة (1201 هـ), وصلي عليه بالأزهر بمشهد عظيم حافل , ودفن بزاويته التي أنشأها بخط الكعكيين بجوار ضريح سيدي يحي بن عقب.
وللدكتور عبد الحليم محمود كتابان حافلان أحدهما عن القطب الحفني , والثاني عن أبى البركات الدردير , رحمهم الله تعالى أجمعين , وشفَّعَهُم فينا شفاعةَ المؤمنين في إخوانهم المحبين أمين ..
وتلقيبه بأبي البركات سببه أنه أظهر الله تعالى على يديه كثيرا من الكرامات التي يرويها المؤرخون الثقات كالجبرتي رحمه الله تعالى ..
وهذا فضل من الله على عباده الصالحين , لكي تتقوى نفوس المؤمنين ويقتدوا بأولئك الناس الذين يسيرون على درب المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
وقد روي عنه أن الوالي العثماني كان قد أجبر الناس على السخرة في عمل من أعماله وأغلق أبواب القلعة , فذهب الدردير مع الناس ووقف أمام الباب ودعا وأمّن الناس , فوقعت المواصيد والأقفال , ودخل حتى وصل إلى الخزائن وكلما وجد بابا موصدا وقف ودعا فينفتح الباب ..
وكان مشهورا عنه افتتاح الأبواب المغلقة بدعائه رحمه الله ورضي عنه ..
واشتهر أيضا بأنه كان مجاب الدعوة بسبب تحرّيه أكل الحلال , وأنه كان لا يأكل طعاما فيه شبهة أبدا , وإن دعاه أحد من الناس على طعام سأل عن مصدر رزقه ودَخْلِه , ثم يقرر بعد ذلك ..
ولا يزال ذِكْرُ موقف سيدي أحمد الدردير مع الوالي العثماني مشتهرا ومنتشرا , يفخر به المالكية على بقية أصحاب المذاهب , ويرفعون رؤوسهم وأعناقهم إذا ذُكر جَهْرُ العلماء بالحق ونطقهم بالصدق ..
فالوالي الجديد عندما عينه السلطان العثماني , أراد أن يكون الأزهر هو أول مكان يزوره حتى يستميل المشايخ , لعلمه بقدرتهم على تحريك ثورة الجماهير في أي وقت شاءوا وعند حدوث أول مظلمة ..
فلما دخل ورأى الدردير جالسا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر وهو يقرأ ورده من القرآن غضب , لأنه لم يقم لاستقباله والترحيب به , وقام أحد حاشيته بتهدئة خاطره بأن قال له: إنه مسكين ضعيف العقل ولا يفهم إلا في كتبه يا مولانا الوالي ..
فأرسل إليه الوالي صرة نقود مع أحد الأرقاء , فرفض الدردير قبولها وقال للرقيق “قل لسيدك من مدّ رجليه ليس له أن يمد يديه” ..
ولم ينته الموقف مع ذلك الوالي الظالم , وقد قيل أنه خسرو باشا آخر الولاة العثمانيين قبل محمد علي باشا الكبير , والذي عزله المشايخ والصوفية ونقباء الأشراف لظلمه , وتحدّوا فيه السلطنة العثمانية ..
بل دبّر الوالي بعد هذه الواقعة ببضعة شهور مكيدة ليقتل الشيخ أو يحبسه على أقل تقدير , فأقام مأدبة في القلعة ودعا إليها العلماء والمماليك والوجهاء والفقراء , ونادى في الناس أن من تخلف عن دعوة الوالي فسوف يُعزّر ويجلد أمام العامة في ميدان الأزهر .. وادَّعى أن رفض الدعوة أو قبولها مع عدم الأكل عصيان لولي الأمر , كل ذلك وهو يَتَحَسَّب لرفض الدردير الأكل , لعلمه أنه لا يأكل من طعام فيه شبهة !!
فذهب الدردير مع الناس , وجلس على المأدبة التي فيها الوالي , وجَعل مكانه أول مكان عن يمينه , فقعد رحمه الله والغضب بادٍ على وجهه وهو يدعو ويتمتم بكلام لا يسمعه أحد ..
فنظر إليه الوالي وعنّفه أمام الناس وقال: أتعصي ولي الأمر يا شيخ أحمد؟ أهكذا يأمركم القرآن والسنة؟ .. أهكذا تعلمتم من السادة العلماء وتعلّمون طلاب العلم عندكم؟
فأجابه سيدي أحمد رضي الله عنه , والله لولا علمي بأني إن تخلفتُ فسيتخلف خَلْقٌ من الناس والطلاب وأتسبب في جلدهم , ما كنتُ لَبَّيْتُ دعوتكم ولا جلست على موائدكم , وأنتم تعرفون أني لا أحب القرب من السلاطين ولا العمل في الدواوين , ولا أحب أن آكل شيئا لا أعرف من أين اكتُسب ولا ممن أُخذ وغُصِب ..
فقال الوالي وقد أدرك أنه بلغ غايته من الشيخ , وأنه سوف يرتكب خطأ يسجن بسببه: أتزعم أن مالنا حرام يا شيخ أحمد , وليس لديك بينة ولا دليل؟ .. هذا قذف للناس واتهام لضمائرهم , وأنتم معشر الفقهاء أعرف الناس بحكم القذف والتشهير ..
فأجابه الدردير وقال على رؤوس الأشهاد: إن كنت تريد دليلا فهاك الدليل ..
وأمسك رحمه الله تعالى في قبضته بحفنة من الأرز , أخذها من الطبق وعصرها وقال: اللهم أظهر الدليل والحجة على عيون الناس .. فنزل منها دم كأنه دم إنسان ..
فقد كان رحمه الله قدوة في الحال والمقال .. وفخرا لكل من صاحبه أو سار في سلك أتباعه ..
وقد أكرمني الله تعالى بالإجازة المتصلة به , من طريق شيخنا العلاّمة المحدّث د. أبي هاجر الأثري الأزهري .. فالحمد الذي جعل بيننا وبين الأبرار العلماء نسباً في العلم , واتصالا في السند ..
رحمه الله تعالى رحمة واسعة , ونسأله أن يقيض للأمة علماء فضلاء يسيرون في نفس الطريق ويصلحون ما يفسده المبطلون .. إنه ولي ذلك والقادر عليه ..