وهو العالم الثالث والأخير من العوالم الثلاثة، ويطلق عليه عالم الأمر، وعالم الأزل، وعالم الإرادة، وعالم الأسرار .
ويتميز هذا العالم بأنه لم يخرج إلى حيز الوجود، كما هو
الحال في عالم الملك وعالم الملكوت اللذين وجدا وظهرا.
وهذا العالم أسرار لا يعرف أي مخلوق عنها شيئا، ولا يمكنه ذلك، لأن العقل البشري يعجز عن تخيل عالم الملك وعالم الملكوت فما بالك بعالم الجبروت، إنه عالم لا يعرفه إلا الله وحده سبحانه وتعالى.
وعالم الجبروت هو أسرار هذه العوالم كلها، ولولاه ما وجدت وما ظهرت، فهو حقيقة كل شيء وقيوميته، وفيه الأحدية والحقيقة المحمدية، وهو محيط بجميع العالم، ولذا يقول سبحانه: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (۱) ، ونحن لا نعلم كنه ولا كيفية هذه الإحاطة.
ولا يمكن للعقل بحال أن يتخيل أو يتصور ولو ذرة من هذا
العالم، فهو فوق الوصف وفوق العقل، فقد خلق الله تعالى العقل وحدده بأمور ونواميس لا يخرج عنها، فقد تعود هذا العقل على أن لكل شيء بداية ونهاية، ولكل شيء حجم ووزن وسعة ومقدار، ولا يمكنه تصور الأشياء المعنوية والغيبية، فكيف يمكنه أن يتقبل أن هناك شيئا لا بداية له ولا نهاية، ولا أول له ولا آخر، كيف يمكن لهذا العقل البسيط مهما بلغت درجة ذكائه أن يتصور شيئا فوق تصوره، إننا حين نتصور الآخرة وما فيها من أهوال ومهما رسمنا ورسمت الآيات والأحاديث لنا صورها لا يمكن للعقل استيعابها بسهولة، وإنما تضرب أمثلة تقريبية لها، فما بالنا بعالم هو فوق العقل أساسا.
إن الله عز وجل حين يمثل لنا الجنة يضربها لنا بأمثلة من الدنيا، لتتقبلها عقولنا، وليست هي كذلك بالضبط، فحين يصف الجنة بأنها لا شمس فيها ولا زمهرير يصاب العقل بالتوقف ويتساءل كيف هذا ؟ وحين يصف طعامها وشرابها ومياهها يصعب على العقل التصور، ويتساءل كيف هذا ، ولذا جاءت الأحاديث لتبين أن وصف الجنة إنما هو على سبيل التمثيل والتقريب، وليس كما ذكروا، لأن كل عالم له خواص غير الأخرى، وله طبيعة غير الأخرى، ومن الخطأ والخطل أن يحكم المرء بعقله القاصر على عالم خرج عن حدود العقل.
وحين حكمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على عالم
الملكوت بحدود العقل نبهها النبي ﷺ إلى أن ذلك بعيد عن مجال العقل، ومجال نواميس عالم الملك، ففي الحديث الذي رواه القاسم بن محمد بن أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك) .
إن المرء حين يسمع لأقوال وتقارير علماء الفلك عن سعة الكون يجد أن الأرض على حجمها الهائل هذا لا تساوي بالنسبة للكون المرئي لنا حبة رمل من كل جبال الدنيا، فيعجز العقل عن التصور وعن متابعة ما يسمع حتى ليقف شعر رأسه من ضغط الفكرة على رأسه، وكل هذا العالم هو حلقة في السماء الأولى، والسماء الأولى وما فيها من عوالم كلها حلقة في السماء الثانية، وهكذا حتى تكون السماوات السبع وما فيهن كلهن حلقة في العرش، وكل هذا في يد الله عدم، فكيف لعقلك الذي عجز عن تصور عالم الملك الذي يعيش فيه أن يتصور عالم الملكوت أو عالم الجبروت، فقف عند حدود الأدب، وإذا كانت الدنيا كلها لا تساوي خردلة على كل هذه السعة والعظمة التي عليها فماذا تساوي أنت ؟؟؟؟!!!! ، ألا سبحان الكبير المتعال، خالق الأرض والسماء، لقد صدق قول الله تعالى فينا : مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .
هذه هي العوالم الثلاثة، وكل عالم فيها له خصائصه ونواميسه وصفاته، ولا يعلم كل صغير وكبير فيها إلا الله وحده، وهو المحيط بكل شيء علما، ولكن عالم الجبروت لا يحسن الحديث تفصيلا عنه، لأنه عالم الله تعالى، ولا يعرفه إلا هو.
ولذا كانت القاعدة : عالم الجبروت عالم الأسرار، وعالم الله فاعرف صفاته، وسبح خالقه، ولا تجادل فيه كثيرا، وخذ عنه ما
يلهمه الله تعالى لأهل الكشف والإلهام المخلصين.