بتاريخ ١٥/ ربيع الآخر / ١٤٤٦
١٨ / أكتوبر ٢٠٢٤
إعداد الشيخ أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
نعمة النطق تستوجب الشكر









والشكر لا بد وأن يكون بالنطق بالقول الحسن فقد أمَرَ –سبحانهُ- عِبادَهُ فقال ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً ﴾ [الإسراء: 53]. قال السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية : (.. وهذا أمرٌ بكلِ كلامٍ يُــقــرّبُ إلى اللهِ مِنْ قِراءةٍ، وذكرٍ وعلمٍ، وأمرٍ بـمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وَكَلامٍ حَسَنٍ لَطِـيفٍ مَعَ الـخَلْقِ على اختلاف مراتِــبِهِم ومنازلـِهم، وأنَّـــهُ إذا دَارَ الأمرُ بيــْنَ أمرينِ حَسَنَيْنِ فإنّهُ يأمُرُ بإيثارِ أَحْسَنِهِمَا إنْ لم يُـمكن الجمعُ بَيْنَهُمَا. والقولُ الـحَسَنُ داعٍ لكل خُلُقٍ جميلٍ وعَمَلٍ صالحٍ فإنّ مَنْ مَلَكَ لسانَهُ مَلَكَ جميعَ أمرِهِ. ..)
الإسلام اعتنى بالكلام








يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه وليس يموت المرءُ من عثرة الرِّجلِ[وفيات الأعيان].

فكم من كلمةٍ طيبةٍ كَــتَبَ اللهُ بها الرضوان،كم من كلمةٍ خبيثةٍ ،كانت سببًا في شقاء صاحبها وهلاكه.

رفق النبي بالقول جذب إليه القلوب











عن معاوية بن الحكم السُلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ عطس رجل من القوم، فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم (أسرعوا في الالتفات إلي، ونفوذ البصر فيَّ)، فقلتُ: واثكل أمياه (الثُّكل فقدان المرأة ولدَها، وحزنُها عليه لفقدِه، والمعنى: وَافَقْدَها لي فإنِّي هلكتُ)، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (ما انتهرني ولا عَبَس في وجهي) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم. قال القاضي عياض: “فيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم مِن الرفق بالجاهل”. وقال النووي: “فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخُلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه”.

مِن طبيعة الإنسان التي خُلق عليها الخطأ والنسيان، ولا أحد في هذه الحياة مهما علا شأنه يخلو من خطأ، فلا عِصمَةَ لأحَدٍ إلَّا الأنبياء والرسل، ولذلك كان على الإنسانِ إذا وَقَعَ في خَطَأٍ أو مَعصيةٍ أنْ يُبادِرَ بالعَودَة والتَّوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلُّ بني آدم خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التَّوابون) رواه الترمذي. والمخطئ أحيانا لا يشعر أنه أخطأ، فينبغي أن نزيل الغشاوة عن عينيه ـ برفق ـ ليعلم أنه أخطأ. عن أبى هريرة رضي الله عنه: (دخلَ أعرابِيٌّ المسجِد، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جالِس، فصلَّى، فلما فرغَ (انتهى من صلاته) قال: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا ولَا ترحمْ معنا أحدًا، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا، فلم يلبثْ أنْ بالَ في المسجد، فأسرع إليه الناس، فقال النبي صلى اللهُ عليه وسلّم: أهْريقوا عليْهِ سَجْلًا مِنْ ماءٍ، أوْ دلْوًا مِنْ ماء، ثُمَّ قال: إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرين ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْن) رواه الترمذي.
(لقد تَحجَّرتَ واسِعًا) أي: منَعتَ وضيَّقتَ أمرًا جعَل اللهُ فيه السَّعةَ، ألَا وهو رحمة اللهِ عزَّ وجلَّ الَّتي تشمَلُ كلَّ عبادِه الموحِّدين.. قال ابن حجر: “وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادا”. وقال النووي: ” وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما”.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْدٌ نَجْرَاني (نَوعٌ مِنَ الثِّياب نِسْبَة إلى نَجْران باليمن) غليظ الحاشية (غليظُ الجانب)، فأدركه أعرابي، فجبذه جبذة شديدة (فأمسكه من ثوبِه بشِدَّة)، حتى نظرتُ إِلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَثَّرَتْ بها حاشية البرد، من شدة جَبْذته، قال: يا مُحمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء) رواه البخاري. قال النووي: “فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله.. وفيه كمال خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحلمه وصفحه الجميل”.

عن أبي أُمَامة رضي الله عنه قال: (إن فتى شابا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مَهْ مَهْ (أي: اسكت وانزجر)، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد. رواه أحمد. وفي رواية أخرى: وقال: (اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه – الزنا -). في هذا الموقف النبوي مع هذا الشاب الذي يستأذن في الزنا أساليب كثيرة منها: الرفق واللين مع المخطئ، وعدم ترويع السائل الجاهل، وطلب دنو السائل واقترابه، ومنها: الإقناع العقلي، والدعاء للسائل والمخطئ، وهذا ما يغفل عنه الكثير من الآباء والدعاة والمربين، فالدعاء للعاصي في مواجهته يشعره بحرص الداعي عليه، وحبه له، ورغبته في هدايته، مما يصلح مِن أمره ويقرِّبه إلى الله عز وجل..

للسلف أقوال في حفظ اللسان








للسلف أقوال في حفظ اللسان مثل ماورد عن 

• عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: رأيتُ أبا بكر الصدِّيق رحمه الله آخذًا بطرف لسانه، فقال: هذا أوردني الموارد.
• قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من كثُر كلامُه كثُر سقطُه.
• قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
البلاء موكل بالقول.
والذي لا إله غيره ما على الأرض شيء أحوج من طول سجن من لسان.
أنذركم فضول كلامكم، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته.
جاء إليه رجل فقال له: أوصني يا أبا عبدالرحمن، فقال له: ليسعك بيتُك، واكفُفْ لسانَك، وابْكِ على ذكْرِ خطيئتك .
• قال الأوزاعي: مَن عرَف أن منطقه من عمله قلَّ كلامُه.
• قال شفيُّ بن ماتع: من كثُر كلامُه كثُرت خطاياه.
• قال الفضيل بن عياض: لا حجَّ ولا جهاد أشدَّ من حَبْس اللسان.
• قال أبو بكر بن عياش: أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية.
• قال القاسم بن عثمان الجوعي: الحصن الحصين ضبط اللسان.
• بدر بن المنذر، قال أحمد بن حنبل: من مثل بدر؟ مَلَك لسانَه.
• قال سفيان الثوري: كان يُقال: الصمت زين العالم وستر الجاهل.
• قال لقمان:
يا بني: كن أخرس عاقلًا، ولا تكن نطوقًا جهولًا.
يا بني: لو أن الكلام من فِضَّة، فإن السكوت مِن ذَهَب.
يا بني: قد ندمت على الكلام، ولم أندم على الصمت.
قيل له: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت، ولا أتكلَّف ما لا يعنيني.
• قال وهب بن منبِّه: أكثر الصمت إلا أن تُسأل عن شيء…إن العبد ليصمت فيجتمع له لُبُّه.
• قال إبراهيم بن أدهم: ينبغي للعبد أن يصمت، أو يتكلم بما ينتفع به، أو ينفع به من موعظة، أو تنبيه، أو تخويف، أو تحذير.
• قال بشر بن الحارث الحافي: لا يكون المتكلم أورع من الصامت إلا رجل عالم يتكلَّم في موضعه، ويسكت في موضعه.
• قال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمُرُّ بمجلس لهم، فيقول: توضَّئوا، فإن بعض ما تقولون شَرٌّ من الحَدَث.
• قال الأحنف: حتف الرجل مخبوء تحت لسانه.
• قال عبدالله بن عون: إن الرجل يكون مظلومًا، فلا يزال يقول حتى يكون ظالِمًا.
• عن عطاء قال: كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله أن تقرأه، أو أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك بما لا بُدَّ لك منه.
• قال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، أو تقرأ القرآن، أو تُسأل عن علم فتُخبِر به، أو تتكلم فيما يعينك من أمر دنياك.
• قال الحسن:
ما نظرْتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضْتُ على قدمي؛ حتى أنظر: أعلى طاعة أو معصية؟ فإن كانت طاعة تقدَّمْتُ، وإن كانت معصيةً تأخَّرْتُ.
• قال الإمام ابن عبدالبَرِّ:
الكلامُ بالخير أفضلُ من السكوت، والسكوتُ خيرٌ من الكلام بالباطل.
قولُ الخير أفضلُ من الصمت؛ لأن قول الخير غنيمةٌ، والسكوتُ سلامةٌ، والغنيمةُ أفضلُ من السلامة، وكذلك قالوا: قُلْ خيرًا تغنَمْ، واسكُتْ عن شرٍّ تَسْلَمْ .
معنى قيل وقال- والله أعلم -: الحديث بما لا معنى له، ولا فائدة فيه، من أحاديث الناس، التي أكثرها غيبة، ولغط، وكذب، ومَن أكثرَ من القيل والقال مع العامَّة لم يسلم من الخوض في الباطل، ولا من الاغتياب، ولا من الكذب.
قبيح الكلام….سلاحُ اللئام.
الكلام الطيب مطلوب مع الجميع












وكان حاضراً: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائمًا، والناس نيام[رواه أحمد]
وفي الحديث الآخر: أطِب الكلام، وأفشِ السلام، وصل الأرحام، وقم بالليل، والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام[رواه الحاكم في المستدرك ] وقد قال الله – تبارك، وتعالى – في سورة البقرة في الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل – والمراد بالميثاق هو العهد المؤكد – : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83].

الحقوق العملية من بر، وإطعام، أعقب ذلك بالقول الحسن؛ ليجمعوا بين الإحسانين، يجمعوا بين الإحسان العملي، وبين الإحسان القولي، وذلك أن الإنسان مهما بذل، وفعل، ومهما أوتي من القُدر، والإمكانات، والأموال فإنه لا يستطيع أن يستوعب الجميع بماله، ولن يستطيع أن يستوعب الجميع بخدماته التي يقدمها ببدنه، فإن الوقت يضيق عن ذلك، وطاقة الإنسان تعجز عنه، ولكن هناك أمر لا يعجز عنه إنسان لجميع الخلق، وهو الإحسان بالقول .
هذا وصلوا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 
