الجمعة 22 من ربيــع الآخر 1446هـ
الموافق 25 من أكتـــوبــــر 2024م
إعداد / عادل عبدالكريم توني إبراهيم
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف
عناصر الخطبة :
١- نعمة البيان وخطر اللسان .
٢- “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” .
٣- “الكلمة الطيبة صدقة” .
٤- أحق الناس بحُسنِ الكلام .
***
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون :
(١)- يقول الله تعالي : ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم : 34) .
إن نعم الله تعالي على عباده كثيرة لا تحصي ، فقد أكرم الله الإنسان بنعم عظيمة، وآلاء عميمة، وفضَّلَه على كثير ممن خلق تفضيلا، ووهبه -على سبيل الامتنان- بيانا يمتاز به عن غيره، ويبين به مراده، ويحقق غايته،ويفصح عمّا في ضميره ، قال تعالي في أول سورة الرحمن: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن:1- 4] ، وهي نعمة تحتاج إلى شكر، وعلى قدر النعمة يَعظم حقها، ويُستوجب شكرها، ويُستنكر جحودها .
وكلام الإنسان يُبين عن خلقه، ويُبين عن عقله، لربما يكون الإنسان صامتاً فإذا تكلم عرف الناس قدره، وعرفوا ما يحمله من أخلاق، وقيم، ومفاهيم، ومبادئ؛ وذلك حينما عبر بلسانه وتكلم، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يسأل نفسه قبل أن يتكلم هل هناك ما يستدعي للكلام،
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه” رواه البخاري ومسلم .
• وإنَّ أكثر ما كان يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأُمَّة هو اللسان، روي الترمذي : من رواية عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله قال : قلت : يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به ، قال : قل : ربي الله ، ثم استقم قلت : يا رسول الله ، ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه ، قال هذا ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
فأكثر ذنوب ابن آدم من لسانه، وما من يوم ينشق صبحه إلا والأعضاءُ كُلُّها تُكَفِّرُ اللسان، فقد روى الترمذي عن أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: ((إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ، تَقُولُ: اتِّقِ اللَّه فينَا، فَإنَّما نحنُ بِكَ، فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسَتقَمْنا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا)).
• وأكثر أسباب دخول النار بسبب اللسان، فقد روى الترمذي- وقال: حديث حسن صحيح- عن أبي هُريرة قَالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ قَالَ: ((تَقْوى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُق))، وَسُئِلَ عَنْ أَكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: ((الفَمُ وَالفَرْجُ))،
وفي رواية: ((أتدرونَ ما أكثرُ ما يُدخِلُ الناسَ النارَ؟))، قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: ((فإنَّ أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النارَ الأجوفانِ: الفرجُ والفمُ))؛
ولذلك من ضمن لسانه؛ فقد ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة؛ ففي الصحيحين عَنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمَنْ لهُ الجَنَّة))،
لذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ، يحرصون علي حفظ ألسنتهم من الخوض في ما لا يعنيهم ويوصون بذلك ،
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد
وقال عبد الله بن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ، ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان وقال طاوس لساني سبع ، إن أرسلته أكلني وقال وهب بن منبه في حكمة آل داود حق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، حافظا للسانه ، مقبلا على شأنه
وقال الحسن ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه وقال الأوزاعي كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله أما بعد ؛ فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه ، إلا فيما يعنيه
وقال بعضهم : الصمت يجمع للرجل فضيلتين : السلامة في دينه والفهم عن صاحبه
وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم
وقال يونس بن عبيد ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله
فمن ألجم لسانه بلجام الإيمان، وعطّره بطيب الأقوال ،قاده الرحمن إلى الرضوان وأعالي الجنان، ومن لطَّخَ لسانه بقبح الكلام : من زور وفُحش وكَذِب وبهتان ،هوى به الشيطان إلى دركات النار ، ففي سنن الترمذي وغيره : (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ…قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال: لقد سألتَ عن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ علَى من يسَّرَه اللهُ عليه، تعبدُ اللهَ ولا تشرِكُ بِه شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ، ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ علَى أبوابِ الخيرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ، كَما يطفئُ الماءُ النَّارَ،وصلاةُ الرَّجلِ في جوفِ اللَّيلِ، ثمَّ تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتَّى بَلغَ: يَعمَلونَ) ثمَّ قال: ألا أُخبِرُك بِرأسِ الأمرِ ، وعمودِه، وذِروَةِ سَنامِه؟ قلت: بلَى، يا رسولَ اللهِ، قال: رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قال: ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم »
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه
وليس يموت المرءُ من عثرة الرِّجلِ
***
(٢)- قال الله تعالى : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ,(سورة البقرة:83 )
قال ابن كثير في تفسيرها : أي : كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ،
وقال الحسن البصري : فالحسن من القول : أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحلم ، ويعفو ، ويصفح ، فالحسن : هو كل خلق حسن رضيه الله .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة .
وقال الله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} سورة الاسراء:53
هذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله ،من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم .
فكم من كلمة حسنة طيبة كتب الله بها الرضوان: بكلمة حسنة تدفع عن مسلم أذى، أو تنصر مظلوماً، أو تفرِّج كُربة، أو تعلّم جاهلاً، أو تذكّر غافلاً، أو تهدي ضالاً، أو ترأب صدعاً أو تطفئ فتنة؟! وكم من مشاكل حُلّت، وكم من صِلات قَوِيَت، وكم من خصومات زالت بكلمة حسنة طيبة؟ ، وكم من كلمة خبيثة مزقت بين القلوب، وفرقت بين الصفوف، وزرعت الأحقاد والضغائن في النفوس وخربت كثيراً من البيوت؟
فينبغي على المسلم أن يختار أحسن الكلمات وأجمل العبارت عندما يريد أن يتكلم مع
الناس، كل الناس مع الكبير والصغير، مع القريب والبعيد، مع المسلم وغير المسلم ، هذا من أخلاق الاسلام ، تتكلم مع الناس بالكلام الذي يعجبك أن تسمعه منهم ، من غير استهزاء ولا تكبر ولا تحقير ، لا يطعن في الاخرين ولا يلعن ولا يتكلم بكلام فاحش أو بذئ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ). سنن الترمذي
وفى الصحيحين عَنْ أَبي مُوسَى قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ المُسْلِمِينَ أفْضَلُ؟ قَالَ: ((مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
وفي رواية قال : ((المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ))،
***
(٣)- الكلمة الحسنة الطيبة تأسر القلوب، وتطيب الخاطر ، يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ [إبراهيم: 24-26].
يقول ابن القيم رحمه الله:
“شَبّه الله سبحانه الكلمة الطيبة – كلمة التوحيد – بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة تثمر الثمر النافع”.
فيبيّن لنا القرآن الكريم أهمية الكلمة الطيبة وعظيم أثرها واستمرار خيرها، وبين خطورة الكلمة الخبيثة وجسيم ضررها وضرورة اجتثاثها،
فالكلمة الطيبة لها سحرها، وقد تغير من حال لحال، وأمر بالطيب من القول حتى مع أعتى الخلق وأطغاهم: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]. والكلمة الحسنة تقرَع القلوب والأسماع، فإذا بالعدو اللدود يتحوَّل إلى حميمٍ ودودٍ،
يذكر بعض المؤرخين أن يهودياً مرَّ بإبراهيم بن أدهم رحمه الله، فأراد ذلك اليهودي أن يستفز إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم، ألحيتك أطهر من ذنب الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟! فقال إبراهيم: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب الكلب، وإن كانت في النار فذنب الكلب أطهر منها. فلما سمع اليهودي هذا الجواب الحليم من المؤمن الكريم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
الكلمة الطيبة شعبة من شعب الإيمان؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت” متفق عليه.
وبالكلمة الطيبة تتحقق المغفرة. لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام” رواه الطبراني، بل إن
الكلمة الطيبة تحجب المؤمن من النار؛ ففي حديث عمر بن حاتم رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “اتّقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة” رواه أحمد في مسنده.
الكلمة الطيبة سبب في دخول الجنة؛ فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وبات لله قائماً والناس نيام” رواه أحمد في مسنده.
وقال صلي الله عليه وسلم : (يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي.
الكلمة هي معيار سعادة الإنسان أو شقائه، فبكلمة حسنة طيبة ينال العبد رضوان الله ، فيرفعه بها إلى أعلى الدرجات، وبكلمة خبيثة يسخط الله عليه فيهوي بها إلى أسفل الدركات، ففي الصحيحين : ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِي جَهَنَّمَ » ،
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصَدَقَتِهَا وكَانَتْ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا، قَالَ: “هِيَ فِي النَّارِ”، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا فَلا تُصَلِّي إلَّا الْمَكْتُوبَةَ، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ-أيْ: القِطَعِ- مِنَ الأَقِطِ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟، قَالَ: “هِيَ فِي الْجَنَّةِ”.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى سائر النبيين وعلي آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : إخوة الإيمان والإسلام :
إن أحق الناس بحُسنِ الكلام هُم :
-الوالدان:
فهما وصية الرحمن كما قال تعالي : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا }، [العنكبوت: 8]
وقال تعالي : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾, (الإسراء : 23) أي: وقل لهما قولًا جميلًا حسنًا ليِّنًا سهلًا من أحسن ما تجد من القول(انظر تفسير الطبري (17/ 417).
ومن العجيب أن ترى بعض الشباب والفتيات يتعاملون مع آبائهم معاملة فظة فيرفعون أصواتهم وينهرونهم ويسيئون إليهم ويؤذونهم بمنطقهم السيئ .
-القرابات:
وإنما سميت القرابات بهذا الاسم لتقاربهم وتلاصقهم بعضهم ببعض، وهم أصول الرجل وأرحامه، فمن وصلهم وصله الله، وبارك له في رزقه، ووسَّع له في عيشه، كما أخبر بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ))(أخرجه البخاري(6616)من حديث أنس-رضي الله عنه-.
فقرابة المرء هم أولى الناس بحسن القول والمعاملة.
-الزوجان:
لقد أخبر ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز عن الأساس الذي تبنى عليه البيوت فقال تعالي : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21] فيحتاج كلًا من الزوجين لاختيار أفضل الألفاظ وأحسنها للتخاطب في ما بينهم وإبداء مشاعر الحب والمودة والرحمة، وإنَّ في هدي نبينا-صلى الله عليه وسلم- خيرَ مثال على ذلك وأفضلَ دليل، وانظر إلى هذا الحديث الحاني بين النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين عائشة ، ففي الصحيحين : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى » . قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ « أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ » . قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ )
هكذا كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يعامل أهله فلنقتدي به فإن لنا فيه أسوة، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].
– العلماء:
فهم ورثة الأنبياء كما أخبر بذلك الصادق-صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى بقوله: ((إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))(أخرجه الترمذي(2682)من حديث أبي الدرداء-رضي الله عنه-
قال ابن جماعة الكناني: ” وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا، فكما لا رتبة فوق النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة”(تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة(ص: 18).
ولهذه المنزلة ينبغي المرء أن يحسن القول مع أهل العلم، وأن يتلطف في سؤاله إليهم.
– إن الله عز وجل أمر بالإحسان إلى الناس عمومًا فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }، فظاهر هذه الآية يدل على العموم كما قال عطاء بن أبي رباح أي: “للناس كلهم”(تفسير الطبري (2/ 297).
حتى الكافر نؤمر أن نقول له قولاً حسناً لطيفاً لينًا، كما قال الله – تبارك، وتعالى – لموسى، وهارون – عليهما الصلاة، والسلام – في مخاطبة أعتى أهل الأرض، وأكفر أهل الأرض ممن ادعى الربوبية: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ قال الله تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ ، [طه: 44]
ومن القول الحسن أمرُهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار(وانظر موسوعة الأخلاق الإسلامية – الدرر السنية (1/ 59).
قَالَ أَحْمد بن الخصيب للمُنتصِر: يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ: أحسنْ إِلَى النَّاس يُحبُّوكَ، وأفْشِ فيهْم العدْل يحمدوك، وَلَا تُطْلِق لغيرْك عَلَيْهِم لِساناً وَلَا بدا فيَذمُّوك ” .(نثر الدر في المحاضرات لأبي سعد الآبي (5/ 83).
ولله در القائل:
أحسن إلى الناس تَستَعبِدْ قُلُوبَهم **
فَطَالمَا استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكن على الدهر معوانا لذي أمل**
يرجو نداك فإن الحر معوانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له **
عند الحقيقة إخوانٌ وأخدانُ
يقول الله تعالي :
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
إن الصلاة على النبي غنيمةٌ ***
نُجزى على ترديدها ونُثابُ
صلى عليك الله يا خير الورى ***
ما ناح قمريٌ وخُط كتابُ
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك اللهم على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وجُودِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، واحمِ حوزَةَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم برحمتِك نستَغيث، أصلِح لنا شأنَنا كلَّه، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مباركًا مرحومًا، وتفرَّقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ربنا لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا طالبًا أمرًا من أمور الخير إلا سهَّلته له ويسرته.
اللهم تقبَّل توبتنا واغسِل حوبتنا، وأجِب دعوتنا، وثبِّت حجتنا، واهدِ قلوبنا، وسدِّد ألسنتنا، واسلُل سخيمةَ قلوبنا.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كلِّ مكان،
برحمتك يا أرحم الراحمين .
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
جزاكم الله خيرا وتقبل منا ومنكم ونفع بكم معالي الدكتور