
بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا
أستاذ الفقة المقارن – ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقا
اللطيفة الثامنة والعشرون : العوالم الثلاثة ( عالم الملك )
يظن كثير من الناس أن العوالم كلها هي ما يشاهده من الكون فسيح الأرجاء، ومن المجرات والكواكب والنجوم التي يسمع أو يقرأ عنها، والحقيقة أن العوالم ليست كذلك، وأن ما نشاهده نحن من كل هذه الأكوان والمجرات والكواكب هي من عالم الملك، فالعوالم التي خلقها الله عز وجل ثلاثة عوالم ، عالم الملك، وعالم الملكوت،وعالم الجبروت.
أما عالم الملك فهو العالم الذي نعيش فيه نحن البشر ومعنا مخلوقات الله الأخرى من الجن والطير والحيوانات بألوانها، ويسمى بعالم الزمن، وعالم الكثيف، وعالم المباني والأواني، وعالم الفناء . ويتميز هذا العالم بأن كل شيء فيه يرى بالعين، سواء أكانت العين المجردة أم غيرها من المناظير وغيرها من وسائل العلم الحديث، ولكن أغلبها نشاهده بالبصر، وكذا ما فيه يمكن التعرف عليه بالحواس الخمس، فهو مرئي، أو مسموع، أو ملموس، أو محسوس.
وكذا يتميز هذا العالم بأنه عالم الاختبار والابتلاء، ولذا فإن الراحة فيه مفقودة، ولا يوجد امرئ يقول إنه يعيش في راحة وهناء ولا يعاني من مشكلة تؤرقه، أو شيء يجعل حياته غير مستقيمة،ما لم يكن راضيا بقضاء الله وقدره، وعارفا بحقيقة هذا العالم، وأن مبناه على النقص وعدم الراحة، وإنما كان ذلك لأنه عالم خلق فيه الشقاء، وهو عالم أغيار وأكدار ، ودار ابتلاء ومحن، وفيه كد وتعب، وراحة وشقاء، ومرض وشفاء ، وفقر وغناء، ومنع وعطاء وقبض وبسط، فهو لا يبقى على حال أبدا، بل دائم التغير، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، ومن المحال أن يستمر على منوال واحد فالتغير فيه قادم لا محالة، ومهما كان المرء في نعم فهي إلى زوال، ومهما كان في صحة فهي إلى ضياع ومرض وموت هكذا خلقه الله تعالى لأنه لم يخلقه للاستمرار ولا للركون إليه، ولذا وصفه بأنه متاع الغرور، فالمتعة فيه نفسها قليلة وزائلة وسرعان ما تنزوي، بل إن بعض المتع يعقبها ألم كطعام جميل يعقبه مرض أو مغص بالمعدة والأمعاء، أو غير ذلك.
وقد وصف الله تعالى كل هذا العالم بأنه لا يساوي جناح بعوضة، حيث يقول : لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ، وقد مثل بجناح البعوضة لأنه مثال للقلة والحقارة أي لو كان لها أدنى قدر ما منع الكافر منها أدنى تمتع، فالحكمة في إطعامهم وإسقائهم وإبقائهم وزيادة إنعامهم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. ومع هذا جعل الله تعالى في هذا العالم الطاعات والمعاملات والكسب والاجتهاد والجهاد وجعله طريقا إلى عالم الملكوت، فلولا عالم الملك ما استطعنا الولوج إلى عالم الملكوت، فنحن نزهد في الدنيا لكننا نحب الحياة التي نتقرب بها ونجعلها وسيلة إلى الله،ونكتسب فيها الأعمال الصالحات.
لكن كثيرا من الناس ممن لا يفهم طبيعة هذا العالم يظنه دار متاع وأنه سوف يستريح فيه ويتمتع به، وقد أخطأ الفهم، فهذا العالم لم يخلق الله فيه الراحة فلا تطلب فيه شيئا لم يخلقه الله فيه، ولذا فإنك واجد من نفسك ومن غيرك أنك تظل تسعى وراء أمل فإن تحقق زهدت فيه أو تحقق في غير وقته أو تحقق ولم تشعر بسعادة لوجود شيء آخر يمنع من تمام السعادة به، فهذا العالم متعة ليست خالصة بل هي مشوبة بالكدر والتعب والوجع والتغير .
وهذا العالم فيه كل ما يحتاجه الجسد من طعام وشراب وفواكه ولحوم وطيور وأسمالك وغيرها ، وليس فيه غذاء الأرواح، لأن غذاءها يأتي من عالم الملكوت، فكثرة المأكولات والمشروبات تخنق الروح وتكثر الأمراض، فهذا العالم لا يسع إلا جسمانيتك ولايسع روحانيتك. وقد جعل الله تعالى في هذا العالم الإسلام، فهو مباني تظهر على الجسد من صلاة وصيام وحج، ولذا سمي بعالم المباني والأواني، أما الإيمان فهو في عالم الملكوت، لأنه معاني يعتقدها القلب وتوقن بها الروح، وأما الإحسان فهو في عالم الجبروت أسرار، وهو ما أوضحه في اللطائف القادمة بإذن الله تعالى.
ولذا فإن القاعدة: عالم الملك: عالم مباني وهو عالم الإسلام
ولا راحة فيه ولا غذاء لروح، فلا تبحث فيه عما لم يخلقه الله له.