اللطيفة الخامسة والعشرون : هوان الدنيا وهوان النفس

اللطيفة الخامسة والعشرون : هوان الدنيا وهوان النفس

لقد ابتلينا هذه الأيام بغلبة الكثيف على الناس، وهجوم الشياطين على المسلمين، فانقسم الناس إلى صنفين، صنف هانت عليه الدنيا، فلم يتعلق بها، وأخذ بالأسباب وترك الأمر لله تعالى، وعلم أن ما قدره له سيأتيه على ضعفه، وما ليس له فلن يأخذه بقوته.

وهذا الصنف هانت عليه الدنيا، فاستراح وعاش فيها سعيدا راضيا بما قدر له ولو كان على الكفاف، لا تجده ساخطا أبدا، بل هو رضي عن الله فرضي الله عنه وأرضاه، إن جاءته المنح شكر وكان سعيدا، ولم تملأ عليه قلبه، فلو نزعت منه صرخ قائلا: نشكر عند العطاء، ونصبر عند البلاء، وإذا كان الله قد أخذ فقد أعطى، ولئن منع فقد منح، ولئن ابتلى فقد عافى، ولئن أمرض فقد أصح، حتى إن الواحد منهم لو فقد عضوا أو حاسة صبر وقال قد رافقتني كثيرا، وأدت ما عليها، فحمدا لله على ما أخذ وما أعطى.
ومن ثم تجد البلوى هينة عليه، وتجده شامخا بنفسه اعتزازا بخالقه دون كبر، مقدرا مكانته وعارفا بقيمته دون انتفاخ أو بطر، لا يغمط الناس حقوقهم ولو غمطوه حقه، لا يظلمهم وإن ظلموه، ولا يتكبر عليهم ولو تكبروا عليه، ولا ينتصر لنفسه قدر ما ينتصر لخالقه.
لله ما أروع هذا الصنف وما أجمل معاملته ومعاشرته، ولو عاملته أو صادفتك الحياة به فاعلم أنه صنف نادر، يحفظ غيبتك، ويحفظ حالك، وينصح لك بما ينصح لنفسه، ويسعدك حضوره، حيث ترتاح نفسك حين رؤيته، لما يحمله من معان يقبل عليها القلب السليم، فإياك أن يصادفك الله به وتتركه، أو يجعله في طريقك ولا تأبه له، أو يدلك عليه فضل الله ثم تبتعد مفارقا إياه، إنها حسرة ستشعر بها يوما.
والصنف الآخر هانت عليه نفسه طلبا لشهوة عارضة، ومتاع زائل، فهو يلهث كالكلب طلبا وإعراضا، وتجده مهزوما مكروها، يحمل الأثرة بين جنبيه، ولا يعرف للفضل سبيلا، يقتل نفسه في طلب رغباتها، عبدا لزوجته، عبدا لمنصبه، عبدا لأولاده، عبدا لماله، كل شيء عنده من الدين هين في سبيل المال، كل شيء عنده لا قيمة له إلا ماله ورغباته، إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث، فهو كالكلب يقاتل في سبيل شهواته، وليته يحمل وفاء الكلب، بل يحمل أسوأ ما فيه من خسة وغلبة شهوة، وإنك لواجد هذا الإنسان حيوانا خسيسا في صورة إنسان، إنه مظلم الباطن، مظلم الوجه، دنيء الطبع، خسيس الفكر، لا نور فيه، ولا وفاء له، ولا حمية عنده، إن طلبته في خير لم تجده، وإن احتجت له افتقدته، وإن ظهر فيك سوء رأيته مسرورا، هو يقول أنا ومن بعدي كل شيء، بل إن بعضهم لا يكون سعيدا إلا إذا رأى غيره في شقاء، أرأيت هذا البلاء؟!.
ومن أسوأ ما تجده أن تصادف مثل هذا الشخص، فإن وقع في طريقك فإياك أن تأمن له، أو تحسبه يوما محبا لك، أو وفيا لصداقتك، بل هو كلب أجرب، يبيعك بأبخس الأثمان، ومن شقاوة المرء أن يصادق أو يصادف هذا النوع من الناس، فهو وباء وبلاء وخيم، فإن عثرت عليه فدعه، وإن أوقعتك الظروف معه فابتعد عنه قدر ما استطعت، ومتى أمكنك، فهو يقول نفسي وبعدها الطوفان، ولا تجده صادقا ولا أمينا ولا محبوبا من أحد أبدا، يعيش لنفسه فقط، لأنه هانت عليه نفسه فأهانها، وملأت قلبه الشهوات فجعلته عبدا لها، والعجب أنه يدعي الرجولة على الناس وهو عبد ذليل أمام أولاده وزوجته ورئيسه في العمل، وهذا الشخص يعيش في بلاء وشقاء، ويعيش من يعرفه معه في ذلك إن لم يبتعد عنه.
وإنك واجد من الناس ما بين هذين الصنفين كثير، وإنما ذكرت لك الصنفين لتعرف طرفي النقيض، ومن كان فيه من صفات الأول فأهل لأن يترقى ليصل إليه في كامل صفاته، ومن كان فيه صفات الثاني إن لم ينظف داخله ويترقى فسيهبط حتى يصل إلى خساسة الثاني، وكل واحد من هذه الصنوف يعيش في الدنيا سعيدا أو تعيسا حسب نوعه، فمن هانت عليه الدنيا أراح واستراح، ومن هانت عليه نفسه عاش في شقاء، وكان على غيره بلاء.
ولذا كانت القاعدة: هوان الدنيا راحَة للقلب، وهوان النفس شقاء وبلاء.

 بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا

أستاذ الفقة المقارن – ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.