اللطيفة الثانية والعشرون : فرار النعمة
إذا كان للنعمة ملاذ ذكرته في اللطيفة السابقة فإن لها فرارا بعد استقرار، وإنما تفر النعمة من المرء بأمور، منها أن يستهين بها، فيضيعها ولا يحفظها، فمن لم يحفظ جوار نعم الله فرت منه ثم لا تعود، وضياعها بالاستهانة بها، وعدم تقدير قدرها، وتعظيم مكانتها.
ومنها ألا يخرج حق الله فيها، فتقف عن النمو، وتدنو من الزوال، فزكاة المال وصدقته تنميه، وما نقص مال من صدقة، بل هو كالعلم يزكو بالإنفاق.
ومنها أن يستخدمها فيما حرم الله عز وجل، وهيهات لمال استخدمه صاحبه في الحرام أن يستقر عنده مهما طال به الزمن أو مرت به الأيام، بل هو إلى زوال وفرار.
ومنها وأشدها أن يكون حاسدا كارها للنعمة عند غيره، فهو أدعى لفرارها منه، فالحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر لله جل وعلا ولمن أسداها إليه.
أما الحاسد فلا تهدأ روحه، ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاء ما للحساد في الأحشاء، وبئس الشعار للمرء الحسد، لأنه يورث الكمد، ويطيل الحزن، ويزيد الغيظ، وهو داء لا شفاء له، فالحاسد إذا رأى بأخيه نعمة بهت، وإن رأى به عثرة شمت، وإن زالت النعمة عنه سعد، ودليل ما في قلبه كمين، على وجهه مبين، وما رأيت حاسدا سالم أحدا من الناس، بل هو عدو لدود، حسود كئيب، صحبته لا خير فيها، وليس من ورائها طائل، وكيف تدنو النعمة ممن يبغضها، ومن العجب أن هذا الحاسد كاره للنعمة عند غيره ويتمنى ورودها عليه، وكيف له ذلك؟!.
والحاسد لا يرضى ولو أعطيته ما لديك من النعم، بل إنه لا يرضيه ولا يسعده إلا زوالها من بين يدي من يحسده حتى ولو كان الثمن بقاءه في الفقر، فيجلب لنفسه الهم والنكد، ولا يمنع خير الله النازل على غيره، ومن العبث أن تحاول إرضاء مثل هذا الحاسد، ولو تبعته لفرت منك النعمة كما فرت منه، فإنه يسهل على المرء ترضية كل ساخط في الدنيا حتى يرضى إلا الحسود، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة التي حسد من أجلها، وستفر منه، وتثبت عند غيره، فهي من الله، ولا يملك أحد أن يزيلها إلا هو.
ولذا كانت القاعدة: فرار النعمة بكفرها، وهو يكون بجحدها، وحسد مالكها، وإنفاقها في الشر عند نوالها، وكفرها يؤدي إلى الفقر والشقاء والضيق.