إن العلم والمعرفة نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان، يعلو به عن غيره، ويتسامى به عن الجهلاء، والمعرفة لون من الحكمة التي امتن الله بها على بعض عباده، فقد شاءت إرادته أن يجعل منهم الحكماء والبلهاء، والعلماء والجهلاء، وهيهات أن يقوم جاهل بعلم، أو أبله بنوع من الحكم.
والمعرفة تلك قد يكتسبها الإنسان بطريق التعلم، وهو يحتاج إلى مجاهدة ومثابرة، والتعلم على يد شيخ عارف بالله تعالى، يعلم خصائص النفوس، وكيفية إيصال العلوم إليها بطريق الشرح مرة والاختصار أخرى، وبطريق الإطناب مرة وبطريق الإيجاز أخرى، وهو يتلون معهم، ويتخولهم بالحكمة والموعظة خشية السآمة عليهم، متبعا نهج النبي r فقد روى ابن مسعود صلى الله عليه وسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا).
وفي رواية عن شقيق قال: (كنا جلوسا عند باب عبد الله ننتظره، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي، فقلنا: أعلمه بمكاننا، فدخل عليه، فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله، فقال: إني أخبر بمكانكم، فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملّكم، إن رسول الله r كان يتخولنا بالموعظة في الأيام، مخافة السآمة علينا).
وإذا كان الشيخ مأمورا بالموعظة لمريديه, كانوا مأمورين بالاستماع إليه, والإنصات له, حتى تقع المعرفة منهم الموقع الذي أراده الله عز وجل منهم.
وقد كان السلف يضعون القواعد لذلك حتى قال عبد الله بن مسعود t: حدّث القوم إذا أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا حدثوك بأبصارهم فقد أقبلت عليك قلوبهم، فإذا اتكأ بعضهم على بعض وتثاءبوا فلا تحدثهم.
ولا تنفع الموعظة والمعرفة في قلب أجرد، أو قلب مغلف بالمعاصي وران عليه الكسب الحرام والفعل الحرام، فقد خلا من الفهم، وتحول ناحية النقد، فبعض الناس إذا تحفز إليك وأنت تذكر له لونا من المعرفة وكانت غايته النقد والتجريح لم يكن مهيئا لنيل العلم ولا لحديث المعرفة، لأنه يسمع بأذنيه لا بقلبه، فتمر المعرفة على سمعه جرداء، ولا تنال من قلبه شيئا، وقد قال الحسن رحمه الله: لا ينتفع بالموعظة من تمر على أذنيه صفحا كما أن المطر إذا وقع في أرض سبخة لم تنبت.
وهذا النوع من المعرفة يأتي بالسماع للشيوخ، والتقلب بين أيدي العلماء الثقاة، فتأخذ عنهم ومنهم العلم الصالح، وتضع في ذلك قاعدتك: أن تمتلأ علما ثم تناقش، ولا تكتف بقليل العلم ثم تجادل العلماء، فذلك من الحماقة بمكان، وقد رأينا أناسا لا يحملون من العلم قدرا، ولا من النظر بصرا، ولا تعلو لهم راية، ولا تظهر لم آية، ولا تقوم لهم حجة، ومع ذلك يشغبون بين أيدي العلماء، فكانوا مظهرا للشيطان، ولسانا للباطل ليقفوا عثرة في طريق سير نور الحق، وحجابا دون انتشاره بين الناس، بل وبين وصول العلم إلى قلوبهم، وأمثال هؤلاء الناس ترك جدالهم أولى من إنفاق الوقت وإضاعته في إقناعهم، فالجدال الحسن لا يكون إلا بغية الوصول إلى الحق، لا الظفر والغلبة وحب الظهور، وادعاء العلم ونيل ثناء الناس، فغاية العلم العمل، ونهايته تقوى الله تعالى، وهو إن كان صحيحا بذر في قلب العالم التواضع ومحبة الوصول إلى الحق ولو كان هو المخطئ.
وهذا النوع من العلوم تعرف به علوم الشريعة والعقيدة وغيرها عن طريق دراسة الأدلة وأقوال العلماء، وفهمها وحفظها، وتطبيقها علما وعملا.
وطريق آخر للمعرفة يأتي من عند الله تعالى للعالم التقي النقي، فينزل الله تعالى عليه من العلوم ما لا ينقدح في ذهن غيره، ولا يرد على قلب سواه، ولذا يتفاوت الناس في العلوم، قال تعالى: ]وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[، فقد بينت الآية أن من يتق الله تعالى، ويجعل الحق نصب عينيه يجعل الله تعالى له نورا يعلمه به ما لا يعلمه غيره، ويقذف الحق في قلبه، وهو علم لدني، يأتي من الله تعالى العالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات، ولذا قال العلماء في تأويل الآية: أي يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية.
وهذا العلم هو الذي يطلق عليه العلم اللدني الذي يختص به الله بعضا من عباده، ممن هامت أرواحهم في ملكوته، وسارعت نفوسهم في مرضاته، فوهبهم ما لا يهب لغيرهم من العلوم، وإنك لذاهل من هذا العلم الذي تسمعه فيملك عليك قلبك ولا تجد له النفوس المريضة مساغا، لأنه أقفلت دونه، يقول المناوي رحمه الله: وقد ثبت أن دقائق علوم الصوفية منح إلهية ومواهب اختصاصية لا تنال بمعتاد الطلب، فلزم مراعاة وجه تحصيل ذلك وهو ثلاث: الأول: العمل بما علم على قدر الاستطاعة. والثاني: اللجأ إلى الله على قدر الهمة. والثالث: إطلاق النظر في المعاني حال الرجوع لأهل السنة، ليحصل الفهم، وينتفي الخطأ، ويتيسر الفتح.
فمن اتقى الله تعالى، وجعل وجوده نصب عينيه، ووصل إلى درجة الإحسان، وكان عالما متشرعا، يعرف حيل الشيطان ومكره، أنزل الله عليه من الحكمة ما لا ينزل على غيره، ولا يؤتاه أحد سواه، وإنما نقول ذلك لأن بعض الناس يخدعهم الشيطان ويسول لهم الباطل حقا، والغرور واقعا، فيجرون خلفه، ويهرفون بما لا يعرفون، فيكونون وبالا على الدين وأهله، فالعلم اللدني له أهل، يقول الإمام مالك رحمه الله: علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلا مع فتح قلبه وتنويره.
ولذا كانت القاعدة: إنما العلم بالتعلم، والعلم اللدني هبة من المولى لمن رعته عين العناية.
بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا