أصل الحال

اللطيفة السابعة عشر : أصل الحال

من يتابع أحوال الزاهدين وصفات العارفين يجدها متغايرة بحسب أمر الله فيه، فهناك من هو ثابت العقل، مستقر النفس، تظهر عليه آثار الإسلام والإيمان والإحسان، ولكنه منضبط ملتزم بها، فهو مجموع مع الله في الباطن، مفروق في الظاهر، تجد الله في كل ذرة منه، ولكنه يعامل الناس ويعيش بينهم، لا يظهر عليه غير كرم الطبع، وصلاح الدين، وروعة الزهد، وجمال المروءة.

وهناك من هو غائب عن الملك، سابح في أنوار الملكوت، مجتمع مع الله في باطنه، غير مفروق في ظاهره، فيغيب عن الوعي، يهذي كالمجنون، يرى في كل شيء ربه، ولو أشرت له على أي شيء وسألته لقال لك صارخا: الله، بل لو سألته عن نفسه لقال لك: الله، فهو لا يرى شيئا غير ربه، وهذا لا يُطلب منه تكليف، لأنه غائب عن الوعي، لم يفترق عن الله بعد اجتماعه به، فهو في باطنه مجموع، وفي ظاهره غير مفروق، فيكون أشبه بالمجنون، ولذا ظنه بعض الناس مشركا حين يسألونه عن أي شيء فيقول لهم: الله.

وهذا لا يؤخذ منه دين، ولا يتابع على حال، بل يترك أمره لله تعالى، لأنه اجتمع معه وغاب في عالمه، ولم يشأ الله له الفرقة، فظل مجموعا غير مفروق، إلا أن تدركه رحمة الله فيفترق، فيظهر في حاله الطبيعي، فتجري عليه أحكام الظواهر، ويُسأل عما يفعل أو يترك من تكاليف.

وهناك نوع ثالث يدعي أنه من أصحاب الحال، فيظهر البله والزهد والغيبوبة، وهو في الواقع لم يجتمع مع الله، ولم يفترق عنه، بل هو مدع كاذب، ويظهر ذلك من فلتات أقواله وأفعاله، ومثل هذا يؤدب، لأنه يدعي على الله ما ليس فيه، ويوهم الناس بما ليس منه، ومن أسف أن كثيرا من مدعي الزهد والتصوف من هذا النوع من الناس، وهم بلاء على التصوف وأهله، فهم يشوهون معناه، ويبعدون الناس عنه بتصرفاتهم، ويجعلونه في مرمى الإصابة، فهم يحسبون أنهم ببلاهتهم ولباسهم الممزق ورائحة العرق التي تفوح من أجسادهم قد اقتربوا من الله، ولا يعرفون عن الدين شيئا، لأن الدين نظافة، وما حرم على الناس يوما طعاما طيبا ولا لباسا طيبا، بل كان كبار الزهاد والعباد من أغنى الناس، وأنظفهم لباسا، وأكثرهم تمتعا بنعم الله تعالى من الحلال الطيب دون أن تكون الدنيا في قلوبهم.

وقد ذكر العباد أن الصدق والاخلاص أصل كل حال، فمن الصدق يتشعب الصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس، ومن الإخلاص يتشعب اليقين، والخوف، والمحبة، والإجلال، والحياء، والتعظيم، ولكل مؤمن في هذه المقامات موطن يعرف به حاله، فيقال له خائف وفيه الرجاء، وراجي وفيه الخوف، وصابر وفيه الرضا، ومحب وفيه الحياء، وقوة كل حال وضعفه بحسب إيمان العبد ومعرفته.

ولذا كانت القاعدة: الصدق والإخلاص أصل كل حال يظهر على صاحبه، والكذب والرياء أصل كل ادعاء وانسلاخ عن الدين ينطق من حال كل مدع ولو استعمل كل الحيل لإخفائه.

 بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا

أستاذ الفقة المقارن – ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.