سيدى ذو النون المصري.. الصوفيّ السائح في أرض الله!
العالم متعدد المواهب!
وُلد ثوبان بن إبراهيم المصري الملقب بأبي الفيض، في عام 155هـ/771م مدينة إخميم بصعيد مصر، لأسرة نوبية عرفت بالزهد والتقوى، فأخوه الملقب بذي الكفل كان تلميذا لأخيه ذي النون، وكان له أخت اشتهرت بين الناس بتقواها وتعبدها، حتى قيل فيها إنها تمنت المن والسلوى الذي أنزلهم الله على بني إسرائيل، فأوتيت سؤلها !
وسط هذه البيئة، عاش ذو النون حياته الأولى، تلك الحياة التي أنبتت فيه غرس التأمل والتفكر، فقد أُثر أنه سمع يومًا صياحًا وزفافًا، فقال ما هذا؟! قيل: عُرس! وسمع بجانبه بكاء وصياحًا، فقال: ما هذا؟ فقيل: فلان مات. فقال: أُعطي هؤلاء ما شكروا، وابتُلي هؤلاء فما صبروا. وأقسم ألا يبيت بالبلد فخرج إلى الفسطاط فصارت له موطنا وسكنا.
وفي تلك الأثناء تعرف ثوبان أو ذو النون على رجل كان السبب في تغير حياته إلى ميدان التصوف وعلوم الباطن والزهد والتقشف، ذلك الرجل كان شقران المغربي العابد، الذي اشتهر بالزهد والورع والتقوى، ولا نملك كثير معرفة بتاريخه وتفاصيل حياته، وفيه يقول عبد الوهاب الشعراني في “طبقات الصوفية”: “عارفٌ ظهرَ ضياؤه، وطابَ ذكرُه وثناؤه، كان ذا أحوال باهرة، ومقامات فاخرة”.
آثر ذو النون السفر لتلقي العلوم على كبار شيوخ وعلماء عصره، فتتلمذ على يد الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) إمام أهل المدينة، ومؤسس المذهب المالكي، حيث روى عنه الموطأ، وفي مصر سمع من الليث بن سعد المحدث والفقيه الشهير، كما سمع من الفضيل بن عياض وابن لهيعة وغيرهم، بل إن ذا النون لم يكتفِ بدراسة علوم القرآن والحديث، ليصبح واحدا من علماء الحديث في عصره آنذاك، بل قرر دراسة علوم الأسرار كما كان يُطلق عليها حينذاك، وهي علم الكيمياء والطلاسم “الآثار والنقوش” ودرس الطب وعرفه، وترك في الكيمياء ثلاثة كتب هي “الركن الأكبر” وكتاب “الثقة في الصنعة” وكتاب “العجائب”!
التصوف غاية ذي النون!
ومع هذه العلوم والمعارف الجَمَّة التي أهلته ليلزم دروسه طلاب عصره وشيوخهم، آثر ذو النون أن يُفني حياته زاهدًا عابدًا سائحا في أرض الله، وكانت حياته خليطا غريبا من الزهد والحرص على تأسيس مدرسة صوفية فريدة، ولعل هذا ما دفع المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل أن تصفه بأنه أحد الشخصيات الصوفية الجذابة والمحيرة في نفس الوقت، وأنه كان واحدًا من أبرز الشخصيات الروحية الخفية في الإسلام.
كان ذو النون أول صوفي في تاريخ الإسلام يتكلم في المعرفة على أساس علميّ منظم، بل اعتبر المعرفة بالله الغاية القصوى من الطريق الصوفي، يقول: “إنه بمقدار ما يعرف العبدُ من ربّه يكون إنكارُه لنفسه، وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات”، والمقصود بمعرفة الله هنا؛ إدراك العبد أن الله الحق وحده هو الفاعل لكل شيء، المريد لكل شيء، القادر على كل شيء، وأن العبد لا فعل له ولا قدرة ولا إرادة، وهكذا تؤدي المعرفة بالله كما يفهمها ذو النون إلى تمام إنكار الذات، وهذا معنى الفناء الصوفي الذي تجلى عند أبي يزيد البسطامي فيما بعد !
وقد فصّل ذو النون القول في المعرفة وأنواعها ودرجاتها وطرق الوصول إليها على نحو لم يسبق إليه، فمعرفة وحدانية الله طريقها الكتاب والسنة، ومعرفة فردانيته وقدرته طريقها الكشف، ومعرفة اسم الله الأعظم هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده. وكان لذي النون المصري الفضل في تعميق فكرة “الباطن” كأحد السِمات الملازمة لمفهوم التصوف، فحين يتكلم عن التوبة، يذكر أنها نوعان؛ توبة العوام، وتوبة الخواص، وتوبة العوام عنده تكون من الذنوب، أما توبة الخواص تكون من الغفلة عن ذكر الله والتفكر في ملكوته.
كما كان ذو النون المصري صاحب مدرسة صوفية متنقلة، كثير الأسفار، طلبا للقاء إخوانه ومريده للسماع منهم وإسماعهم، ويحكي عن نفسه حكايات كثيرة تدل على حبه للترحال والسياحة في أرض الله، فقد زار مكة والبصرة والشام وجبال القدس وسيناء وأنطاكية والعراق وغيرها، وأصبح له في كل مدينة وبلد من هذه البلدان مريدين نهلوا منه، وتأثروا به، وكان ذو النون مغرمًا بحب الطبيعة، وهو في دعواته لله يتجلى هذا العشق للطبيعة وجمالها، وينصرف كلامها وشعره في معظمه إلى المحبة وأشواقها والحبيب والغيبة والوصال، كما أنه رائد التعريف بالألفاظ والمصطلحات الصوفية مثل الأُنس والوجد والسماع والتوبة والإخلاص والتقوى والورع والتوكل والغفلة وغيرها.
من المحنة إلى المناجاة والرفعة!
ولعل غموض مصطلحاته، ولزوم طريق الصوفية من عدم الوضوح الذي لا يكاد يفهمه عوام الناس، حدا بكثير من الناس أن يتهموه بالزندقة والإلحاد، فحُمل إلى بغداد مقيّدا، ولاقى الخليفة العباسي المتوكل على الله ت 247هـ الذي أراد أن يستكشف حقيقة هذا الرجل وما يُتهم به، وقد لاقاه ذو النون ثابتا غير هياب للخليفة ولا مقامه، الأمر الذي جعل المتوكل يطلب من ذي النون أن يُسمعه شيئًا من كلام الزهاد، ليرد عليه ذو النون بعد إطراق وتأمل قائلا:
“يا أمير المؤمنين، إن لله عبادًا عبدوه بخالص من السرّ، فشرّفهم بخالص من شكره، فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغَى، حتى إذا صارت إليه ملأها لهم من سرّ ما أسرُّوا إليه. أبدانهم دنيوية، وقلوبهم سماوية، قد احتوت قلوبهم من المعرفة حتى كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفُرج وأطباق السماوات، لم يخبُّوا في ربيع الباطل، ولم يرتعوا في مصيف الآثام، ونزّهوا الله أن يراهم يتواثبون على حبائل المكر … بهم يُنشأ السحاب، ويُدفع العقاب والعذاب، وبهم يُسقى العباد والبلاد فرحمة الله علينا وعليهم”
أثّر كلام ذي النون ووعظه في نفس الخليفة المتوكل، ولمس فيه الصدق والعزم، كما أحسّ فيه بالاطمئان والراحة، وصار المتوكل طوال بقاء ذي النون في سجن بغداد يستدعيه بين الفينة والأخرى ليسمع منه، فلا يزيده سماعه إلا إيمانا واطئمنانا وراحة، حتى أُثر عنه أنه قال: “إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مُسلم”.
عاد ذو النون إلى مصر معزّزا من الخليفة وعامة الناس، مشتهرًا في آفاق العالم الإسلامي حينذاك، سيدًا من سادات التصوف، سائحا هائما على وجهه يناجي مولاه بما يحسنه من فعل وتأمل، وقد حُكي عنه أنه كان يتجول على شاطئ النيل وحيدًا فعرّج نحو الصحراء، وفجأة قابله شخص مجهول كشف له عن السر الذي طالما بحث عنه، ففي كتاب “تذكرة الأولياء” أن ذا النون المصري قابل امرأة على شاطئ البحر فسألها: ما هي نهاية الحب؟ قالت له: يا بطّال، الحب ليس له نهاية. فقال لماذا؟ قالت: لأن المحبوب ليس له نهاية!
ذو النون المصري.. الصوفيّ السائح في أرض الله!
إن ذا النون “نظر فعبر، وذكر فازدجر، فهو مُهم العلم المضيء، والحكم المرضي الناطق بالحقائق، الفائق للطرائق”
لقد أدرك ذو النون أن الدنيا لا قيمة لها، وأنها خَلقٌ من خَلقِ الله لا أكثر، وقد أُثر عنه أنه كان يقول: “إلهي ما أُصغي إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنه ليس كمثلك شيء، وأنك غالب لا تغلب، ولا تُجهل” !
ذلك الصوفي القديم الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري والنصف الأول من القرن الثالث الهجري، قبل ألف ومائة عام من الآن، ظلت آثاره وأقواله المتناثرة وأشعاره في مصادر الصوفية ذات صدى قوي فيمن لحقه، لا سيما في إيران والأناضول، فما فهمه ذو النون من لغة الأشجار والطيور والطبيعة من حوله، فهمه كذلك كبار شعراء الصوفية في إيران، والشاعر الصوفي التركي الشهير يونس إمره في الأناضول، حتى ليمكن أن يوصف ذو النون بأنه أول فلاسفة الصوفية !
في العام 245هـ/ 859م، وعن عمر ناهز التسعين سنة، قضاها ذو النون في جنب الله ورضاه، توفي في مدينة الجيزة المصرية، فحُمل في قارب، ولم يعبروا به النيل على جسر مخافة أن يقطع من الآلاف المؤلفة التي سارت في جنازته لدفنه في قرافة مصر، لتنتهي حياة الصوفي السائح في أرض الله، ذلك الرجل الذي قال عنه أبو نُعيم في كتابه الأشهر “حلية الأولياء” إن ذا النون “نظر فعبر، وذكر فازدجر، فهو مُهم العلم المضيء، والحكم المرضي الناطق بالحقائق، الفائق للطرائق”، وهذه إضاءة عابرة لا توفي سيرته الغامضة والمليئة بالغرائب حقها!