روي عن الإِمام الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى :” أنهما كانا بِفِناء الكعبة، ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حداداً، فتبادر من حضر إِلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حداد) ([1])
وعن أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى قال: (دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٍّ على الناس؛ فناداني وقال: ” واعلموا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما في أنْفُسِكُم فاحذَروهُ” ([2]). فاستغفرْتُ الله في سرِّي، فناداني وقال: ” وهوَ الذي يَقْبَلُ التوبَةَ عن عبادِهِ” ([3]) . ثم غاب عني، ولم أره “
ومثل هذا وقع لغيره. يقول خير النسَّاج رحمه الله تعالى: (كنت جالساً في بيتي، فوقع لي أن الجنيد بالباب، فنفيت عن قلبي ذلك، فوقع ثانياً وثالثاً، فخرجت، فإِذا الجنيد، فقال: لِمَ لم تخرج مع الخاطر الأول؟ ) ([4]) “
وحُكي عن إِبراهيم الخوّاص رحمه الله تعالى قال: (كنت في بغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة، حسن الحرمة حسن الوجه، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب، ثم رجع إِليهم وقال: إِيش قال الشيخ؟ فاحتشموه، فألح عليهم فقالوا: قال: إِنك يهودي. قال: فجاءني، وأكبَّ على يدي وأسلم، فقيل: ما السبب؟ قال نجد في كتبنا أن الصدّيق لا تخطىء فراسته فقلتُ: أمتحنُ المسلمين، فتأملتهم فقلت: إِن كان فيهم صدّيق، ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه، فلبَّستُ عليهم، فلما اطّلع عليَّ وتفرَّس فيَّ علمتُ أنه صدّيق، وصار الشاب من كبار الصوفية) ([5])
ولا عجب في ذلك فقد أخبر عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم” ([6])
ووقف نصراني على الجنيد رحمه الله تعالى، وهو يتكلم في الجامع على الناس، فقال: أيها الشيخ! ما معنى حديث: “اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله” ([7])
فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال: أسلمْ فقد جاء وقت إِسلامك، فأسلم الغلام ([8])
وحديث الفراسة أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد منهم يكاشف الشخص بما حصل له في غيبته، كأنه حاضر معه. وهي فتنة في حق مَنْ لم يتخلق بأخلاق الرحمن.
وقد يكون الكشف عن أصحاب القبور منعَّمين أو معذَّبين:
قال العلامة عبد الرؤوف المناوي رحمه الله تعالى عند شرحه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “لولا أن لا تَدافَنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر” ([9]) وإِنما أَحبَّ إِسماعهم عذاب القبر دون غيره من الأهوال لأنه أول المنازل. وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومَنْ كُوشف بما لا يطيقه هلك.
تنبيه: قال بعض الصوفية: (والاطلاع على المعذَّبين والمنعَّمين في قبورهم واقع لكثير من الرجال، وهو هول عظيم، يموت صاحبه في اليوم والليلة موتات، ويستغيث ويسأل الله أن يحجبه عنه، وهذا المقام لا يحصل للعبد إِلا بعد غلبة روحانيته على جسمانيته، حتى يكون كالروحانيين. فالذين خاطبهم الشارع هنا هم الذين غلبت جسمانيتهم لا من غلبت روحانيتهم، والمصطفى صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قوم بما يليق بهم) ([10])
قال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى: (اعلم أن المرء إِذا صفا قلبه صار ينظر بنور الله، فلا يقع بصره على كدرٍ أو صافٍ إِلا عرفه. ثم تختلف المقامات، فمنهم من يعرف أن هناك كدراً ولا يدري ما أصله، ومنهم من يكون أعلى من هذا المقام فيدري أصله، كما اتفق لعثمان رضي الله عنه، فإِنَّ تأمُّل الرجل للمرأة أورثه كدراً فأبصره عثمان، وفهم سببه.
فالفراسة أمر جائز الوقوع، وهي منحة إِلهية يكرم الله بها عباده الصالحين الذين تمسكوا بدينهم، وحفظوا جوارحهم، وصقلوا قلوبهم، وهذبوا نفوسهم.
قال المناوي في شرح الجامع الصغير عند قوله عليه الصلاة والسلام: “إِنَّ لكل قوم فراسة، وإِنما يعرفها الأشراف”: (قاعدة الفراسة وأسُّها: الغض عن المحارم، قال الكرماني: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوم المراقبة، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المخالفات، واعتاد أكل الحلال لم تخطىء فراسته ابداً. اهـ فمن وُفِّق لذلك أبصر الحقائق عياناً بقلبه) ([11])
وعلى كلٍ فالقلوب تختلف باختلاف صقلها وتنظيفها من أدران الذنوب المظلمة، فهي كالزجاج كلما صقل ازداد ثمنه .
فمن جدَّ وجد، ومن سار على الطريق وصل، ومن أتقن المقدمة وصل إِلى النتيجة، والبدايات تدل على النهايات ([12]).
([1]) “تفسير القرطبي” ج10. ص44
([6]) رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك. وإِسناده حسن، كما في مجمع الزوائد ج10 ص268
([7]) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري. في كتاب التفسير
([8]) “الفتاوى الحديثية” لابن حجر الهيثمي ص229
([9]) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة ومتعة نعيمها، والنسائي عن أنس ابن مالك رضي الله عنه
([10]) “فيض القدير، شرح الجامع الصغير” للعلامة المناوي ج5. ص342