بقلم الدكتور / الفاتح محمد
أنكر أحد الشباب علىَّ فى مسألة فرعية مختلف فيها؛ فقلت له: ولكن هذا مذهب الإمام الشافعى.
فقال لى: ولكن الرأى الراجح ما ذكرته لك.
فقلت له: الراجح عند من؟
فقال لى: ابن عثيمين!
فقلت له: الشافعى ولا ابن عثيمين؟
فقال لى: ابن عثيمين نظر فى الأدلة ورجح حسب الدليل!!
هذا حوار قصير دار بيننا قبل شهرين تقريبا، وهو يلخص المشكلة العامة التى نعيشها، فنحن نجنى ثمرة الخطاب الوهابى الذى نشر مغالطات فجة بين الناس خلال ستين سنة، وهذه هى ثمرتها.
أصبح التصور أن ابن عثيمين أعلى مقاما من المذاهب الأربعة؛ فهو الميزان الذى توزن به أقوالهم، وهو القسطاس المستقيم!! ويستعينون بعبارة الإمام مالك “كل يؤخذ من كلامه ويرد إلى النبى صلى الله عليه وسلم”، هذه العبارة التى ابتُذلت بوضعها فى غير موضعها، دون دراية بالآلات التى ينبغى أن توجد فى من يأخذ ويرد.
الأمر الثانى أن ما تظنه إنجازا لابن عثيمين، ما هو إلا إعادة اختراع للعجلة؛ فالفقه المذهبى مر بمراحل طويلة من النقد الذاتى والأخذ والرد (الذى كان يقصد إليه الإمام مالك)، وتجد فى المذهب الواحد تصفية وتنقية للأقوال وتحرير كل قول بالأدلة… كل ذلك وفق منهج عام وقواعد كلية تنتظم من خلالها المسائل الجزئية.. أما الفوضى التى سمَّوها (القول الراجح) فما هى إلا تساهل غالبا يكون بالنظر فى ظاهر الأدلة باجتزاء لا ينتظم ضمن قواعد كلية.
المأزق الثالث أن الناس ظلوا قرونا طويلة يدرسون الفقه قبل مجيء ابن عثيمين برأيه الراجح، وظلت الأمة قرونا طويلة تصلى قبل كتاب الألبانى “صفة صلاة النبى”، وظلت الأمة قرونا تعبد الله قبل أن يخرج محمد بن عبد الوهاب علينا ب”نواقض التوحيد”…إلخ
فما حكم هؤلاء الذين عاشوا فى عصور الظلمات السابقة؟ وهل كان الدليل مختفيا حتى جاء ابن عثيمين المتوفَّى قبل ٢٥ سنة ليكشفه لنا؟!!
المأزق الثالث: إذا كنت يا أخى الكريم تأخذ بالرأى الراجح كما حدده لك ابن عثيمين؛ فما رأيك لو كان الراجح عند ابن عثيمين يختلف عن الراجح عند ابن باز أو الألبانى؟!
وقد ألف أحدهم كتابا دسمًا فى المسائل التى اختلف فيها هؤلاء الثلاثة.
فى هذه الحالة، هل ستعترف بوجود الخلاف، وأن المقلد يسعه أن يقلد من شاء من الشيوخ الثلاثة، وهو ما رفضته من قبل مع اختلاف المذاهب الأربعة بدعوى اتباع الراجح والدليل؟
أم ستلجأ إلى شيخ ثالث -غالبا من الأحياء كالعدوى أو الخميس أو برهامى أو رسلان- ليفصل بينهم، ثم يذكر لك الرأى الراجح؟!
أم أنك ستذهب إلى الدليل بنفسك، وتعين من نفسك ميزانا وقاضيا، وترجح بين ثلاثتهم؟
كلها احتمالات واهية ومتهافتة كما ترى… وتسقط معها أسطورة الرأى الراجح.
أنا أفهم الرأى الراجح حين يكون المشهور والمعتمد من المذاهب الأربعة على رأى، وهناك رأى آخر مهجور لبعض الفقهاء. أما ما سوى ذلك فعملية الترجيح نسبية تختلف من عالم لآخر، والترجيح للعالم يكون وفقا للقواعد الكلية فى مذهبه التى تختلف مع قواعد المذاهب الأخرى، ولا يوجد سبب واحد يجعلنى أرجِّح ترجيح ابن عثيمين على ترجيح إمام كالنووى فى الشافعية أو خليل فى المالكية أو السرخسى فى الحنفية أو ابن قدامة فى الحنبلية.
باختصار: الراجح عندى أن نظرية الرأى الراجح (اشتغالة) من (الاشتغالات) الكبرى التى روج لها السلفيون، والأرجح أنها وهم كبير.
ورحم الله أبا العلاء إذ يقول:
وقلتِ: البدرُ فى العلياء تبْرٌ .. ومثلُكِ مَن تخيَّلَ ثم خالا
وفى ذَوْب اللُّجين طمعتِ لمَّا .. رأيتِ خيالَه يغشى الرِّمالا