اللطيفة التاسعة عشر : عدم فهم الدين كارثة
adminaswan
29 سبتمبر، 2024
الطريق إلى الله
25 زيارة
اللطيفة التاسعة عشر : عدم فهم الدين كارثة
لقد ابتليت هذه الأمة ببلاءات عديدة، من أهمها ابتلاؤها بتفرق علمائها، وتفرق وجوه اتباعهم، ودفاع كل منهم عما يعتقده دون أدنى نوع من التعقل أو الفهم الصحيح للدين، وليته توقف عند هذا الحد حتى هاجم الآخرين بضراوة أشد من هجومه على غير المسلم، وهو نوع فرقة أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها)، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فرقة واحدة على الدين الصحيح، ونبه إلى أن شعار هذه الفرق المارقة مفارقة الكتاب والسنة والإجماع، ونبه على أن فرقة واحدة ستكون على الإسلام الصحيح، فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفهم فكلامه لا وزن ولا اعتبار له.
لقد جنى كثير من العلماء أتباع هذه الفرق والمذاهب على الإسلام، فشددوا على شباب الأمة، وضيقوا أمامهم دين الله تعالى، وألبسوهم ثوب الكدر والضيق والمشقة، فكرهوا هذ الدين ونفروا منه، ولم يعرفوا أن هذا الدين من يعتنقه بحق يحيا حياة طيبة، لا كدر فيها ولا تعب، فقد قال سبحانه وتعالى:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، لقد وعد الله تعالى من يؤمن ويعمل صالحا أن يحيا حياة طيبة، حياة يملؤها الهدوء والاستقرار، وطيب النفس، وجمال الروح، وعدم التعلق بالماديات، والشعور بالغنى الحقيقي حين تكون مع الغني، والقوة حين ترى أن من يعينك هو القوي، والرحمة حين ترى أن من تعبده هو الرحمن الرحيم، والسعادة حين تعلم أن أسماءه وصفاته كلها هيبة وكمال وجمال وجلال.
لقد أخذت الفرق السابقة بتصيد أخطاء كل فريق، وكان عنوان الحرب الفكرية والهمجية في النظرة هي الأصل، ولم يكن بينهم تراحم ليلتقوا في منطقة وسط هي منطقة هذا الدين، تلك المنطقة التي امتدح الله بها هذه الأمة، فهي لم تغال في المعاني، ولم تتعلق بكل المباني، بل كانت وسطا في كل شيء، فاهتدى إلى دينها ملايين الخلق في كل العصور، وكان التجار البسطاء بأخلاقهم سببا لنشر الدين وفتح العديد من البلاد التي لا يمكن فتحها بالسيف، ولم يصل إليها الإسلام بقوة الدولة، بل وصل إليها بقوة أخلاق أتباعهم، وتمسكهم بصحيح الكتاب والسنة، وما بلاد شرق آسيا عنا ببعيد.
لقد أضر كثير ممن ادعوا السلفية بهذا الدين حين شددوا وتمسكوا فيه بالمظاهر، ولم ينظروا إلى إصلاح الباطن، فكانت اللحية والثوب وبعض مسائل العقيدة أصل الجدال عندهم، ولم ينظروا إلى ترقيق القلب وصلته بالله تعالى، وكان كل من يخالف نهجهم هذا في ظنهم فاسقا إن لم يكن كافرا، ولم يراعوا عدم الإنكار في المسائل الخلافية، بل إنهم يقيمون حربا شعواء على من يخالفهم ولو في مسألة، فعندهم إما أن تسلم لعقيدتهم كاملا أو لست منهم في شيء، حتى اتهم الكثيرون منهم الأزهر الشريف في عقيدته، واتهموا الكثير من شيوخه وعلمائه بابتعادهم عن عقيدة السلف، والتمسك بالعقيدة الأشعرية.
وأضر كثير من الصوفية بالتصوف ومكانته حين ظنوا أنه ترقيع للثوب وتغييب للتكاليف، واهتموا في دعواهم بالباطن وإغفال الظاهر، فظنوا أنهم بعملهم هذا تقربوا إلى الله، ووصلوا إلى لب الدين، فتركوا الفرائض، وخالفوا بذلك الكتاب والسنة، فليس التصوف والزهد لبس خشن الثياب وأكل جشب الطعام، بل هو تمتع بكل نعم الله تعالى متى كانت في إمكان المرء مع اهتمام بالباطن وإصلاحه وربطه بخالقه جل وعلا، وكان أعلام الزهاد من أغنى الناس مالا وأكثر هم أملاكا، فكانوا تجارا مهرة، وعلماء أنقياء أتقياء، ولكنهم زهدوا في المال بقلوبهم وليس بأيديهم، وحين دخل في التصوف بعض المدعين، وادعوا الحال والجذب تركوا الشريعة على ظاهرهم، فهاجمهم الناس وهم محقون، فليس هذا حال التصوف ولا طلب أهله، فخلطوا بأعمالهم هذه بين أهل الحال الذين انجذبوا بالفعل وبين دعاة الجذب، فالمجذوب الحقيقي يترك وحاله، ولا يؤخذ منه دين ولا تنقل عنه شريعة، لأنه في حاله مع الله فيترك وحاله، ولا يكون قدوة أبدا.
وكذا أضر بالدين كثير من الفرق التي اهتمت بفقه الدولة فقط، كالجماعات الإسلامية، والإخوان المسلمين، حين كان جل تركيزهم على فقه السياسة الشرعية دون إدراك لحقيقة الواقع، ودراسة للسياسة والاقتصاد، وفقه واقع الدول والعلاقات الدولية بقدر متوازن، فظنوا أنهم محتكرين للدين وفقهه، واستغل بعضهم ذلك في الوصول إلى المناصب دون أن يهتموا ببناء الإنسان أولا، فنتج عن ذلك أضرار كثيرة وقعت بالدين من حيث أرادوا صلاحه، بل وكفّر جمع منهم الأمة، وهجروا أهلهم، وكانوا وبالا على الدين والمجتمع بغلظتهم حتى مع أهلهم وذوي قرابتهم.
وقد أضر بالإسلام بعض فرق الدعوة التي تطوف البلاد ليل نهار من أجل دعوات بعينها، وتترك أهلها وأولادها بدعوى أنهم تركوهم لله، ولو صدقوا لجاهدوا فيهم بالتربية والتهذيب، وإصلاح حياتهم وأموالهم، وما تركوا أولادهم وبلادهم، وكان جهادهم في التربية العلمية والعقلية الصحيحة.
إن هذا الدين يسر وبه من الرفق والرحمة ما لا يملكه دين آخر، ولا يناطحه أي نظام تربوي، فكل ما هو صحيح في العالم، وكل ما يثبته العلم من قواعد صحيحة في التربية والأخلاق تجده في هذا الدين واقعا نصوصا وتطبيقا، ولذا فإنك واجد من يسلم من أهل الغرب أو غيرهم أحسن إسلاما من المسلم الأصلي، لأنه فهم واقتنع، ولو كان المسلمون في هذا العصر عنوانا لدينهم لكانوا عنوانا سيئا وكافيا لتنفير الناس عنه.
إن معظم المسلمين في هذا العصر بلاء على الإسلام بعدم فهمهم له، وكثير من العلماء بلاء على هذا الدين وكارثة حقيقية بعدم فهمهم له، وحبهم للغلبة والظفر، ولو كان الحوار بينهم بالتي هي أحسن لاتضحت الأمور، وراقت الأفكار، ولظهرت عظائم هذا الدين للعالم أجمع.
ولذا كانت القاعدة: فهم الدين نعمة بدأ وانتشر بها وبقوم فهموه، وعدم فهمه كارثة، وهي أعظم في حق من يدعي العلم ويتكلم باسم الدين وهو منه براء.
بقلم / أ.د/ حسين عبد المجيد أبو العلا
أستاذ الفقة المقارن – ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقا