اللطيفة السادسة عشر : نعمة التوكل على الله
ألا ما أروع حياة المتوكلين، وما أبدع أقوالهم، وما أجمل العلاقة بينهم وبين ربهم، إنهم أناس ارتاحت قلوبهم واطمأنت نفوسهم، وعاشوا في الدنيا سعادة لا يدركها إلا من نالها، جعلوا أمورهم كلها لله، ورضوا عن الله ورضي عنهم، أخذوا بالأسباب لأمره بها، ولم يعتقدوا لها فاعلية، وقد خص الله أهل ولايته بالتوكل، لأنه نظام الإيمان، وقرين التوحيد، وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر، ووجود الراحة، ومن توكل على الله جل وعلا من صحة قلبه كان الله جل وعلا بما تضمن من الكفالة أوثق عنده بما حوته يده، ولم يكله إلى عباده، وآتاه رزقه من حيث لم يحتسب.
ولا يكون المرء متوكلا إلا بقطع القلب عن العلائق برفض الخلائق، وإضافته بالافتقار إلى محول الأحوال ومقدر الأقدار، ويكون العدم والوجود عنده سواء، لا فرق عنده بينهما، يشكر عند الوجود، ويرضى عند العدم.
قال أحدُ العارفين ناصحاً لمريده: يا بني توكلْ علي الله في كل شيء، واعتزل الهوى، ولا تقنع من نفسك بالتربص، وأخمل ذكرك، وأدم لله شكرَك، وأكثرْ من الاستغفار، واعتبر بالأفكار، وعليك بالتأني عند موارد العجل، وحسن الأدب في المحافظة، ولا تغضب لنفسك على الناس، واغضب لله على نفسك، ولا تكافئن أحداً بإساءته، واحذر المدحة للجاهل بنفسه، ولا تقبلها لنفسك من أحد، ولا تكافئن أحدا بإساءته، وأقلل الضحك، وجانب المزاح، واكتم الأوجاع، وأظهر التعفف، واستبطن الثقة، واستشعر اليأس وحسن الفقر، واصبر على ما أصابك، وارضَ بما قسم الله لك، وكن من عدو الله على يقين، ومن آثارك على وجل، ولا تتكلفن ما قد كفيت، ولا تضيعن ما وكلت بطلبه، وافتقر إلى الله في كل عطائه، وارغب في النجاة منه، واعف عمن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وصل في الله من قطعك، وآثر في الله من أحبك، وابذل نفسك ومالك لإخوانك، وراعِ حقوقَ المولي في دينك.
ولذا كانت القاعدة: التوكل محض الإيمان، وهو فريضة على العباد، ولا يكون الإيمان إلا بتوكل، وكما أن الإيمان يزيد وينقص كذلك التوكل يزيد وينقص، والناس يتفاضلون في التوكل والإيمان على قدر اليقين.