لكي يسير السالك في طريق الله، ويحقق المريد ما يصبو إليه من الوصول إلى الله لابد له من يقظة وتنبه من غفلته، ثم العمل بما أنزله الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يحتاج إلى عزم وقصد صحيح، ومتى صح العزم والقصد احتاج الأمر إلى إرادة لتنفيذ هذا العزم، ومن هنا كان مناسبا أن تأتي الإرادة في مرحلة سابقة عن العمل، إذ لو كان هناك عزم ونية ولم تكن إرادة ما ظهر العمل إلى الوجود، ولظل خفيا في باطن المرء.
قال بعض العارفين: إنما أبعد القلب من الله عز وجل مظاهر أعمال الجوارح بغير مواطأة من القلب بصحة القصد؛ يعني بذلك نقص الإخلاص بها لأجل الله تبارك وتعالى.
فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه، ثم وقوفه على حده، ثم إحكامه لحاله التي أقيم فيها، ثم قيامه بعلمه الذي فُتح له، فيبتدئ العمل بما افترض عليه بعد اجتنابه ما نهي عنه مبلغ علمه ووسع وجده، لا يشتغل بطلب فضل حتى يُحكِم عمل فرض، لأن الفضل ربح لا يصح إلا بعد رأس المال، ولكل فضل آفة قاطعة، فمن سلم منها حاز فضله، ولكل أمر نفيس مؤونة ثقيلة، فمن تحملها أدرك نفيسها، ومن تعذرت عليه السلامة فهيهات أن يصير إلى فضل كرامة، ومن لم يصبر على تحمل غرامة لم يدرك علو مقامه.
والإرادة يراد بها قصد الوصول إلى المحبوب بنعت المجاهدة، أو التحبب إلى الله بما يرضى، والخلوص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة، والصبر على مقاساة الأهوال ومنازلة الأحوال، والإيثار لأمره، والحياء من نظره، وبذل المجهود في محبوبه، والتعرض لكل سبب يوصل إليه، وصحبة من يدل عليه، والقناعة بالخمول، وعدم سكون القلب إلى شيء دون الوصول، وهي أول منازل القاصدين، وبدء طريق السالكين، والمريد من لا إرادة له دون مولاه.
والارادة إرادتان: إحداهما الدنيا، والأخرى للآخرة، فالصدق والإخلاص إنما هو إذا أراد العبد بعمله وجه الله، وليس فيه شيء من معاني الدنيا، والرياء إنما هو أن تكون الإرادة كلها للدنيا.
والإرادة على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: إرادة التبرك والحرمة، وهي لمن ضعفت همته أو كثرت علائقه، وهذا يكون من المحبين للصالحين الذين يقومون باتباعهم والتبرك بعلومهم، قال شاه الكرماني: ما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء الله، فإذا أحب أولياء الله فقد أحب الله فأحبه الله تعالى.
وقال يحيى بن معاذ: من صحب الأولياء بصدق ألهاه ذلك عن أهله وماله وجميع أشغاله، وإذا لم يصح هذا مع الأولياء لا يشم رائحة الاشتغال بالله أبدا.
ومتى أحب المرء شيخه كان أهلا لأن يأتي تحت لوائه يوم القيامة، وأن يشفع فيه مع غيره من أحبابه، ففي الخبر: إذا اجتمع العالم والعابد على الصراط، قيل للعابد: ادخل الجنة وتنعم بعبادتك، وقيل للعالم: قف اشفع لمن أحببت.
فمن أحب أولياء الرحمن فهو معهم في الجنان، ومن أحب حزب الشيطان فهو معهم في النيران، فالمحب مع محبوبه في الدنيا والآخرة، وفي الخبر: ولا يحب رجل قوما إلا جعله منهم.
والمرتبة الثانية: إرادة الوصول إلى الحضرة الإلهية، وهي لأهل التجرد وقوة العزم، وهذه الإرادة تصل بمن قام بها إلى حضرة الذات العلية، وهي مع فضلها إلا أنها قاصرة في مرتبتها على من وفقهم الله لفضله، ووصلوا إلى الحضرة بمجهودهم، فهم في معية الله تعالى، وقيل لمن أراد هذه المرتبة: إن كنت مريدا صادقا تحب النظر في عواقب الأمور فأغلق على نفسك باب الطمع، وافتح لها باب الإياس، وانفرد لذلك بإرادتك كلها، وتجرد في طلبه كالذي ليس له من حوائج الدنيا كلها إلا حاجة واحدة، وتعزم عزما صحيحا على أن تهب نفسك لله في بقية عمرك إن كنت تراه لذلك أهلا سبحانه وتعالى، وما أغناه عن أهل السموات وأهل الأرضين وما أشد اضطرارهم اليه.
فاجعل أيها المريد نفسك كهيئة الأسير في أيدي أهل زمانك أيام حياتك في اتباع مرضاة الله عز وجل، والتخلص من بلية العز، فإن الاسير مملوك لا يملك، ولا يطمع أن يظلم أحدا، ولا ينتصر من ظالم، ثم تجد حلاوة طعم ذكر الله ولذاذة المناجاة في عبادة الله، ثم استخراج العز وقطعه عن قلبك باليأس من الناس، لأنه يردك إلى الله، ورجوعك إلى الله سكون قلبك عليه، وفي سكون قلبك عليه الازدياد من طاعته، والوصول إلى خاصية عبادته، وفي الوصول إلى خاصية عبادته النزول عند درجة العبيد، وفي النزول عند درجة العبيد إصابة شرف العبودية، ومن إصابة شرف العبودية اكتساب القلب المذلة لله عز وجل، فأعزك بطاعته، وخضعت له فشرّفك بعبادته.
قال سفيان الثوري: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فأفضل شيء للعبد معرفته بنفسه، ووقوفه على حده، وإحكامه لحاله التي أقيم فيها، فابتداؤه بالعمل بما افترض عليه بعد اجتنابه ما نهي عنه بعلم لم يدبره في جميع ذلك، وورع يحجزه عن الهوى في ذلك، ولا يشتغل بطلب فضل حتى يفرغ من فرض، لأن الفضل لا يصح إلا بعد حوز السلامة، كما لا يخلص الربح للتاجر إلا بعد حصول رأس المال، فمن تعذرت عليه السلامة كان من الفضل أبعد، وإلى الاغترار أقرب.
المرتبة الثالثة: إرادة الخلافة وكمال المعرفة، وهي مرتبة مقررة لمن ظهرت نجابته، وكملت أهليته، وصرح له بالخلافة من شيخ كامل وهاتف صادق.
وهذه المرتبة لخواص الخواص، وهم المرادون من الله عز وجل، الذين اختارهم الله بعين الجود لا ببذل المجهود، لأنهم لم يكن لهم اختيار مع الله، بل اختاروه هو سبحانه، وهو اختار لهم أن يكونوا من الأولياء والأصفياء، فكانت إرادتهم كلها لله وحده، وليس لهم مع الله إرادة ولا اختيار.
وهي لا تكون إلا إذا كانت الإرادة كلها لله بلا أي شرك أو شوب رياء أو غيره، روي أن حكيما من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين مصحفا في الحكمة حتى وصف بالحكيم، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقا ولم تردني بشيء من ذلك، وإني لا أقبل شيئا من نفاقك. قال: فأسقط في يديه، وحزن، وترك ذلك، وخالط العامة، ومشى في الأسواق، وواكل بني إسرائيل، وتواضع في نفسه، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: الآن وافقت رضاي.
وقد قال الهروي رحمه الله: والإرادة من قوانين هذا العلم وجوامع أبنيته، وهي الإجابة لدواعي الحقيقة، أي الانقياد لها طوعا، ولا يكون ذلك إلا بجاذب نور يكشف ظلم الرسوم إلى الانعدام بنور التجلي الجمعي الفردي الذي يؤدي إلى الصحوة.
وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: ذهاب عن العادات بصحبة العلم، فلكي يصح للمريد إرادته لابد أن يخرج من عاداته، وقد قلت أكثر من مرة: خير عادة ألا تكون لك عادة، ويجعل العلم الشرعي بدلا عنها، ويتعلق ويتقيد بأنفاس السالكين في مقامات العبادة مع صدق القصد، والخلاص من الرياء، وخلع كل شاغل من الإخوان ومشتت من الأوطان.
وإنما كان ذلك لأن الإرادة يقترن بها الهوى والشهوة، لتضيع على المرء عمله، وتأخذه إلى آفة الغرور والكبر، فيضيع عمله، ويحسب أنه محسن من حيث إنه مسيء، ولذا قال العلماء: كلما أراد العبد أو همّ بالعمل من قريب أو بعيد ابتدر الهوى والشهوة والنية الصادقة فيهما الى القلب بذكر ما يرجى وما يؤمل من مثل ذلك العمل من حاجات الدنيا وشهواتها، ومنافعها ومرافقها ولذاتها، وما يؤنس بمثله من الأشياء، وما حسن موقعه من الناس، وذكرهم له بالثناء والمحمدة، والقدر والجاه والرفعة والرئاسة، والإرادة الصادقة في كل ذلك غائبة، وما دامت غائبة فالقلب يقبل هذه الأشياء، لا يرد منها شيئا، لأنه لا بد أن يكون للقلب أمل في هذا العمل الذي أراده وهمّ به، والإنسان أكثر شيء نسيانا، وأكثر النسيان في ذلك الوقت، لأن هذه الأشياء التي جاءت بها النفس والهوى إلى القلب مما ذكرته من الثناء والمحمدة، والرفق والقدر والجاه والرئاسة والمنزلة كلها مما يتحلى به القلب، ويشتهيه ويرغب فيه، فلذلك تكثر الغفلة والنسيان للإرادة الصادقة.
أما من شاء الله عز وجل أن ينعم عليه حتى تكون الإرادة الصادقة أمام الهوى وشهوة النفس، وحتى يريد بالعمل وجه الله والدار الآخرة، ففي هذا يكون شغل القلب عند ذلك وفيما يؤمل فيه من رضى الله عز وجل وثوابه، وما جاءت به النفس والهوى مما ذكرته لم يقبله القلب، ورده عليهم، ففي هذا أعظم النعم، وعلى صاحبه أكثر الشكر.
الدرجة الثانية: تقطع بصحبة الحال، يعني أنه إذا انقطع عن المألوف والعادات بصحبة الحال، فبذلك ينتقل من مقام الإيمان إلى مقام العيان بواسطة التعرف الوارد على القلب المغير لوصف التقليد بوصف المكاشفة، وترويح الأنس بالانتقال من تعب عمل أهل التكليف التقليدي إلى ترويح القلب بعمل أهل الأنس، فإن لكل مقام عمل يليق به، والسير بين القبض والبسط، أما القبض فمن جانب النفس أو العلم، وأما البسط فمن جانب القلب أو المعرفة.
الدرجة الثالثة: ذهول، وهو غيبة في المشاهدة بالحال الغالبة، لكنه مع صحبة الاستقامة، وهي أن يحفظ عليه أداء الفرائض في أوقاتها، وملازمة الرعاية، أي رعاية حق الله تعالى، وحق شيخه، وحق وقته حتى يصفو مشربه، مع تهذيب الأدب مع الله عز وجل ومع الخلق أجمعين.
والإرادة باب من الخير كبير، وتوفيق من الله عظيم، فهي أصل كل طاعة، ونواة كل قربة، وضعفها آفة كل عمل، ولذا اهتم المربون بها، وعملوا على غرسها وتهذيبها لدى مريديهم، وكانوا يعلمونهم أن الإرادة إرادتان، إحداهما للدنيا، والأخرى للآخرة، فالصدق والإخلاص إنما هو إذا أراد العبد بعمله وجه الله، وليس فيه شيء من معاني الدنيا، والرياء إنما هو أن تكون الإرادة كلها أو بعضها للدنيا، فمنه ما يكون العبد يريد بعمله في أصل العمل المحمدة والثناء، ومنه ما يكون العبد يريد به في أصل عمله وجه الله والدار الآخرة، ويحب أن يحمد بعمله ويثنى عليه، ومنه ما يكون العبد يريد بعمله وجه الله وحده والدار الآخرة، فإذا دخل في العمل على ذلك الإخلاص عرض له بعض ما ذكرنا من الآفات فقَبِلَها، وأحب أن يحمد على عمله، وأن يتخذ به منزلة عند أحد من المخلوقين، ومنه ما يكون العبد يريد بعمله وجه الله والدار الآخرة ويختم عمله بذلك، ويطالب بالآفات بعد الفراغ من العمل ولو بعد حين حتى يخبر بذلك العمل، يريد أن يحمد عليه، ويتخذ به الجاه والمنزلة عند المخلوقين، فهذا أسهل من جميع ما ذكرنا، والناس في هذا مختلفون.
وصدق من قال: واعلم أن لك في عملك إرادة وأملا، فانظر إرادتك في أعمالك كلها كإرادة أهل الشكر والرضا، وأملك فيه كأول المسرفين على أنفسهم، فليس شيء أحب إلى أهل الرضا من شيء يرضى الله به، ولا شيء أحب الى أهل الشكر من شيء يشكرون الله عليه، ولا شيء أولى بأهل الإسراف على أنفسهم من شيء يرجون به عفو الله، واعلم أيها الحبيب أني لست من قلة العمل أخاف عليك وعلى مثلك، ولكني أخاف عليك من قلة المعرفة وضعف الإرادة.
وهذا آخر يقول: وأصل فساد القلب ترك المحاسبة للنفس، والاغترار بطول الأمل، فإذا أردت صلاح قلبك فقف مع الإرادة وعند الخواطر، فخذ ما كان لله، ودع ما كان لغيره.
وقال بعض العارفين: الذي قطع العباد عن الله عز وجل ثلاثة أشياء؛ قلة الصدق في الإرادة، والجهل بالطريق، ونطق علماء السوء بالهوى.
وقال بعض علمائنا: إذا كان المطلوب محجوبا، والدليل مفقودا، والاختلاف موجودا لم ينكشف الحق، وإذا لم ينكشف الحق تحير المريد، واعلم أن المريد لابد له من خصال سبع: الصدق في الإرادة، وعلامته إعداد العدة، ولا بد له من التسبب إلى الطاعة، وعلامة ذلك هجر قرناء السوء، ولا بد له من المعرفة بحال نفسه، وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس، ولا بد له من مجالسة عالم بالله، وعلامة ذلك إيثاره على ما سواه، ولا بد له من توبة نصوح، فبذلك يجد حلاوة الطاعة، ويثبت على المداومة، وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى، والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه، ولا بد له من طعمة حلال لا يذمها العلم، وعلامة ذلك الحلال المطالبة عنه، وحلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع، ولا بد له من قرين صالح يؤازره على ذلك، وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى، ونهيه إياه عن الإثم والعدوان، فهذه الخصال السبع قوت الإرادة، لا قوام لها إلا بها، ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه، وبها قوة أركانه؛ أولها الجوع، ثم السهر، ثم الصمت، ثم الخلوة، فهذه الأربع سجن النفس وضيقها، وضرب النفس وتقييدها، بهن يضعف صفاتها، وعليهن تحسن معاملاتها.
ولكي تعمل الإرادة عملها لابد للمرء من تصحيح النية، والحذر من الهوى والشهوة فإنها تعلق بالإرادة، فكل عمل يقوم به المرء قد يبدأ خالصا ولكن تتلبس به الشهوة، ويلتبس به الهوى، فينقطع عن الإرادة ويصبح ملتويا، وإن كانت النفس والهوى والشهوة سابقات على الإرادة الصادقة فلابد لصاحبها من الوقوف والنظر والفكر، حتى ينقي قلبه مما عرضت به النفس والهوى والشهوة، ويجعل إرادة الله مكان ذلك وأمامه، فيقبله القلب ساءه أو سره، ثم يتحفظ ويتعاهد حتى يختم العمل الذي افتتحه بالإرادة الصادقة بمثل ذلك وبعد فراغه من العمل ما دام الروح في جسده.
وأخيرا اعلم أيها المريد السالك أن الله سبحانه جعل نجاة العباد برحمته في المعرفة، ثم في الارادة، ثم في ترك ما أمرهم بتركه، ثم في العمل بما أمرهم به، ثم في شكر نعمه التي أنعم بها عليهم، قديما وحديثا، ظاهرا وباطنا.
أ.د / حسين عبدالمجيد حسين
شيخ الطريقة الحسينيةالأحمدية
أستاذ الفقه المقارن ووكيل كلية الشريعة والقانون بأسيوط سابقاً