سِحْرُ المشيخة!
لماذا يحب أكثر الناس أن يتمشيخوا؟!
بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
من أخطر الظواهر التي تعاظمت في العصر الحاضر؛ حتى كدتَ لا ترى متمشيخا متصدرا، فتفتش عنه إلا وجدته طبيبا أو مهندسا أو قانونيا أو أكاديميا أو إعلاميا أو فنانا أو شيئا آخر سوى أنه شيخ تخصص في علوم الدين!
ولقد بحثت عن السبب النفسي وراء هذه الظاهرة، فوجدته حب الظهور والحضور، وعشق السلطة والجاه؛ لأن لرجال الدين من الظهور الطاغي، والحضور في الأذهان، والجاه الاجتماعي، والسلطة الروحية على القلوب؛ ما ليس لغيرهم من أصحاب التخصصات الدنيوية الأخرى!
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء فاشلا في تخصصه الأصلي، نكرة بين معارفه، فاستعاض عن ذلك بلبس لباس المشايخ، الذي جعله مرموقا معظما مشهورا عند الناس، بعد أن كان لا ينظر إليه أحد، ولا يعرفه أحد!
وتجد هذا النوع من المتمشيخين أكثر الناس شهرة وجمهورا وأموالا، وأكثر الناس طعنا في الشيوخ الحقيقيين؛ لأنهم يهددون وجوده، وفي الوقت ذاته أكثر الناس إفسادا للعوام؛ لأن دخوله المشيخة كان عن غير تأهل، ولم يكن لله، بل كان للدنيا!
ووالله إني لفي أشد العجب، كيف يخلع الطبيب معطفه؛ ليلبس عباءة الشيخ؛ والأمة اليوم في حاجة إلى طبيب ماهر؛ أكثر من حاجتها إلى شيخ قاصر!
إن هذه الظاهرة النفسية الاجتماعية المؤسفة؛ في حاجة إلى دراسة من الطب النفسي والاجتماعي، وهذا النوع من المتمشيخة في حاجة إلى علاج مكثف؛ لإعادة تأهيلهم، وإفاقتهم من الغيبوبة!
وجزء من العلاج أن يعود رجال المؤسسة الدينية كما كانوا في سابق عهدهم، يملؤون الأعين والأسماع والقلوب، حتى لا يرى الناس سواهم!
ولقد كانت وفاة الشيخ الشعراوي – رحمه الله – في منتصف شهر يونيو من عام ١٩٩٨ حدا فاصلا بين زمانين، عصر الشيوخ العظماء المنفردين، وعصر المتمشيخة من الأطباء والمهندسين المتطفلين والمزاحمين، حيث كان ظهور الشيخ طاغيا كثيفا يحتل الفضاء كله، فلم يكن يجرؤ أصحاب المعاطف والأرواب، ولا أصحاب اللحى الكثيفة والشيلان والغُتَر؛ أن يطلوا برأسهم على الناس عبر وسائل الإعلام، وإن أطلوا لم يظهروا إلى جواره، وكيف تظهر الأقزام في وجود العمالقة؟!
ولعل هذا مما يفسر طعنهم الدائم في فضيلته رحمه الله؛ كما يطعن فيه العلمانيون أيضا، سواء بسواء؛ لأنه كان سببا في قهر الفريقين!
وبوفاة الشيخ الشعراوي؛ استقبلنا عصرا جديدا من عصور المشيخة الزائفة، من متمشيخة الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي، واحتل المزيفون الساحة، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤوسا جهالا، سئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”، ولقوله صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة: “أن تلد الأَمَةُ ربَّتها، وأن تَرى الحُفاة، العُراة، العالة، رِعاء الشاءِ؛ يتطاولون في البنيان”، وهو كناية عن رفع الأسافل، وانعكاس الأمور، وانقلاب الأوضاع في كل شيء؛ بحيث يؤخر من يستحق التقديم، ويُقدم من يستحق التأخير، ويتصدر من ليس أهلا للتصدير، وهذا أمر واضح للعِيان، مُشاهَد لكل إنسان، لا يخفى على ضرير، فضلا عن بصير!
وبالله التوفيق.