البراء بن مالك، رضي الله عنه، الفارس المستجاب الدعوة
عندما نذكر الأولياء تتبادر إلى أذهاننا صور بعض الزهّاد الذين اعتزلوا الناس، وعُرفوا بشظف العيش، وربما كانوا من المجاذيب… على أن سيد الأولياء هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصابر الشاكر، الصادق الأمين، القائد الشجاع، الحكيم الكريم… وعلى سُننه كان أصحابه الغرّ الميامين. فَهُم الأولياء حقّاً وصدقاً، عرفهم المسجد راكعين ساجدين، وعرفهم الليل قائمين متهجّدين، وعرفتهم ساحات المعارك شجعان مجاهدين.
وها هو ذا أحد هؤلاء الأولياء النجباء الأصفياء الشجعان. إنه البراء بن مالك، وهو شقيق أنس خادم النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد كان قصير القامة، ضئيل الجسم، معروق العظم، لكنه يملك قلباً سليماً طيباً، نقيّ السريرة، شجاعاً ذا شوق إلى الشهادة في سبيل الله عظيم، أسداً هصوراً لا يعرف الخوفُ إلى قلبه سبيلاً.
وكان صوته حسناً، فكان يحدو بالإبل فتسرع، فيطلب منه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرفق بالقوارير، لأن النساء اللواتي يركبن بعض الإبل يَتعبْنَ من سرعتها.
وكان كذلك مستجاب الدعوة، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “كم من أشعثَ أغبر، ذي طِمرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرّه. منهم البراء بن مالك”. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.. وقد عرف عنه الصحابة ذلك، فكانوا إذا اشتدّت عليهم الأمور في معركة طلبوا منه أن يدعو لهم بالنصر، وسرعان ما يظهر أثر استجابة دعوته.
أما شجاعته وإقدامه فحدّث عن البحر ولا حرج!. فقد قَتَلَ مئة من المشركين مبارزةً وحده، عدا الذين قتلهم في غمار المعارك مع المحاربين. وبلغ من شدّة إقدامه أن عمر الفاروق رضي الله عنه كتب إلى عمّاله في الآفاق: ألّا يُولّوه على جيش من جيوش المسلمين، خوفاً من أن يُهلكهم!.
ومن أعظم المواقف التي سجّلها التاريخ لهذا الفارس المقدام أنه في حروب الردّة كان بنو حنيفة أصحابُ مسيلمة الكذاب هم أشد المرتدّين، حتى لقد اجتمع منهم ومن حلفائهم أربعون ألفاً مع مسيلمة، وهم يعلمون أنه كذاب، لكنها العصبية القبليّة، فقد كان شعارهم: “كذّاب ربيعة أحبُّ إلينا من صادق مضر”. وربيعة هي القبيلة التي ينتمي إليها مسيلمة، ومضر قبيلة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد أرسل أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه جيشاً بقيادة خالد بن الوليد وفيه وجوه الصحابة منهم البراء بن مالك الأنصاري… لقتال مسيلمة على أرض اليمامة في نجد.
وكاد جيش مسيلمة يهزم جيش المسلمين، وظهرت بطولات رائعة من الصحابة كثابت بن قيس حامل لواء الأنصار، وزيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب، وسالم مولى أبي حذيفة حامل لواء المهاجرين.
لكن خالداً حين رأى وطيس المعركة يحمى توجّه إلى البراء بن مالك: إليهم يا فتى الأنصار!!. ونادى البراءُ في قومه: يا معشر الأنصار، لا يُفكرَنَّ أحد بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم بعد اليوم.. وإنما هو الله وحده، ثم الجنّة!. ثم حمل على المشركين وحملوا معه، يشقّ الصفوف ويضرب الرقاب، حتى زُلزلت أقدام جيش مسيلمة فلجؤوا إلى الحديقة التي عُرفت بعد ذلك بحديقة الموت، وكانت رحبة الأرجاء، عالية الجدران، ولها بابٌ عظيم فأغلقوه وتحصّنوا فيها وجعلوا يرمون المسلمين بوابل من السهام.
وهنا كان الموقف الرائع حيث تقدّم البراء وقال: يا قوم، ضعوني على تُرس، وارفعوه على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها، فإما أن أُستشهد وإما أن أفتح لكم الباب.
الله أكبر.. جلس البراء على الترس، وكان ضئيل الجسم، ورفعته الرماح وقذفته بين الآلاف من جند مسيلمة، وما زال يجالدهم حتى قَتَلَ منهم عشرة وفتح الباب، وفيه بضع وثمانون جراحة. وتدفّق المسلمون إلى الحديقة وأعملوا السيوف في أعداء الله حتى قَتَلوا منهم نحو عشرين ألفاً وقَتَلوا مسيلمة الكذاب.
وكتب الله للبراء الشفاء من جراحاته، وظل يتوق إلى الشهادة حتى كان يوم فتح تُسْتَر من بلاد فارس، وقد تحصّن الفرس في إحدى القلاع، وحاصرهم المسلمون، وطال الحصار، وراح الفرس يُدَلّون بسلاسل من حديد عُلّقت بها كلاليب شديدة الحرارة، ونَشِبَ كلّابٌ منها في جسد أنس، أخي البراء، فوثب البراء يعالج الكلّاب الحامي لينقذ أخاه… وفي هذه المعركة دعا البراء الله أن يرزقه الشهادة، وأجاب الله دعاءه.
هؤلاء هم الأولياء، هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فمنهم من قضى نحبه شهيداً، ومنهم من تمنّى الشهادة صادقاً فكتبها الله تعالى له وإن مات على فراشه.
ومن أجمل ما نقرؤه على مكانة الشهادة والشهداء ما كتبه ابن قيم الجوزية رحمه الله، في كتابه زاد المعاد: “إنّ الشهادة عند الله عز وجل من أعلى مراتب أوليائه. والشهداء هم خواصه، والمقرّبون من عِباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة. وهو سبحانه يُحبّ أن يتخذ من عباده شهداء، تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحبته على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المقتضية إليها من تسليط العدو”.