بقلم د / عمر محمد الشريف
ليس كل محدث حراما، بل قد يكون مستحبا. ولا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، واحتفالنا بالمولد النبوي يقوم على تلاوة القرآن، وذكر فضائل النبي صل الله عليه وسلم ومولده، وإنشاد بعض الشعر في مدح الجناب النبوي.
وكون خلفاء مصر الفاطميين احتفلوا بالمولد فهذا لا يجعله مكروهاً عندنا، لأن علماء أهل السنة أجازوا عمله، فكثير من العلماء القدامى ذكروا استحباب الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واعتبروه بدعة حسنة ولا يتعارض مع الدين والسنة النبوية الشريفة وتعاليم القرآن الكريم، بل هو تعبير عن الفرح بالرحمة المهداة وعن محبته صلى الله عليه وسلم ، وفيه تثبيت لقلوب المؤمنين.
والتدليل على جوازه لا يكون بإنكار احتفال الفاطميين به، فاحتفالهم حقيقة تاريخية أثبتها في تاريخه ابن المأمون وهو الأمير جمال الدين أبو علي موسى بن المأمون أبو عبد الله محمد بن فاتك ابن مختار البطائحي المتوفى بالقاهرة فى سادس عشر جمادى الأولى سنة ٥٨٨ هـ، أحد أبناء الوزير المأمون البطائحي، وزير الخلافة الفاطمية بعد الأفضل شاهنشاه بن بدر الدين الجمالي الذي قتله الآمر بأحكام الله الفاطمي لتدخُّله في شؤون الحكم.
وكذلك أثبتها المؤرخ أبو محمد المرتضى عبد السلام بن الحسن بن الطوير القيسراني المعروف بابن الطوير (ت٦١٧ هـ) الذي تقلب في الخدمة في الدواوين الفاطمية ثم الأيوبية، وكان يتولى ديوان الرواتب قرب نهاية العصر الفاطمي، وعاصر حكم أربع خلفاء فاطميين.
وكما احتفل به الفاطميون فقد أبطلوه في فترات حيث يذكر ابن المأمون أن الأفضل بن أمير الجيوش أبطل أمر الموالد الأربعة النبوي والعلوي والفاطمي والإمام الحاضر، وقدم العهد به حتى نسي ذكرها ، فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الأمر بأحكام الله ، ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها فأجابهم إلى ذلك.
وجواز الاحتفال بالمولد النبوي هو ما ذهب إليه علماء أهل السنة ، فمن علماء الشافعية على سبيل المثال : الإمام الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة(ت٦٦٥هـ) شيخ الإمام يحيي بن شرف النووي، حيث قال: “ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مشعرٌ بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكراً لله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين”.
وأجاز عمله الإمام النووي، والإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، والإمام القاضي عبد الوهاب بن علي السبكي صاحب طبقات الشافعية، والإمام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير صاحب التفسير المشهور. والإمام محمد بن أبي بكر بن عبد الله القيسي المشهور بالحافظ بن ناصر الدمشقي، وهو من أكابر الحفاط وأئمة فقهاء الشافعية ، ألف ثلاثة موالد ذكرها الأستاذ حاجي خليفة في كشف الظنون من أسماء الكتب والفنون.
وكذلك الإمام عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن المشهور بالحافظ العراقي ، حيث قال: “إن اتخاذ الوليمة وإطعام الطعام مستحب في كل وقت فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور رسول الله في هذا الشهر الشريف ولا يلزم من كونه بدعة كونه مكروها فكم من بدعة مستحبة قد تكون واجبة”.
وأجاز عمله شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، والحافظ السخاوي، والإمام جلال الدين السيوطي. ومن أوائل مشايخ السنة الذين عملوا المولد النبوي بالقاهرة: الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن أبي القاسم بن غزي بن عبد الله الدمياطي، المعروف بابن قفل، توفي سنة 647هـ، أحد المشايخ المشهورين بالخير والصلاح، كان يأوى إليه الفقراء. وهو من مشايخ التصوف الذين أسرهم الفرنج عند دخولهم دمياط، ودفن برباطه بقرافة مصر الكبرى، وقد جمع سيرته تلميذه الشيخ أبو عبد الله بن النعمان في كتاب سماه “الدر المكنون في كرامات الشيخ أبي الحسن المدفون بجهة مكنون”.
ومن علماء المالكية على سبيل المثال: الإمام أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي البلنسي المغربي المعروف بابن دحية وله في المولد كتابان ضخمان أحدهما يسمى ( السراج المنير في مولد البشير النذير ) والثاني ( التنوير في مولد السراج المنير)، وقد صنف كتابه للملك المظفَّر أبو سعيد كُوْكَبْرِي بن زين الدين علي بن بُكْتْكِين (ت٦٣٠هـ) حاكم أربيل وصهر الناصر صلاح الدين الأيوبي وهو أول من احتفل بالمولد من ملوك أهل السنة بشكل كبير ومنظم، واقتدى في ذلك بالشيخ مُعين الدين أبو حفص عمر بن محمد بن خضر الإربلي (أو الأردبيلي) الموصلي، المعروف بالمَلاَّء المتوفى سنة ٥٧٠ هـ. شيخ الموصل، وكان أول من عمل المولد بالموصل، وله اتصال بالملك العادل نور الدين زنكي.
وكان أول من عمله بالمغرب القاضي أحمد بن محمد العزفي (ت٦٣٣هـ) وهو من تلاميذ القاضي أبي بكر بن العربي الفقيه المالكي الشهير، وقد ألف مولد سماه ( الدر المنظم بمولد النبي الأعظم ) ومات قبل إكتماله فأكمله ولده القاضي محمد بن أحمد اللخمي . وكما احتفل به بنو العزفي فإن مجالس الاحتفال بهذه المناسبة قد أصبحت عادية عند ملوك بني مرين بفاس، وكذلك ملوك بني عبد الواد في تلمسان، بل انتقلت الاحتفالات للأندلس فاحتفل سلاطين بني الأحمر بغرناطة كما ذكر المؤرخ ابن خلدون وحضر مجلسهم.
كما أورد عبد الحق بن إسماعيل البادسي في “المقصد الشريف” أن الشيخ الأندلسي أبو مروان عبد الملك بن محمد الوجانسي (ت٦٦٧هـ) لما استقر بمدينة سبتة صار يصنع ليلة المولد طعاما للفقراء يأكلونه، وكان طعامه الكعك والعسل، ويحضر تلك الليلة الفقراء والمحبون يعمل فيها السماع.
وكذلك أورد الفقيه ابن السكاك المكناسي في “نصح ملوك الإسلام” أن السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (ت٦٥٨هـ) مهد الدولة المرينية ببركة تعظيمه لمن هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أول من عمل ليلة المولد من بني مرين، وسمع القصائد في تلك الليلة في مدح سيد الأكوان، والخطب في ذكر معجزاته.
وكان سلطان المغرب الملك المرابط أبي الحسن علي المريني (ت٧٥٢هـ) ينظم ويشرف على الاحتفال بالمولد النبوي في كل الظروف سواء في حالة الإقامة أو في حالة السفر، ولا يمنعه مانع من إقامته حتى في حالة المرابطة والنفير للحرب. فقد أورد ابن مرزوق التلمساني (ت٧٨١هـ) أن حلت ليلة المولد النبوي، وأبو الحسن المريني مع جيشه في مدينة سبتة على نية العبور إلى الأندلس، وقد تخلف بعض الوجهاء والعلماء على حضور المولد ظناً منهم أن السلطان لن يقوم بإحياء المناسبة وهو في حالة الحرب، فعاقبهم وأدبهم السلطان. ورغم محاولة ألفوسو الحادي عشر ملك قشتالة وليون الوقوف في وجه جيش المغرب، إلا أن المعركة التي وقعت بين الطرفين في مضيق جبل طارق انتهت بانتصار المريني وعبوره للأندلس سنة ٧٤٠هـ.
وأجاز عمل المولد من المالكية : الشيخ ابن عبادة القدوري وهو من مشائخ الشيخ زروق وقد كتب بجواز الإحتفال بالمولد في رساله كبرى، وكذلك الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي المشهور بابن عاشر – صاحب المرشد المعين وكان من كبار الصالحين .
وكان أهل مكة المكرمة يحتفلون بالمولد النبوي فقد ذكر الرحالة المؤرخ ابن بطوطة (ت٧٧٩هـ) أن من عادات أهل مكة المكرمة في المولد النبوي الشريف: “يفتح باب الكعبة في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ورسمهم في فتحه أن يضعوا كرسياً شبه المنبر له درج وقوائم خشب لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها، ويلصقونه إلى جدار الكعبة الشريفة، فيكون درجه الأعلى متصلاً بالعتبة الكريمةً ثم يصعد كبير الشيبيين وبيده المفتاح الكريم ومعه السدنة، فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع بخلال ما يفتح رئيسهم الباب، فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة، ودخل البيت وحده، وسد الباب، وأقام قدر ما يركع ركعتين، ثم يدخل سائر الشيبيين ويسدون الباب أيضاً ويركعون، ثم يفتح الباب ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيد مبسوطة إلى الله، فإذا فتح كبروا ونادوا: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين”.
ونختم بقول الشهاب أحمد القسطلاني (شارح البخاري)، حيث قال: “فرحم الله امرءا اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشد علة على من في قلبه مرض وإعياء داء”.