قراءة القرآن الكريم من أجلِّ القربات إلى الله تعالى، فقد بينت السنة النبوية المطهرة أن القرآن الكريم يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه؛ وذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» أخرجه الإمام أحمد في “مسنده” والإمام مسلم في “صحيحه”
بيان الحكم الشرعي في قراءة القرآن الكريم في سرادقات العزاء يقتضي الكلام على مسألتين:
الأولى: حكم إقامة السرادقات لتلقي العزاء.
والثانية: حكم قراءة القرآن في هذه الحال.
أما إقامة السرادقات -ومثلها دور المناسبات- لتلقي العزاء فأمرٌ مشروعٌ وداخلٌ ضمن ما دلت عليه السنة النبوية المطهرة؛ حيث ثبت جلوسُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعزاء؛ فيما روته أمُّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “لَمّا جاء النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قتلُ ابنِ حارثة، وجعفرٍ، وابنِ رواحةَ رضي الله عنهم، جلس يُعرف فيه الحزن” متفقٌ عليه، وبوَّب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب: من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن)، والقصد منها بحسب العرف: استيعاب أعداد المعزين الذين لا تسعهم البيوت والدور.
قال الإمام العيني الحنفي في “عمدة القاري” (8/ 96، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري” (7/ 515، ط. دار المعرفة) في فوائد الحديث السابق: [مشروعية الانتصاب للعزاء على هيئته] اهـ.
وقد نص جماعة من فقهاء المذاهب على مشروعية الجلوس للتعزية وتلقي العزاء؛ استدلالًا بهذا الحديث الشريف، بينما ذهب الجمهور إلى أنه مكروه أو خلاف الأولى دون تحريم.
قال العلامة ابن نجيم في “البحر الرائق” (2/ 207، ط. دار الكتاب الإسلامي): [قال البقالي: ولا بأس بالجلوس للعزاء ثلاثة أيام في بيت أو مسجد، وقد «جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قتل جعفر وزيد بن حارثة، والناس يأتون ويعزونه»] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في “حاشيته على الدر المختار” (2/ 241، ط. دار الفكر): [(قوله: وبالجلوس لها): أي للتعزية، واستعمال “لا بأس” هنا على حقيقته؛ لأنه خلاف الأولى؛ كما صرح به في “شرح المنية”.. (قوله: في غير مسجد): أما فيه فيكره؛ كما في “البحر” عن “المجتبى”، وجزم به في “شرح المنية” و”الفتح”، لكن في “الظهيرية”: لا بأس به لأهل الميت في البيت أو المسجد والناس يأتونهم ويعزونهم] اهـ.
وقال الإمام الحطاب المالكي في “مواهب الجليل” (2/ 230، ط. دار الفكر): [فروع: الأول: في الجلوس للتعزية؛ قال سند: ويجوز أن يجلس الرجل للتعزية] اهـ.
وقال الإمام الدَّمِيري الشافعي في “النجم الوهاج” (3/ 88، ط. دار المنهاج): [يكره الجلوس للتعزية.. وقال ابن الفركاح: لا كراهة في الجلوس لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمّا جاءه نعي زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم جلس يُعرَف في وجهه الحزنُ] اهـ.
وذكر تاج الدين ابن السبكي في “طبقات الشافعية الكبرى” (9/ 313، ط. هجر) أن من اختيارات برهان الدين ابن الفركاح “أنه لا يكره الجلوس للتعزية”، وعقَّب على ذلك بقوله: [وسبقه إلى ذلك والده الشيخ تاج الدين، زاد الشيخ برهان الدين: بل ينبغي أن يستحب] اهـ.
وذكر العلامة ابن مفلح الحنبلي أن الإمام أحمد في رواية قد رخص في الجلوس للعزاء؛ فقال في “المبدع في شرح المقنع” (2/ 286، ط. دار الكتب العلمية): [(ويكره الجلوس لها): نص عليه، واختاره الأكثر؛ لأنه محدث مع ما فيه من تهييج الحزن، وعنه: الرخصة فيه] اهـ.
كما نقل في “النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر” (1/ 208، ط. مكتبة المعارف، بهامش “المحرر”) أن مجد الدين ابن تيمية قال في “شرحه على الهداية”: [في مسألة كراهة الجلوس للتعزية: وعندي أن جلوس أهل المصيبة من الرجال والنساء بالنهار في مكان معلوم ليأتيهم من يعزيهم مدة الثلاث، لا بأس به] اهـ.
وقال العلامة المرداوي في “الإنصاف” (2/ 565، ط. هجر): [قوله (ويكره الجلوس لها): هذا المذهب، وعليه أكثر الأصحاب ونص عليه.. وعنه: الرخصة فيه؛ لأنه عزَّى وجلَسَ. قال الخلال: سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع] اهـ.
يضاف إلى ذلك أن التعزية لها فضلٌ كبيرٌ وأجرٌ عظيمٌ؛ فقد بشَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعزي بثواب عظيم فقال: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» رواه الترمذي وابن ماجه في “سننيهما”.
وقال صلوات الله عليه وتسليماته: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه ابن ماجه في “السنن”.
ومقتضى هذه النصوص أن إقامة السرادقات لتلقي العزاء أمرٌ جائزٌ؛ لأنه هيئة من هيئات الجلوس للتعزية المنصوص على إباحته.
أما قراءة القرآن على مسامع المعزين الجالسين في سرادقات العزاء فأمرٌ مشروع؛ حيث ورد الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، وقد قرر علماءُ الأصول أن إطلاق الأمر يقتضي العموم سواء عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ ينظر: “البحر المحيط في أصول الفقه” للزركشي (4/ 174، ط. دار الكتبي)، و”الأشباه والنظائر” للسبكي (2/121، ط. دار الكتب العلمية)؛ ولا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدِّين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل يُستحبُّ جمع الناس على سماع تلاوة القرآن الكريم، وبخاصة إن كان القارئ ماهرًا في تلاوته؛ فقد صح أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ -قال شعبة: وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ- فَلَهُ أَجْرَانِ» متفقٌ عليه.
فقراءة القرآن الكريم والاجتماع عليها من أعظم القربات وأفضل الطاعات عند الله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى أن استماعه والإنصات إليه مأمورٌ به شرعًا؛ كما قال الله في كتابه العزيز: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].
وأخرج الإمام أحمد في “المسند” عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلاهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وكون أحد القراء يقرأ والناس يستمعون إليه: هذا مما نص العلماء على جوازه.
قال الإمام ابن رشد في “البيان والتحصيل” (18/ 349، ط. دار الغرب الإسلامي) عندما سئل عن ذلك: [قيل له: أرأيت إن كان واحد منهم يقرأ عليهم؟ قال: لا بأس به] اهـ.
فكل ما ذُكر يدل على جواز القراءة من أحدهم والسماع من الباقين، وهو ما يحدث في سرادق العزاء؛ حيث يقوم المقرئ بالتلاوة، ويستمع الحضور لقراءته.
وأما قول بعض العلماء بكراهة ذلك -كالإمام الشافعي وغيره- فإنما هو معلل بعللٍ تنتفي الكراهة بانتفائها.
قال الإمام الشافعي في “الأم” (1/ 318، ط. دار المعرفة): [وأكره المأتم، وهي الجماعة، وإن لم يكن لهم بكاء؛ فإن ذلك يجدد الحزن، ويكلف المؤنة، مع ما مضى فيه من الأثر] اهـ، فيظهر أن الكراهة هنا منوطة بأثر ذلك في تجديد الأحزان، والتكاليف على الورثة، فإذا خلا الأمر من ذلك زالت الكراهة، والعكس صحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
وإقامة المآتم والسرادقات لقبول العزاء هي في حقيقتها وسيلةٌ لتنفيذ الأمر الشرعي بتَعْزِيَةِ المُصَابِ، وقد تقرر في قواعد الفقه أنَّ “الوسائل تأخذ أحكام المقاصد ما لَم تكن الوسائلُ مُحَرَّمَةً في نَفْسِها”؛ فوسيلة الحرام حرام، ووسيلة المستحب مستحبة.. وهكذا.
كما تقرر أيضًا: أن “الكراهة تزول بأدنى حاجة”، ولا شك أن الناس يحتاجون في هذا العصر إلى نصب السرادقات وإقامة دور المناسبات لتلقي العزاء؛ بل إن العزاء في كثير من الأحيان لا يمكن أداؤه إلا من خلالها، مما قد يوصلها إلى الوجوب، حيث تقرر في القواعد أنه: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، خاصة أنه في بعض الأحوال قد يتهم فيها أهل الميت عند عدم الجلوس للعزاء.
قال شمس الدين الرملي في “نهاية المحتاج” (3/ 13، ط. دار الفكر، مع “حاشية الشبراملسي”): [ويكره لأهل الميت الاجتماع بمكان لتأتيهم الناس للتعزية] اهـ.
قال العلامة الشَّبْرَامَلِّسيُّ محشِّيًا عليه: [(قوله: بمكان لتأتيهم الناس): وينبغي أن محلَّ ذلك حيث لم يترتب على عدم الجلوس ضررٌ كنسبتهم المعزي إلى كراهته لهم حيث لم يجلس لتلقيهم، وإلا فتنتفي الكراهة، بل قد يكون الجلوس واجبًا إن غلب على ظنه لو لم يجلس ذلك] اهـ.
وأما بالنسبة لأخذ الأجرة على القراءة فهو أمر جائزٌ شرعًا ولا شيء فيه؛ فبذل الأجرة على المباح مباح، وتكييف الأجر جارٍ على أنه أجرُ احتباسٍ وليس أجرًا على محض قراءة القرآن؛ فإعطاء القارئ أجرًا يكون مقابل انقطاعه للقراءة وانشغاله بها عن مَصَالِحِهِ ومَعِيشَتِهِ، وقد وردت السنة النبوية الشريفة بجواز أخذ الأجرة على تلاوة كتاب الله تعالى للأغراض المشروعة؛ تعليمًا، ورقيةً، ونحو ذلك مِن وجوه الاحتباس للمشتغلين بكتاب الله تعالى قراءةً وإقراءً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ نفرًا مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَرُّوا بماءٍ، فيهم لَدِيغٌ أو سَلِيمٌ، فعَرَضَ لهم رجلٌ مِن أهل الماء، فقال: هل فيكم مِن راقٍ؟ إنَّ في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجلٌ منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ، فبَرَأَ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذتَ على كتاب الله أجرًا، حتى قَدِموا المدينةَ، فقالوا: يا رسول الله، أَخَذَ على كتاب الله أجرًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» رواه البخاري.
وقد تواترت نصوص الفقهاء على جواز أخذ أجرٍ لقراءة القرآن، سواء كان للتعليم، أو للمتوفى، أو لنسخ الكتب العلمية، أو لشيء غير ذلك من الأمور التي تشتمل على الخير والنفع.
قال الإمام ابن نجيم الحنفي في “البحر الرائق” (5/ 246، ط. دار الكتاب الإسلامي): [المفتى به: جواز الأخذ على القراءة] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في “بداية المجتهد” (9/ 4، ط. دار الحديث): [وسواء أكان الرقي بالقرآن أو غيره: الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات] اهـ.
وقال الإمام ابن الحاج المالكي في “المدخل” (2/ 311، ط. دار التراث): [ويجوز له أن يقرئ الناس القرآن بعوض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» أخرجه البخاري؛ فهذا نص صريح على أنه أحل شيء يكون] اهـ.
وقال العلامة شطا الدمياطي الشافعي في “إعانة الطالبين” (3/ 134، ط. دار الفكر للطباعة): [يصح الاستئجار للقراءة مع الدعاء عقبها، سواء عين المستأجر للأجير زمانًا، أو مكانًا للقراءة، أو لا] اهـ.
وقال الإمام ابن حزمٍ الظاهري في “المُحلَّى” (7/ 18، ط. دار الفكر): [مسألة: والإجارة جَائزةٌ على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلم مُشَاهَرَةً وَجُملةً، وكل ذلك جائز.. وعلى نسخ المصاحف، وَنَسْخِ كُتُبِ العلم؛ لأنه لم يأت في النهي عن ذلك نص، بل قد جاءت الإباحة] اهـ.
وقال الحافظ المناوي في “التيسير بشرح الجامع الصغير” (1/ 309، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [فأخْذُ الأُجرةِ على تَعليمه جائزٌ؛ كالاستئجار لقراءته، وَالنهي عنه منسوخٌ أو مُؤَوَّلٌ] اهـ.
على أنه ينبغي أن يُراعَى في ذلك كله ألَّا يكون أجرُ القُرّاء وإقامة هذه السرادقات مِن تركة الميت إلَّا بعد إجازة الورثة، ولا يُؤخَذُ شيء من نصيب القُصَّر؛ إذ لا يُتَصَرَّف في أموالهم إلا بالمنفعة المحضة، وبعد استئذان المحكمة المختصة، وذلك كما أفادته المادة رقم (5) من القانون رقم 119 لسنة 1952م المختص بأحكام الولاية على المال وتعديلاته اللاحقة.
بناء على ذلك: فقراءة القُرَّاءِ لكتاب الله تعالى في المناسبات والمآتم وسرادقات العزاء وأخذهم على ذلك أجرًا، مِن الأمور المشروعة التي جَرَت عليها عادَةُ المسلمين مِن غيرِ نَكِير، وعلى ذلك جرى عمل أهل مصر؛ حتى صارت قراءة القرآن في مُدُنها وقُرَاها وأحيائها مَعلَمًا مِن معالم حضارتها، ومُدَّعِي أن ذلك بدعةٌ مُضَيقٌ لِمَا وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس مِن إقامة الذكر والاجتماع على قراءة القرآن وجبر الخواطر ومواساة بعضهم بعضًا.
وقراءة القرآن الكريم في المآتم وسرادقات العزاء، وأخذ الأجرة عليه: أمرٌ جائزٌ شرعًا، وينبغي ألا نضيق على الناس ونحرم ما أباحته الشريعة الإسلامية، وإننا إذ نفتي بجواز ذلك نوصي ألَّا يكون الغرض من ذلك هو المباهاة والتفاخر، بل إقامة سُنَّة العزاء، وحصول أجر قراءة القرآن وثوابه للميت، كما نوصي الحاضرين أن يَستَمِعوا ويُنْصِتُوا لتلاوة القرآن الكريم في خشوعٍ وتأدب يليقان بكتاب الله تعالى، وهذا كله مع مراعاة الاشتراطات المطلوبة من الجهات المختصة بالتصريح والإذن في هذا الشأن.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصدر دار الإفتاء