التفكر يدعو إلى الخير
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: “اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيرًا يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزًا، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها وغرت بغرورها وقتلت أهلها بأملها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة ولألبابها دامغة وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي مُعتبِر، ولا الآخِرُ بما رأى من الأول مُزدجِر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع.
احذر الدنيا
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل، فاعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها، وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها الرخاء ما يصيبك، وكن ما تكون فيها احذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له، أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشىء منها وثنى رجلًا عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدًا خار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وءاخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن وتفجع المغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر ولا يدري ما هو ءاتٍ فيها ينتظر”.
الدنيا دار عمل
وقال رضي الله عنه: “إن الدنيا دار عمل من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها نفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذاب الله، فأمرها صغير ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل ومنها يخرجون، فاحذروا ذلك الموطن وأكثروا ذلك المنفلت، واقطع يا ابن ءادم من الدنيا أكثر همك، ولا تميل إلى الدنيا فترديك منازل سوءٍ مفضية بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد، فلا تكونن يا ابن ءادم مغترًا، ولا تأمن ما لم يأتك الأمن منه فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك لم تخلص منها حتى الآن، ولا بد من ذلك المسلك وحضور تلك الأمور إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهلكة وهي منازل مخوفة محذورة مفزعة للقلوب، فلذلك فاعدد ومن شرها فاهرب، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقام من عمرك فبادر أجلك، ولا تقل غدًا غدًا فإنك لا تدري متى إلى الله تصير فإن الحجة لله بالغة، والعذر بارز، وكل مواف الله عمله، ثم يكون القضاء من الله في عباده على أحد أمرين: فمقضي له رحمته وثوابه فيا لها نعمة وكرامة، ومقضي سخطه وعقوبته فيا لها من حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره هو واقع أن يصغر في عينيه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم”.
الدنيا حلم والآخرة يقظة والموت متوسّط
يُروَى أنّ الخليفةَ عمرَ بنَ عبد العزيز كتَبَ إلى الحسَن البِصريّ كان يقول: “اجْمَعْ لي أَمْرَ الدُّنيا، وَصِفْ لي أَمْرَ الآخِرةِ”.
فكتَبَ إليهِ الحسنُ البِصريُّ يقولُ: “إنَّما الدُّنيا حلمٌ، والآخرة يَقَظَةٌ، والمَوتُ مُتَوَسِّط ونحن في أَضْغاث أَحلامٍ. ومَن حاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ، ومَنْ غفَلَ عنها خَسِرَ، ومَن نَظرَ في العَواقِبِ نَجا، ومَنْ أَطاعَ هَواهُ ضَلَّ، ومَنْ حَلُمَ غَنِمَ، ومن خافَ سَلِمَ، ومن اعتبَرَ أبصَرَ، ومنْ أبْصَرَ فهِمَ، ومنْ فهِمَ علِمَ، ومنْ علِمَ عمِلَ، فإذا زَلَلْتَ فارجِع، وإذا نَدِمتَ فأَقلِعْ، وإذا جَهِلْتَ فاسْأَل، وإذا غَضِبْتَ فأَمْسِك، واعلَم أنَّ أفضلَ الأعمالِ ما أُكْرهت النُفوسُ عليهِ”.