قراءة سورة الفاتحة بنية شفاء المرضى وقضاء الحاجات

قراءة سورة الفاتحة بنية شفاء المرضى وقضاء الحاجات :
أقوال الفقهاء في قراءة الفاتحة بنية شفاء المرضى وقضاء الحوائج :
المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة ؛ فقد نص فقهاء الحنفية على استحسان قراءة الفاتحة عند كثير من الأمور؛ رجاء حصول بركتها؛ فاستحبوها مثلًا على الطعام: قال العلَّامة الخادمي الحنفي في “بريقه محمودية” وهو يتحدث عن آداب الطعام (4/ 111، ط. دار إحياء الكتب العربية): [أما قراءة الفاتحة: فعن بعض العلماء عن شرح مختصر الإحياء لعلي القاري: وقول قراءة سورة الفاتحة المشتملة على التحميد والدعاء بالاستقامة كما هو المتعارف بين العامة مُستحسَنٌ خلافًا لمن منعه. انتهى] اهـ.
والمعتمد عندهم جواز قراءة الفاتحة في أدبار الصلوات المكتوبة على أنها مما يُنتفع به في إتمام المهمات؛ قال العلَّامة الخادمي في “بريقه محمودية” (1 /98): [وأما قراءةُ الفاتحة أدبارَ المكتوبات فكثيرٌ فيها أقاويلُ الفقهاء: فعن “معراج الدراية” أنها بدعة، لكنها مستحسنة للعادة، ولا يجوز المنع. وعن “فتاوى برهان الدين” يُكرَه قراءة الفاتحة بعد المكتوبة لكفاية المهمات جهرًا ومُخَافَتةً. وعن “فتاوى السعدي” لا يُكرَه. وفي “التتارخانية” و”القنية” و”الأشباه”: الاشتغال بقراءة الفاتحة أولى من الأدعية المأثورة في أوقاتها، ومِن الأوقات المأثورة: أدبارُ الصلوات؛ إذ ورد أدعية كثيرة أعقاب الصلوات عن سيد السادات عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات.. وفي “فصول الأسروشني” وقراءة الفاتحة أولى من الأدعية المأثورة في أوقاتها.. والذي تَحَرَّر مِن هذه النُّقُول: ترجيحُ جانب الجواز؛ لكثرة قائله، وأن البـدعة الممنوعة: ما لا يكون لها إذن إشارة ودلالة، وسورة الفاتحة سورة تعليم طريق الدعاء، وسورة المسألة، وسورةٌ نزلت لبيان طريق الأفضل من الدعاء، فأفضل الأدعية إنما يليق ويجري في أفضل الأوقات، ومِن أفضل الأوقات أدبارُ الصلوات، فلا كلامَ في أصل قراءتها] اهـ.
ونص المالكية على جواز قراءتها عند الوداع في السفر على أنها ممَّا يربط على القلب؛ قال العلَّامة الصاوي في “حاشيته على الشرح الصغير” (1 /487، ط. دار المعارف): [وما يقع من قراءة الفاتحة عند الوداع فأنكره الشيخ عبد الرحمن التاجوري وقال: إنه لم يرد في السنة، وقال الأجهوري: بل ورد فيها ما يدل لجوازه، وهو غير منكر] اهـ.
وعند الشافعية: فقد جاء في “فتاوى” العلَّامة الشهاب الرملي الشافعي (1 /160-161، ط. المكتبة الإسلامية): [وفيها من الصفات ما ليس في غيرها، حتى قالوا: إن جميع القرآن فيها، وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت علوم القرآن؛ لاشتمالها على الثناء على الله عزَّ وجلَّ بأوصاف كماله وجماله، وعلى الأمر بالعبادات، والإخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وعلى بيان عاقبة الجاحدين.
ومن شرفها: أن الله تعالى قسمها بينه وبين عبده، ولا تصح القراءة في الصلاة إلا بها، ولا يلحق عمل بثوابها؛ وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم، وأيضًا فلكثرة أسمائها، وكثرة الأسماء تدل على شرف المُسَمَّى، ولأن من أسمائها: أنها: سورة الدعاء، وسورة المناجاة، وسورة التفويض، وأنها: الراقية، وأنها: الشفاء، والشافية؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّها لِكُلِّ دَاءٍ»، وقالوا: إذا عُلِلْتَ أو شَكَيْتَ فعليك بالفاتحة؛ فإنها تَشْفِي] اهـ.
وذكر العلامة ابنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِيُّ الشافعي في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 29، ط. المكتبة الإسلامية) أنه يستحب قراءة الفاتحة عند وقوع الطاعون؛ لأنها شفاء من كل داء.
وكذلك عند الحنابلة: فقد كان الإمام أحمد بن حنبل يستعمل كتابة الفاتحة في التمائم الشرعية، قال العلَّامة ابن مفلح الحنبلي في “الآداب الشرعية” (2 /455، ط. عالم الكتب): [قال المرُّوذي: شكت امرأة إلى أبي عبد الله أنها مستوحشةٌ في بيتٍ وحدَها، فكتب لها رقعة بخطه: بسم الله، وفاتحة الكتاب، والمعوذتين، وآية الكرسي] اهـ.
وسبق عن الشيخ ابن تيمية الحنبلي أنه كان يجعلها وِرْدَه في الصباح. وهذا تلميذه الشيخ ابن القيم الحنبلي يستحسن قراءة الفاتحة للمفتي عند الإفتاء، وينقل ذلك عن بعض السلف، مع عدم ورود شيء من ذلك بخصوصه في السنة، فيقول في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين” (4/ 197-198، ط. دار الكتب العلمية): [حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».. وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾.. وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه أقوى أسباب الإصابة] اهـ.
ثم يقول في “زاد المعاد” (4/ 318-319، مؤسسة الرسالة): [فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، والشفاء التام، والدواء النافع، والرقية التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظة القوة، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن؛ لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنـزيلها على دائه وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك. ولما وقع بعضُ الصحابة على ذلك رَقى بها اللديغَ فبَرَأَ لوقته، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وما أدراك أنها رقية» ومن ساعده التوفيق وأُعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة.. وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما، وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها، موقوفة على التحقق بها أغنته عن كثير من الأدوية والرُّقَى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه، وهذا أمر يحتاج إلى استحداث فطرة أخرى وعقل آخر وإيمان آخر] اهـ.
وعلى ذلك جرى عمل السلف والخلف حتى صنف الشيخ يوسف بن عبد الهادي الحنبلي الشهير بابن المِبْرَد رسالةً في ذلك سمّاها “الاستعانة بالفاتحة على نجاح الأمور” وقد طبعت ضمن “جمهرة الأجزاء الحديثية” (من ص: 371 إلى ص: 375، ط. مكتبة العبيكان)، نقل فيها كلام العلامة ابن القيم السابق إيراده من كتابه “زاد المعاد”، ثم قال معقبًا عليه (ص: 374-375): [وهو كلام عظيم، ولكنه مِنْ فَضْلها كغمسةِ عصفورٍ منقرَه في البحر أو قطرة شربها منه. وقد كان شيخنا أبو الفرج ابن الحبال في كثرة استعمالها لقضاء الحوائج ونجاح أمرها على أمر عظيم؛ بحيث إنه إذا كتب لأحد حِرْزًا كتبها أولًا، ثم قرأ عليه، ثم قرأها عند طَيِّه، وكان إذا كتب لأحدٍ رسالةً قرأها عليها، وقد شاهَدْتُ أنا من نجاح الأمور بها أمرًا عظيمًا؛ فقَلَّ حاجةٌ من الحوائج تَعْرِضُ لي -من الحوائج الدنيوية والأخروية- فأقرؤها عليها إلا قُضِيَتْ ونجح أمرُها، وكم من حاجة تعسَّرَتْ واسْتَدَّتْ طُرُقُها وحال دونها الموانعُ، فقرأتُها لنجاحها فقُضِيَـتْ وعادت أَتَمَّ ما كانت، وكم مِنْ أمر ٍتعسَّر فقرأْتُها له فتقشَّعَتْ غيومُه، وزالت سُحُبه، وأنارت شموسُه.. وهي سورة عظيمة؛ فعليك رَحِمَكَ اللهُ- بالإكثار منها على أمورك وحوائجك وأدوائك ومهماتك وكل ما عَرَض لك، وتأمَّلْ ذلك تَجدْ منه ما يظهر لك. وهي سورةٌ فضائلُها كثيرةٌ، وأسرارُها لا تُحصَى، وإنما يَعْرِفُ الجوهَر أربابُه، والمَسْكَنَ أصحابُه، والمعلِّمَ طُلَّابُه، وبالله الاستعانة، وهو ولي التوفيق] اهـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.