الحمد لله على نعمة الإسلام وما أعظمها من نعمة، رضيها الله لنا وامتن بها علينا ، والحمد لله على نعمة العقل منبع كل خير، وأصل كل بر ، وسبب كل سعادة في الدنيا والآخرة ، نحمدك يارب حمدا حتى يبلغ الحمد منتهاه ..
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن سيدنا محمد إمام الأنبياء ، وسيد الأتقياء ، وخير من مشى تحت أديم السماء ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
وبعد :
فالإنسان ثمرة جميع المخلوقات ، خلقه الله جل جلاله في أحسن تقويم، و على أفضل هيئة، وكرمه ونعّمه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وفضّله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وميّزه عن سائر مخلوقاته بالعقل البشري الذي جاء مختلفًا عن عقول سائر مخلوقاته..
والعقل نِعْمَة عظيمةٌ من أَجَلِّ نِعم الله تبارك وتعالى على الإنسان ، وضده السفه والحمق والجهل ..
قال صاحب المحكم كما في “تهذيب الأسماء واللغات”: العقل ضد الحمق، والجمع عقول، عقل يعقل عقالًا، وعقالًا فهو عاقل من قوم عقلاء.
وقال الماوردي: “واعلم أنّ بالعقلِ تُعرفُ حقائقُ الأمورِ .. ، وبه يَمتَازُ الإنسانُ عن سائرِ الحيوانِ، فإذا تَمَّ في الإنسانِ سُميَ عاقلًا، وخرج به إلى حَدِّ الكمال” ..
وقد كان الحسنُ البصريُّ – رحمه الله – إذا أُخبِر عن صلاح رجُلٍ قال: “كيف عقلُه؟ فما تمَّ دينُ عبدٍ قطُّ حتى يتمَّ عقلُه”.
وقديما قيل”عدوٌ عاقلٌ خيرٌ من صديقٍ جاهل”.
العنصر الأول : منزلة العقل في القرآن الكريم ..
لقد اهتم القرآن الكريم بالعقل اهتماما كبيرا، وأعلى من منزلته وقيمته، ويكفي الإشارة إلى أهمية “العقل” في كتاب الله أنها تكررت ومشتقاتها حوالي سبعين مرة، ناهيك عن الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية كالتفكر والتأمل والنظر بتمعن في آيات الله في الأنفس والآفاق، والتي لا يمكن حصرها من كثرتها في كتاب الله.
وذم الله سبحانه الذين عطلوا. عقولهم، وفي ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم منها قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)} [يس]. وقال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)} [الأنفال].
ومن خلال آيات القرآن الكريم تبين أن العقل أصلُ المعرفة، ومادةُ الفَهْم، ويَنبوعُ العِلمِ، ومَرقاةُ الأدبِ، به تَظهرُ الحقائقُ، وتَلُوحُ الخَفِيَّاتُ، وتُوزَنُ الأمورُ، وتُكتسَبُ الفضائلُ، وهو نعمةٌ يُنعِمُ اللهُ بها على مَن أراد كرامتَه مِن عباده، وقَضى له بحُسْن العاقبةِ في مَعادِه، قال تعالى: (إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)[طه: 54]، وقال تعالى: (إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الرَّعْدِ: 4] ، وقال تعالى: (هَلْ في ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)[الْفَجْرِ: 5]؛ أي: لذي العقل والنُّهى.
والعقلُ نورٌ في القلبِ كنورِ البصرِ في العينِ، يَنقُصُ ويزيد، ويذهبُ ويعود، يُدرِكُ به المرءُ الأشياءَ على ما هي عليه مِنْ ماهيةِ مَبانيها، وصحةِ مَعانيها، ويُصِيبُ الرأيَ الصوابَ، ويُدركُ البيانَ، ويمتنعُ عمَّا لا يَجْمُل؛ فهو في سَداد ورَشاد وإمداد، قال عمرُ -رضي الله عنه-: “أصلُ الرجلِ عقلُه”، وقيل لعبدِ الله بنِ المباركِ -رحمه الله-: “ما خيرُ ما أُعطيَ الرجلُ؟ قال: غريزةُ عقلٍ”، وقال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: “ما تمَّ دينُ عبدٍ قطُّ حتى يَتِمَّ عقلُه”.
ويحكي القرآن الكريم مشهدا تصويريا يبين ندم أهل النار ، من عدم تحكيم عقولهم في الاختيار بين الكفر والإيمان ، والطاعات والمعاصي ، وعدم سماعهم وصايا الرسل والأنبياء والدعاة والصالحين قال تعالى مصورا هذا المشهد : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[الْمُلْكِ: 10].
ويقول الأستاذ العقاد في منزلة العقل ومكانته في كتاب الله: “والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية …
بل تتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه”.
ويكفي الإسلام تكريما للعقل وإعلاء من شأنه أن جعله مناط التكليف، فلا يتوجه الخطاب الشرعي إلا للعقلاء من البشر، بينما يسقط التكليف وترتفع المسؤولية عن فاقدي هذه النعمة الإلهية والجوهرة الثمينة، ففي الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عن النَّائِمِ حتَّى يَسْتَيقِظَ، وعن الصَّبِيِّ حتَّى يَحْتَلِمَ، وعن المَجْنونِ حتَّى يَعقِلَ). أخرجه الحافظ المنذري بصيغه التصحيح ..
والجامع المشترك بينهم ضعف العقل ،أو فقدانه ..
كما حث القرآن الكريم على تحرير العقل من مفسدة التقليد الأعمى ،
و عاب على المشركين تقليد
الآباء والأجداد من عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان ، مع إلغاء عقولهم، وحجب تفكيرهم، حتى منعهم ذلك من اتباع الحق، ودفعهم إلى فساد المعتقد وانحراف العقيدة ..
ففي دين الإسلام لا تعارض بين صريح المعقول وصحيح المنقول،
كما دعا إلى إعمال العقل في فقه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ؛ لأن العقلَ هو آلةُ الفهم والوعي والإدراك، وهو يعملُ بكل كفاءةٍ واقتِدارٍ إذا استنارَ بنور الوحي وآداب النبُوَّة، واستفادَ من تجارب الناس، واعتبرَ بأحداث الحياة والتاريخ وتقلُّب الأيام وتبدُّل الأحوال، ومصارِع الغابرين .
والعاقلُ لا يُقدِّمُ عقلَه على النقل، ولا يُخضِعُ الشرعَ تبعًا لرأيه، فلا يَسلَمُ إسلامُ العبدِ إلا بالتسليمِ التامِّ لنصوص الوحيينِ الشريفينِ، والإذعانِ لهما، والعملِ بهما..
ومن يدقق في الفرق بين إعمال العقل في الإسلام وإعماله في المفهوم الغربي، يجد أن الهوى والغرور هما سمة إعمال العقل العلماني الغربي، بينما يجد الموضوعية والتوازن سمة إعمال العقل في الشريعة الإسلامية، حيث لم يقحم الإسلام العقل فيما لا شأن له به أو علاقة – كالغيبيات وما شابه ذلك – كما لم يقدسه أو يغتر به كما فعل ويفعل الغرب حتى يومنا هذا، رغم أن العلم الحديث يثبت يوما بعد يوم محدودية العقل التي أكدها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ..
قال الإمام الزُّهريُّ -رحمه الله-: “مِنَ اللهِ الرسالةُ، وعلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- البلاغُ، وعلينا التسليمُ”، وقال ابنُ القيم -رحمه الله-: “كلُّ مَنْ له مِسْكةٌ مِنْ عقلٍ يَعْلَمُ أن فسادَ العالَمِ وخرابَه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل”.
العنصر الثالث : أعداء العقل وكيفية العلاج
العقل هبة من الله الحكيم وهبه إياها ليستعملها فيما ينفعه في عاجل أمره وآجله، لكن للعقل أعداء في نفس الإنسان منها : الهوى والبيئة الفاسدة ..
والهوى : هو “ميل النفس إلى ما تستلذه الشهوات من غير داعية الشرع”. بحيث يصير الإنسان عبداً مطيعًا لكل ما تشتهيه نفسه من الباطل. وأصحاب العقول المعبدة للهوى لا يفكرون إلا بملذات أجسادهم وشهواتها العاجلة، وليس لديهم تفكير في أسباب النجاة في الآخرة، فهم في سكر الهوى والشهوة، فإذا جاءهم ملك الموت صحوا.
قال بعض أهل العلم: “العقل والهوى متعاديان؛ فالواجب على المرء أن يكون لرأيه مُسعفا، ولهواه مسوّفا، فإذ اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه؛ لأن في مجانبته الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر””
ولا يخفى أن ” الهوى عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا.
قال بعض الحكماء: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع”.
فليحفظ المرء عقله من سلطان الهوى الذي إذا دخل في رعيته هلك،
وقال آخر: “ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحًا وسروراً ، ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وهنا يمتاز العقل من الهوى”.
“قيل لبعض الحكماء: أوصنا بأمر جامع، قال: ما من أحد إلا ومعه قاضيان باطنان أحدهما: ناصح، والآخر: غاش، فأما الناصح فالعقل، وأما الغاش فالهوى، وهما ضدان فأيهما مِلت معه وَهى الآخر- يعني: ضعف-“..
ومن أعداء العقل: البيئة الفاسدة، التي تعج بالفساد والمفسدين، فكم تُكدر من عقول نقية، وتشوّه من صور ذهنية، وتزرع فيها من أفكار منحرفة، ومعلومات مغلوطة ، وتصورات مهلكة، حتى يغدو العقل بها أسير شهوات، أو حبيس شبهات مضلات. خصوصًا في زماننا هذا الذي يكثر فيه الفتن ، ويقل فيه الإيمان ، ويندر فيه الأصدقاء الصالحون .
فعلى الإنسان أن يحذر على عقله وعقول أهله وأولاده أضرار الهوى ، والبيئة الفاسدة؛ فإنهما جناحي الشر التي تطير بالعقول إلى متاهات الغواية، وآفاق اللوثة الفكرية.
وليجعل مكانها التقوى والعلم النقي والبيئة الصالحة؛ فإنها قوارب النجاة للعقول في أمواج الانحراف العقلي الذي يعيشه عالم اليوم..
والعاقلُ لا يُؤثِرُ اللذةَ العاجلة، ولا يُقدِّمُ المتعةَ الزائلةَ؛ لأنَّه يعلمُ أن الدنيا ظِلُّ غَمامٍ، وحُلُمُ مَنامٍ، لا تَبقى على حالة، ولا تخلُو من استحالة، السكونُ فيها خَطَرٌ، والثقةُ بها غَرَرٌ، والإخلادُ إليها مُحالٌ، والاعتمادُ عليها ضلالٌ، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْقَصَصِ: 60]، وقال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 32].
ومِنْ صفاتِ العاقلِ حُسْنُ السمتِ، وطولُ الصمتِ، وعدمُ الابتداءِ بالكلام إلا حينَ السؤالِ، وعدمُ الجوابِ إلا عندَ التثبُّتِ، والعاقلُ لا يَستحقرُ أحدًا، ولا يَخفى عليه عيبُ نفسِه؛ لأنَّ مَنْ خَفِي عليه عيبُه خَفِيت عليه محاسنُ غيرِه، والعاقلُ إذا عَلِمَ عَمِلَ، وإذا عَمِلَ تَواضَعَ، وإذا نظرَ اعتبرَ، وإذا صَمَتَ تفكَّر، وإذا تكلَّم ذَكَرَ، وإذا أُعطيَ شَكَرَ، وإذا ابتُليَ صَبَرَ، وإذا جُهِلَ عليه حَلُمَ، وإذا سُئِلَ بَذَلَ، وإذا نَطَقَ صَدَقَ..
والعاقل هو الذي يحبس نفسه ويرُدُّها عن هواها، وسُمي العقلُ عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه، وقيل: العقلُ هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان..
والعقلُ الذي يحجُزُ صاحبَه عن خوارِم المروءة وقوادِح الشرف، وسِفساف الأمور، ويحمِلُه على معالي الأخلاق وكرائِم الصفات هو العقل الممدوح ، والعقل الذي يدعو إلى الكفر والجحود والإلحاد هو العقل المذموم ..
العنصر الرابع : من ثمرات العقل عبادة التفكر ..
وثمرة العقل “معرفة الله سبحانه وتعالى، وأسماؤهُ، وصفاتُ كماله، ونعوتُ جلاله، والايمان بكتبه، ورسله، ولقائه، وملائكته، وبه عُرفت آياتُ ربوبيته، وأدلهُ وحدانيته، ومعجزاتُ رسله، وبه امتُثلتْ أوامره، واجتنبت نواهيه، فهي شجرةٌ عرقُها الفكر في العواقب، وساقها الصبر، وأغصانها العلم، وورقها حسن الخلق، وثمرها الحكمة، ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه، وابتداؤها منه، وانتهاؤها إليه”.
وقد اختص الله -عز وجل- هذا العقل بالعديد من الخصائص والملكات المهمة؛ منها: ملكة الإدراك، و الفهم والتصور، وملكة التأمل فيما يدركه، واستخراج أسراره ومعانيه وبواطنه، ومنها ملكة الرشد، وهي من أهم وأعلى خصائص العقل البشري..
فمن ثمرات العقل التفكر والتأمل في مُلك الله وملكوته، والتدبرُ في آياتِه ودلائلَ قُدرته..
لقد جعل الله تعالى العقل طريقًا إلى تدبر آياته، والتفكر فيما أودع في خلقه من بديع مصنوعاته، وجعله كذلك وسيلةً إلى الاعتبار بما جرى من العاقبة الحسنة لأهل طاعته، ومن العاقبة السيئة لأهل معصيته.
ومن خِلالِ العقل يستطيعُ المَرْء أن يدْرِكَ مَا حَوْلَهُ، ويتعلم ما الذي ينبغي عليه أن يأتيه أو يَجتنبُه، وبه يَعرفُ المرء ربه ، ويعرف نفسه ويهذبها ، وُيبصرُ طريقه ويبني علاقات وطِيدَة، ويَعْقد صِلات حميمة مع من حَولَهُ وينتفع هو وينفع غيره.
إن الإنسان إذا استعمل عقله استعمالاً صحيحًا قاده إلى معرفة خالقه والعمل بشرائعه، والسير على طريق مرضاته ، وظهر على أقواله وأفعاله الصوابُ والاستقامة، وصار من أهل الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وغدا محبوبًا عند أهل السماء وعند أهل الأرض .. ..
ومن الدلائل -أيها المسلمون-: أن القرآن حافل بالحجج العقلية الدامغة على وجود الله وتوحيد وصدق رسله وإثبات المعاد وغير ذلك؛ فمن ذلك على سبيل المثال، قوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور:35]؛ فهذا برهان عقلي قاطع؛ فإما أن يكونوا خُلقوا من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإما أن يكونوا خَلقوا أنفسهم، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا أنفسهم؛ فلا يبقى إلا أن لهم خالقاً، هو الله -تعالى-.
وعندما سئلت السيدة عائشة -رضي الله عنها-، أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسكتت، ثم قالت : لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي قال : ( يا عائشةُ ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي ) قُلْتُ : واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وأُحِبُّ ما سرَّك قالت : فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي قالت : فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت : ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت : ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال : يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر ؟ قال : ( أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها..
فيها دَلالاتٌ على قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ يُدرِكُها أصحابُ العُقولِ التقية النقية ..
العنصر الرابع : اهتمام الدين الإسلامي بالمحافظة على العقل وتنميته ..
لقد حافظ الإسلام على العقل البشري محافظة شديدة، واعتنى به اعتناء عظيمًا؛ فكان العقل من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها، وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل؛ وذلك أن العقل موضع استقامة دنيا الإنسان ودينه، وسبب لسلامة ما حوله من ضرره ..
ويظهر اهتمام الإسلام بحفظ العقل من خلال أمرين اثنين هما:
أولا: تشريعات تحفظ العقل من التعطيل والجمود والانحراف، وذلك من خلال ذم تعطيل العقل وعدم إعمال العقل وإمهاله ، كما أنها تحفظ العقل من خطر الانحراف والخروج عن نطاق ما خلق له، وذلك بوضع المنهج الصحيح للعقل للعمل والتفكير، ورفع العوائق والموانع التي تعطله عن وظيفته الصحيحة من أمامه، كاتباع الظن والأوهام والخرافة، والتحذير من اتباع الهوى عند إعمال العقل..
ولا ريب أن أعداء الإسلام تسللوا لمحاربة هذا الدين والطعن فيه من باب “العقل” ، وذلك من خلال زرع الشبه واتهام الإسلام بأنه دين يعتمد على الغيبيات، ويهمش العقل بشكل كامل ويبعده عن حياة المسلم الدينية والدنيوية..
ثانيا: تحريم ما يفسد العقل حسياً :
فقد حرم الإسلام كل ما يؤدي إلى الإخلال بالعقل وزواله كليا أو جزئيا، وذلك من خلال تحريم المسكرات والمخدرات التي تغيب العقل وتعطله، وربما تؤدي إلى زواله بشكل نهائي بموت صاحبه أو جنونه في بعض الحالات، قال تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَلْمَيْسِرُ وَلأنصَابُ وَلأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ فَجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَلْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ) المائدة/٩١/٩٠.
وقال صلى الله عليه و سلم: (كلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ.. ).
معشر المسلمين، إن حرمة المُسْكراتِ مِن أشدِّ الحرماتِ الَّتي حذَّر منها الإسلامُ؛ لَمَّا فيها من ذهاب العقلَ الَّذي هو مناطُ تكليفِ بني آدَمَ (الدرر السنية)..
و إن آفة السكر هي أم الخبائث، ومفتاح كل شر، وبوابة الهلاك؛ فكم حصل بسببها من سفك للدماء المعصومة، وإتلاف للأموال الخاصة والعامة، وانتهاك للأعراض المصونة حتى على المحارم، وكم قضت على طاقات نافعة وعقول ناضجة، وأشقَتْ من أسر سعيدة، وكم أذلت من عزيز، وأفقرت من غني، وأهانت من كريم، وصغرت من عظيم، وأمرضت من صحيح، وفرقت بين الأقارب والأحبة والأصدقاء.
إن المسكرات إهلاك للفرد والمجتمع في مجالات شتى: إهلاك ديني، و أخلاقي، واقتصادي، و صحي ونفسي. وقد تحدث الناس عن أضرارها ووجوب تجنبها على اختلاف أديانهم وتخصصاتهم العلمية.
وختاماً: فالعقل هو أداة التفكر والتدبر، وهو الذي يمكن الإنسان من الابتكار والإبداع، والعقول الناضجة والمبدعة هي التي تدفع بالأمم نحو التقدم والازدهار في مختلف المجالات.
كما أن العقول المفكرة تساعد في إيجاد حلول للمشاكل التي تواجه المجتمع، سواء كانت اقتصادية، اجتماعية، أو بيئية.
والعقل المبدع هو الذي يبتكر ويطور، ويساهم في نقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورًا ورفاهية.
ومما يجدر الإشارة إليه أن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء؛ فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة
قال -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85]..
نسأل الله أن يحفظ عقولنا من كل سوء، وينيرها بأنوار الهداية، وأن يصرف عنها أسباب الانحراف والغواية.وأن يحفظ مصر وسائر بلاد المسلمين وأن يحقن دماء المسلمين في كل مكان يارب العالمين