خطبة بعنوان (لغة القرآن والحفاظ على الهوية )
بتاريخ ٤/ جمادى الآخر / ١٤٤٦
الموافق ٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
إعداد / الشيخ أحمد أبو اسلام
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
تمهيد
ـــــــــــ
لم تكن لغة جميع الأنبياء العربية،، وبعضهم يتكلم بالسريانية كإبراهيم عليه السلام، وبعضهم يتكلم بالعبرية كموسى عليه السلام ، وبعضهم يتكلم بالعربية كإسماعيل، ومحمد صلى الله عليه وسلم
ولكن اللغة صارت لها السيادة على جميع اللغات لعلو منزلة القرآن الذي نزل باللغة العربية على خاتم الأنبياء والرسل الناطق بالعربية خير البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
اللغة العربية وحدت الألسنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في كتاب الله آية ، لا بد وأن نتدبرها ، ونسبح في بحار معانيها ، ونرتشف من رحيقها المختوم ، مع قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (4) ابراهيم ، يقول الطبري في تفسيرها : وما أرسلنا إلى أمة من الأمم ، يا محمد، من قبلك ومن قبلِ قومك ، رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم ،ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونَهيه ، ليُثْبت حجة الله عليهم
شبهة والرد عليها
ـــــــــــــــــــــــــــ
والعجم وغيرهم لو احتجوا بهذه الآية وقالوا أن رسول الله لم يأتي بلغتتنا ثم قالوا إذن نحن لسنا ملزمين بماء جاء به النبي صلى الله عليه وسلم; وهذا الكلام مردود؛ لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – ترجمة يفهمها لزمته الحجة ، وقد قال الله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه .
وقال – صلى الله عليه وسلم – : والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار . خرجه مسلم .
وقد ذكر بعض العلماء أن من الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية ، مع أنه منزل لجميع الناس مع اختلاف لغاتهم ، أن ذلك ليتحقق اجتماع المسلمين على كتاب واحد ، بلا اختلاف ولا تنازع ، وليكون ذلك من حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من التحريف .
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم، وبيّنه رسول الله لكل قوم بلسانهم، لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها، ما لا يعرفه غيرها، وربما كان ذلك أيضا مفضيا إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون ” انتهى من “فتح القدير” (3 / 129).
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن سُفْيَان الثَّوْريّ – رَضِي الله عَنهُ – قَالَ: لم ينزل وَحي إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ ثمَّ يترجم كل نَبِي لِقَوْمِهِ بلسانهم
قَالَ: لِسَان يَوْم الْقِيَامَة السريانية وَمن دخل الْجنَّة تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ
لغة القرآن أثرت في غير العرب
————————————
إن الإسلام لا يلتفت إلى الفوارق في اللون , والجنس , والنسب ؛ فالناس كلهم لآدم ، وآدم خلق من تراب ، وإنما يكون التفاضل في الإسلام بين الناس بالإيمان والتقوى ، بفعل ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى الله عنه .
ولغة القرآن وتعاليمه قد أثرث في غير العرب فآمن أناس كثيرون من غير العرب ، واعلنوا توحيدهم لله رب العالمين والإيمان بالنبي العربي الأمين .
سلمان الفارسي
ــــــــــــــــــــــــ
من هؤلاء الذين سلمان الفارسي هو أبو عبد الله، وكان يُسمّى سلمان الخير مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كانت ديانته المجوسية وهو فارسيّ من أصفهان، وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن بوذخشان ابن مورسلان بن بهبوزان بن فيروز بن سهرك، كما كان أبوه مجوسياً أيضاً فهرب منه وجعل يصحب الرّهبان واحداً تلو الآخر، حتى علم عن نبي آخر الزمان ومكان ظهوره.
وذهب إلى الحجاز، وهناك باعوه إلى يهودي من بني قريظة فسكن معه في المدينة، وعندما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة آمن منه ودخل في الإسلام، وقد شارك سلمان الفارسي في الكثير من الوقائع، أهمّها غزوة الخندق فهو من اقترح على النبي فكرة حفر الخندق، وقد قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَلمانُ مِنَّا أَهلَ البيتِ).[رواه السيوطي ]
صهيب الرومي
ـــــــــــــــــــــ
صهيب الرومي هو صهيب بن سنان بن مالك، وقيل: ابن خالد بن عبد عمرو، وكان يُعرَف بصهيب الرّومي لأنّ الروم قامت بشرائه وهو صغير فنشأ بينهم، ثم اشترته من الروم قبيلة كلب ومن ثمّ اشتراه عبد الله بن جدعان وقام بإعتاقه.[قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر ]
وكان يشتهر بمهارته برمي السهام، فقد كان من أرمى الناس، وعندما خرج مهاجراً إلى المدينة ليلتحقّ بركب الإسلام، لحقته قريش يريدون قتله، فقال لهم: تعلمون أنّي من أرمى الناس وهددهم برمس سهامه عليهم إن لم يتركوه وشأنه، وقال لهم: خذوا مالي واتركوني، فتركوه وأخذوا المال. ونزل به قول الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)،[سورة البقرة ]فكان هو الصحابي الذي اشترى نفسه من الله، ولما التقى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: (ربِح البيعُ أبا يَحيى، ربِح البيعُ أبا يَحيى).[اتحاف الخيرة المهرة ]
بلال الحبشي
ــــــــــــــــــــ
بلال الحبشي هو بلال بن رباح الحبشي، ويُكنّى بأبي عبد الله، وهو مؤذّن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان عبداً عند أميّة بن خلف، وعندما علم أميّة بأنه أسلم وأنه على دين النبي محمد، كان يأتي به عند شمس الظهيرة ويطرحه على ظهره ثمّ يأتي بصخرة كبيرة ويضعها على بطنه ويأمره بأن يكفر بدين محمد -صلى الله عليه وسلم- وإلا سيعذّبه حتى الموت ، ولكنه كان يجيب في كلّ مرة -رضي الله عنه وأرضاه-: “أحدٌ أحدٌ”، ولمّا رأى أبو بكر الصديق ما يحصل به قام بشرائه، فقد كان يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن بلال بن رباح: “إنه سيِّدُنا وعتيق سيِّدَنا”
وقد ثبت في فضائله الكثير من الأحاديث منها ما رواه بريدة بن الأحصب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: (أصبحَ رسولُ اللهِ يومًا فدَعا بلالًا، فقال: يا بِلالُ بم سَبقْتَنِي إلى الجنَّةِ؟ إنني دخَلتُ البارحةَ الجنَّةَ فسمِعتُ خَشخشَتَك أمامي؟ فقال بلالٌ: يا رسولَ اللهِ، ما أَذَّنْتُ قطُّ إلَّا صلَّيتُ ركعَتيْنِ، ولا أصابَني حَدَثٌ قطُّ إلَّا توضَّأتُ عِندَه، فقالَ رسولُ اللهِ: بهذَا).[صحيح الترغيب والترهيب ]
لغة القرآن تتحدى الفصحاء
——————————–
إن القرآن نزل باللغة العربية لإثبات إعجاز القرآن، لإثبات صدق الرسالة، فلقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوم فصحاء بلغاء يتبارى فصحاؤهم في نثر الكلام ونظمه في مجامعهم وأسواقهم، فجاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن، آية قاطعة وحجة باهرة على نبوته، وقال لهم إن ارتبتم في أن هذا القرآن من عند الله فأتوا بمثله، فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، فتنزل معهم فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ولم يكن شيء أحب إليهم من أن يثبتوا كذب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو وجدوا أي طريق يستطيعون ذلك من خلاله لسلكوه لشدة عداوتهم له وبغضهم لما جاء به، ولكنهم عجزوا، فدل ذلك أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {سورة البقرة: 33}.
أثرت لغة القرآن في قلوب المشركين
——————————————–
لم يتمالك المشركون أنفسهم عند سماع القرآن فسجدوا لله رب العالمين ، فقد أخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم في مكة، فسجد في آخر السورة، وسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم من كان حاضرًا، من المؤمنين والمشركين، إلا شيخًا من المشركين لم يسجد، بل أخذ بكفِّه حصًى أو ترابًا فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا عن السجود، فأخبر ابن مسعود أنه رأى ذلك الشيخ بعد ذلك ببدر قُتل كافرًا، وهو أمية بن خلف، ولكن هناك آخر لم يسجد ولعل ابن مسعود لم يره، ولكنه أسلم بعد ذلك، وهو المطلب بن أبي وَدَاعة.
لغة القرآن غزت قلب الطفيل وسمعه
————————————-ـ—-
قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ـ رضي الله عنه ـ رواها السيوطي في الخصائص الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة النبوية، وقد رواها كذلك ابن كثير في البداية والنهاية قال: ” قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها، فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلا شريفاً شاعراً لبيبا، فقالوا له: إنك قدمتَ بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تَكْلِمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوْت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (قطنا) فرَقَاً (خوفا) من أن يبلغني شيء من قوله .
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبَىَ الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلتُ في نفسي: وَاثُكْلَ أُمَّاه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني مِنْ أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلْتُ، وإن كان قبيحا تركت، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبَى الله ـ عز وجل ـ إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك، قال: فعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق .
إخوة الإسلام
يكفي في بيان فضل اللغة العربية أن نذكر أنها لغة القرآن الكريم ، المعجزة الخالدة ، التي نزلت لتكون منهج حياة الناس إلى قيام الساعة ، واصطفى الله عز وجل اللغة العربية لتكون وعاء يحمل هذا النور والهداية إلى الناس ، وذكَّر بذلك في نحو عشرة مواضع في القرآن الكريم ، منها قوله عز وجل : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الزمر/27-28. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” اللسان العربي شعار الإسلام وأهله “، وقال الثعالبي إمام اللغة : (من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها، وثابر عليها، وصرف همَّته إليها ) .
هذا وصلوا على سيدنا محمد