خطبة بعنوان ( لغة القرآن الكريم اللغة العربية والحفاظ على هويتنا) للدكتور محمد جاد قحيف

خطبة الجمعة القادمة
الحمد لله الذي جعل القرآن لسانًا عربيًّا وتبيانًا، وجعل اللغة العربية لفهم القرآن والسنة مفتاحًا وبيانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أنعم باللسان على الإنسان منة وإعطاء،
إنّ الّذي ملأ اللغات محاسنًا * جعلَ الجمالَ وسرّه في الضّاد
لو لم تكُنْ أمّ اللغـاتِ هيَ المُنى * لكسرتُ أقلامي وعِفتُ مِدادي
لغةٌ إذا وقعتْ عـلى أسماعِنا * كانتْ لنا برداً على الأكبادِ
ستظلُّ رابطةً تؤلّـفُ بيننا * فهيَ الرجاءُ لناطـقٍ بالضّاد ..
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفصح الناس لسانًا وأحسنهم بيانًا،
وهبه ربه جوامع الكلم ففاق الناس فضلا وجمالا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين سلكوا طريقته لغة ومنهاجا . وبعد:
فإن شرف اللغة العربية لغة القرآن الكريم العربي المبين بين اللغات كشرف دين الإسلام بين الأديان، وإذا كان نور قلب الأمة دينها، فإن نور لسانها لغتها العربية؛ لأن اللغة العربية لغة قرآن وسُنَّة، لغة عبادة وعلم، وفِكْر وأدب وثقافة وحضارة وسياسة، وهي لسان مشترك يجمع أكثر من مليار مسلم ونصف المليار على وجه الأرض، لا يقرأون القرآن إلا بها مهما نطقوا بغيرها، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: “إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون”.
كما أن اللغة العربية لغة السنة المطهرة ..
قال عليه الصلاة والسلام”:
أنا أفصحُ العربِ بَيْدَ أنِّي من قريشٍ ونشأتُ في بني سعدٍ وارتضَعتُ في بني زُهرةَ خلاصة البدر المنير “. ضعيف السند صحيح المعنى ..

العنصر الأول :روعة الأساليب البلاغية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ..
القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ، وهو بحر زخار لا يدرك له قرار ، واللغة العربية تعتبر من أكثر اللغات في العالم تنوعاً وتميزاً، ومن أحد هذه المميزات للغة العربية تنوع الأساليب العربية البليغة كأسلوب الأمر والنهي ، والاستفهام والإنكار ، والتقرير ، ومن أروع أساليب القرآن الكريم واللغة العربية أسلوب النداء، وهو أحد الأساليب اللغوية اَلْبَلَاغِيَّة الراقية لكلام العرب ، وأحد طرق الخطاب بين المخاطِب والمخاطَب للتواصل والتقارب والتفاهم ..
فلقد جاء القرآن الكريم في براعة من النظم وروعة من الأسلوب، ورفعة من البيان وتعددت معالم الإعجاز في القرآن الكريم ، كالإعجاز اللغوي والبلاغي ، والبياني ، والغيبي ، والعددي ، والعلمي ، والتشريعي ساعد على كل نزول القرآن الكريم باللغة العربية ..
القرآن الكريم في آيات عديدة نوّه بشأن اللغة العربية، فقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [طه: 113]، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 193-195]، (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3]، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 3]. وآيات أخرى.
وقال ابن فارس في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ): فقدم الله -عز وجل- ذكر البيان على جميع ما توحد بخلقه، وتفرد بإنشائه، من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغير ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1-3].
من فضل الله علينا أن الله علمنا البيان، فلمّا خص -جل ثناؤه- اللسانَ العربي بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه.
وقد دعا الاسلام إلى الصلة بالله -عز وجل-، وبكتابه الكريم ؛ تلاوةً واستماعًا، وتدبُّرًا وانتفاعًا؛ لتحيا القلوب بعذب تلاوة القرآن، وتصلح القلوب وتشفى النفوس بكلام الرحمن ، فينبغي على المسلم أن يتأسّى برسول اللهﷺ في الإقبال على القرآن الكريم .. وقد اختار المولى تبارك وتعالى من بين آلاف اللغات واللهجات اللغة العربية المبينة وعاء لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
وكثير من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى العودة لقواعد اللغة العربية في معرفة المعاني والأحكام ..
ومن ذلك حديث اسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا ..
أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلمَ) قُلْنَ لِلنَّبِيِّ (صلَى الله عليه وسلم): أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: “‌أَطْوَلُكُنَّ ‌يَدًا” فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. قال الإمام النووي، في (شرح صحيح مسلم): ” المراد بطول اليد طول اليد في الصدقة وفعل الخير، فماتت زينب أولهن فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود، قال أهل اللغة: يقال فلان طويل اليد وطويل الباع إذا كان سمحا جواد
إن الذين يستبدلون العجمة بالعربية؛ ظنًّا منهم أنها علامة الرقي ومكمن الافتخار، فظنُّهم – لَعَمْرُ اللهِ – ظنٌّ مقلوب، واستسمانٌ لذي ورم، نعم، قد يبلغ التعامل بغير العربية مبلغ الضرورة أو الحاجة أو التحسين، ولا حرج في ذلكم؛ كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا احتاج إلى مثل هذا؛ حيث أمر زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه أن يتعلم اللغة السريانية؛ [رواه أحمد].
اعلموا رعاكم الله أن المرء مهما قلَّب بصرَه، وأرخى سمعه، فلن يجد أعذب من اللغة العربية، ولا أمتنَ منها ولا أعمقَ، ولن تستطيع لغة في الوجود مقاربتَها فضلًا عن مجاراتها، بل إن كثيرًا من لغات العالم تحوي كلمات ذات أصل عربي، كيف لا وقد تميزت بحروف متكاملة مصنَّفة على مخارج نقطها من الحلق إلى الشفتين، يُضاف إلى ذلكم تميُّزُها بأحرف لا توجد في لغة أخرى غيرها؟
وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في بيان فضلها؛ حيث قال: “وإنما يَعرف فضلَ القرآن مَنْ عرف كلامَ العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونَظَرَ في أشعار العرب وخُطَبِها ومقاولاتها في مواطن افتخارها ورسائلها”..

العنصر الثاني  : وصية سلف الأمة وخلفها الصالح باللغة العربية ..
بلغ من اهتمام السلف كعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره بها؛ فقد كان يوصي الصحابة الذين اختلطوا بالأعاجم ألا يغفلوا عن علوم العربية, فكتب لهم -أي لأصحابه-: “أما بعد: فتفقهوا في السنَّة, وتفقهوا في العربية, وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي”, وكان يقول: “تعلموا العربية؛ فإنها تنبت العقل, وتزيد المروءة”, وفي مرة كتب كاتب لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- خطابا لعمر, فبدأه بقوله: “من أبو موسى”, فكتب إليه عمر: “أن اضربه سوطا ،واستبدله بغيره”.
لغة القرآن يا شمس الهدى * صانك الرحمن من كيد العدى
هل على وجه الثرى من لغة * أحدثت في مسمع الدهر صدى؟
كان الحسنُ البصريُّ -رحمه الله- يقول: “ربما دعوتُ فلَحَنتُ؛ فأخافُ أن لا يُستجابَ لي”.
سمع الأعمش؛ رجلا يلحن في كلامه؛ فقال: “من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم”.
كان أيوبُ السِّختيانيُّ -رحمه الله- إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ.
قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: “أفصحُ اللُّغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأدِيةً للمعاني التي تقومُ بالنفوس، فلهذا أُنزِل أشرفُ الكتبِ بأشرفِ اللُّغات”.
ويقولُ الفراءُ -رحمهُ اللهُ-: « وجدنَا للغةِ العربِ فضلًا على لغاتِ جميعِ الأممِ اختصاصًا من اللهِ تعالى، وكرامةً أكرمَهُم بها، ومِن خصائِصِهَا أنّه يوجدُ فيها مِن الإيجازِ ما لا يوجدُ في غيرِهَا مِن اللغاتِ». (صبح الأعشى).
يقولُ الثعالبي –رحمهُ اللهُ-: ” مَن أحبَّ اللهَ أحبَّ رسولَهُ صلى اللهُ عليه وسلم، ومَن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العربَ، ومَن أحبَّ العربَ أحبَّ العربيةَ التي بها نزلَ أفضلُ الكتبِ على أفضلِ العجمِ والعربِ”.(فقه اللغة وسر العربية).
ويقولُ الفارابي –رحمه اللهُ-: ” القرآنُ كلامُ اللهِ وتنزيلُهُ، فَصّلَ فيه مصالحَ العبادِ في معاشِهِم ومعادِهِم، مما يأتُونَ ويَذَرُون، ولا سبيلَ إلى علمِهِ وإدراكِ معانيهِ إلا بالتبحرِ في علمِ هذه اللغةِ”.( المزهر في علوم اللغة- للسيوطي).

يقولُ الشاطبيُّ – رحمه اللهُ -: « على الناظرِ في الشريعةِ والمتكلمِ فيها أصولًا وفروعًا، أنْ لا يتكلمَ في شيءٍ من ذلك حتى يكونَ عربيًا أو كالعربيِّ في كونهِ عارفًا بلسانِ العربِ، بالغًا فيه مبالغَ العربِ » . (الاعتصام) .
ورويَ عن الأصمعيِّ قال: كنتُ أقرأُ سورةَ المائدةِ ومعي أعرابيٌّ، فقرأتُ هذه الآيةَ: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .(المائدة: 38) . فقلتُ: ” واللهُ غفورٌ رحيمٌ ” سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ مَن هذا؟ فقلتُ: كلامُ اللهِ، قال: أعدْ، فأعدتُ: ” واللهُ غفورٌ رحيمٌ “، ثم تنبهتُ، فقلتُ: (واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) فقال: الآن أصبْتَ، فقلتُ: أتحفظُ المائدةَ؟ قال: لا . فقلتُ: كيف عرفتَ؟ قال: يا هذا (عزيزٌ حكيمٌ) فأمرَ بالقطعِ، فلو غفرَ ورحمَ لما أمرَ بالقطعِ. انتهى. فقد فهمَ الأعرابيُّ الأميُّ أنّ مقتضى العزةِ والحكمةِ غيرُ مقتضى المغفرةِ والرحمةِ، وأنّ اللهَ تعالى يضع ُكلَّ اسمٍ موضعَهُ من كتابهِ. ” ( تفسير المنار )..
إنَّ اللغة العربية مصدرُ عزٍّ للأمة : لا بد من النظرِ إلى اللغة العربية على أنها لغةُ القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغةُ التشريع الإسلامي؛ بحيث يكون الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلام، فهي عنصرٌ أساسي من مقوماتِ الأمة الإسلامية والشخصية الإسلامية،
ضياع اللغة ضياع لأهلها: يقول الرافعي رحمه الله-رحمه الله تعالى-: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ.
والرافعي-رحمه الله تعالى- حين يكتب هذا الكلام فإنه قد عاصر الاستعمار في بلاد المسلمين، ورأى ما يفعل الغزاة من طمس ٍللغة من يستعمرهم وإحلال لغته مكانها.
وما تأخرتْ الأمةُ الإسلاميةُ إلا يومَ أنْ تخلتْ عن هويتِهَا الإسلاميةِ ولسانِها العربيِّ، أمةُ الهاديِ تستحي أنْ تقولَ: إنّها مسلمةٌ، ولا تُمانعُ مِن حذفِ لسانِها العربيِّ في المحافلِ الدوليةِ، مستبدلةً إياهُ بما عجمَ وارطنَ، وصدقَ ربُّنَا إذ يقولُ ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) البقرة: 6 .. و يقولُ عمرُ بنُ الخطابِ -رضي اللهُ عنه-: “نحنُ قومٌ أعزَّنَا اللهُ بالإسلامِ ، فإنْ ابتغينَا العزةَ بغيرِه أذلنَا اللهُ، أمةٌ راحتْ تلهثُ وراءَ الشرقِ والغربِ وتركتْ هويتَهَا لذا أدركَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- هذه الحقيقةَ، وحذرَ منها غايةَ التحذيرِ كما في البخاريِ ومسلمٍ من حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ …) هل هذه هي أمةٌ دستورُها القرآنُ ..، ونبيُّهَا المصطفي العدنانُ .. ولغتُهَا أغنى اللغاتِ !!!
ما الذي غيَّرَهَا وما الذي بدَّلَها؟ ما الذي حدثَ؟ وما الذي جرى ؟
أمةٌ ذُلتْ بعدَ عزةٍ..!!وضعفتْ بعدَ قوةٍ..!!وجَهلتْ بعدَ علمٍ نسأل الله السلامة والله المستعان !!.

العنصر الثالث :تصريح أعداء الأمة بعدواتهم للغة العربية ..

لقد صرح الأعداء بعداوتها وخططوا لمحوها من عقول أبنائها، وقد قال قائلهم: “إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرؤون القرآنَ، ويتكلَّمون العربيةَ؛ فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من وجوهِهم، ونقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم”، وهنا يتبين عظيم مكرهم بلغتنا ومخططهم لطمسها وأعلنوا عليها حربا ضروسا وأنفقوا لتحقيق أمانيهم الغالي والنفيس، ولكن الله خيب آمالهم وأفشل مخططاتهم .
أو بترك العناية بها وتغييب دورها في المناهج التعليمة؛ فينشأ جيل لا صلة له باللغة العربية؛ سوى مجرد الانتساب إليها، وحينها لا يعرف عقيدته الصحيحة ولا يفرق بين الحق والباطل؛ فتخسر الأمة أصلا من أصولها ولبنة من لبناتها التي ترتكز عليها حضاراتها وتستقي منها ثقافاتها.
ولما كانت هذه هي منزلة العربية من دين الإسلام؛ فإن أعداء الملة كرسوا حربهم لها، وسلقوا ألسنتهم بتحقيرها وتصغيرها، وسنوا أقلامهم لنقدها وعيبها؛ لأنها لسان القرآن وبيانه، ولعلمهم أنها وعاء الإسلام وشعاره، فتنفير الناس منها، وصرفهم عنها، ما هو إلا صرف عن كتاب الله تعالى، وعن دين الإسلام.
لقد اشتدت على لغة القرآن حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يئسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة ادِّعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها، فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات، ومنهم من دعا إلى تدمير قواعد الكتابة، وقال قائلهم في ذلك: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين.
وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عَنْوَنَها بقوله: “هذا الصرف وهذا النحو. أمَا لهذا الليل من آخِر؟! وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية.
وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة، وفي القرن الماضي بذلوا جهودا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، وألفوا كتبا فيها، ووضعوا -بزعمهم- قواعد لها، ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية، وألقى مستشرق محاضرة قال فيها بكل صفاقة ووقاحة: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى! وأعلن في آخر محاضرته عن مسابقة للخطابة بالعامية، ومن تكون خطبته جيدة ناجحةً فله مكافأة مجزية.
وتَوَّج هذا الضلال والانحراف قبطي شيوعي حين كتب كتابا دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى الكتابة بالعامية.
وإن من يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر يكتشف أن أول أعمال الاحتلال هو وضع الخطة لحطم اللغة، يبدو ذلك واضحاً في تقرير لورد دوفرين عام 1882 حين قال : إن أمل التقدم ضعيف في كثير من بلادنا ما دام البون شاسعا بين المسلمين ولغة الإسلام ، وما دامت تتعرض للاعتداء في كل حين ..
لقد تعدى هذا العدوان على لغة القرآن إلى الشام، فكرس أحد المنحرفين وقته في ضبط أحوال العامية في لبنان، وتقييد شواردها؛ لاستخدامها في كتابة العلوم، وادعى أنه وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ثم ورث ابنه عنه ضلاله، فأكمل مسيرة أبيه الضالة، وزعم الابن بعد أبيه أنَّ اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفهم! ثم قال: ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها، وهذا أعدُّهُ أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي. وتمنى أحد موارنة الشام أن يرى عملاً عسكرياً سياسياً يَفرض اللغة العامِّية على الناس.

وليس العراق بعيدا عن الشام، إذ وصلت إليه دعوة إلغاء العربية، ودعوى أنها سبب التخلف، فهذا شاعر عراقي يقول: فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين، فلم أجد غير سببين، أولهما: حجاب المرأة، والثاني: هو كون المسلمين -ولا سيما العرب- منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها.
ونسأل الله أن يخيب آمالهم ؛ لأن اللغة العربية متعلقة بالقرآن وقد كثر حفاظه في جميع البلدان..
وعلى كثير من وسائل الإعلام المختلفة نشطت هذه الدعوات الآثمة من جديد، وتبنى الدعوة إليها تلامذة المفسدين المتقدمين، ودعوا في حوارات وبرامج إلى إماتة لغة القرآن واستبدال غيرها بها، وسخَّروا المشاهد التمثيلية والمسرحية الهزلية لهذه المهمة القذرة، فصوروا مدرسي اللغة العربية في أشكالهم وحركاتهم ولباسهم في صور البله والمعاتيه والدراويش، وجعلوهم أضحوكة للمشاهدين والمستمعين، وما من نقيصة إلا ألصقوها بهم، ولا محمدة إلا نفوها عنهم، فوصموهم بالغش والكذب والاستغلال، والجهل والتخلف، والجبن؛ لينقدح في ذهن المستمع والمشاهد أن هيئتهم وأخلاقهم مستمدة مما يدرسون من قواعد اللغة العربية وبلاغتها ونحوها وصرفها، فينصرف الناس عنهم وعن المواد التي يدرسونها، وتُلقى في قلوبهم كراهيتها.
وفي مقابل هذه الصورة المهينة التي ظلموا بها معلمي العربية، فإنهم يصورون مدرسي اللغات الأجنبية في أحسن هيئة وأبهى حلة، ويخلعون عليهم من الأوصاف والأخلاق، والعلم والثقافة، والكرم، والشجاعة، ما أكثره كذب وتزييف؛ ليستقر في ذهن المشاهد والمستمع أن هيئتهم وأخلاقهم وثقافتهم مستمدة من اللغات الأجنبية التي يدرسونها؛ فيحبهم الناس، ويتمنون لأولادهم ما لهم.
وكثير من المشاهد التمثيلية والمسرحية المحفوظة شاهدة على هذا التزييف والإضلال للناس، وهكذا تُصاغ العقول عبر الإعلام، ويُطبع على القلوب، وتُزيف الحقائق، وتُزور المعلومات بما يوافق رغبات المستعمرين وأذنابهم.
وإذا كان كل هذا الإضلال قد وقع في المشرق العربي فإن المغرب العربي قد نال حظه الوافر من حرب على اللغة العربية وعلومها، وعلى من بلَّغ قرآنها ودينها؛ إذ أصبحت لغة القرآن لغة ثانية بعد الفرنسية، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغاربية الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال إفريقية.
وفي هذا الشأن يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: “يجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم؛ حتى ننتصر عليهم”.
وتجلى ذلك في ممارسات الفرنسيين الذين اقتحموا الأزهر إبَّان الحملة الفرنسية، وجعلوه إسطبلاً لخيولهم، وكذلك في إغلاق المساجد في الجزائر (بعد احتلالها) وتحويل بعضها إلى كنائس، وهم الذين قاموا بمحاولة القضاء على اللغة العربية والثقافة الإسلامية في الشمال الإفريقي، ناهيك عن المجازر الوحشية التي ارتكبها هؤلاء وغيرهم في البلدان العربية والإسلامية المستعمرة ..

العنصر الرابع : اهتمام الأمم الأخرى بلغاتها
النموذج اليهودي:

النموذج اليهودي:
البداية كانت في أواسط القرن التاسع عشر، حين كان اليهود موزعين على أكثر من مائة دولة في العالم، وتتحدث كل جماعة منهم لغة البلد الذي تَعيش فيه، ولا توجد اللغة العبرية إلا في بيوت العبادة، وفي بعض عبارات التخاطب والمجاملة، وكانت تعتبر لغة دينية ميتة، وعندما بدأت فكرة إقامة وطن لليهود رفع أحد مفكريهم (بن يهوذا) شعارًا مهمًّا، وهو: “لا حياة لأمَّة بدون لغة”، وقرر أن يسعى لكي يجعل من العبرية لغة حية على مستوى الكتابة وتدوين المعرفة والتخاطُب في الحياة اليومية، وبدا هذا الهدف عند اليهود أنفسهم صعبًا إن لم يكن مستحيلاً، ولكنه تمسك بفكرته رغم سخرية أصدقائه منه، وقرر الهجرة إلى فلسطين سنة 1881 مع زوجته وأسرته .. أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وصارت داره منتدى يتم الحديث فيه بالعبريَّة، وأصدر صحيفة بالعبريَّة، وجعل جزءًا منها مخصصًا للأطفال، وحرص على أن يسمي أبطال قصصهم بأسماء عبريَّة، وعكف على تأليف قاموس كبير للغة العبرية، بالاستعانة بالتراث اليهودي واللغات السامية، وابتكار مصطلحات جديدة في كل مجالات المعرفة، وقد استطاع في حياته أن ينجز منه تسعة أجزاء، وأكمله تلاميذه إلى ستة عشر مجلدًا، وأثمرت دعوته؛ فانتشرت المدارس العبرية في فلسطين المحتلة، وامتد التعلم والتأليف بالعبرية إلى كل المناهج، ثم امتد إلى الجامعات التي تدرس كل موادها بما في ذلك الطب والهندسة والعلوم بمختلف ألوانها باللغة العِبريَّة، وتُعقَد فيها المؤتمرات على أعلى مستوى بهذه اللغة، مع الاستفادة من تعلم اللغات الأخرى ؛ لأنهم يدركون جيدًا الفرق بين تعلم اللغات الأجنبية (وهو أمر مطلوب وضروري لكل حضارة وتقدم) وبين التعلم باللغات الأجنبية (وهو أمر يقضي على الشخصية واللغة القومية على المدى البعيد) ولا يُساعِد (كما يقول الباحثون) على تَوطين المعرفة لدى الأمة.
وامتدت تجربة اللغة العبرية إلى كل مَناحي الحياة؛ الاقتصادية والاجتماعية، والفنية والسياسية، فأصبحت المؤتمرات تعقد بها، وتكتب لافتات المتاجر والأماكن العامَّة والمنتديات بها، والمسئولون يلقون كلماتهم في أي دولة أجنبية بها، وبهذا الجهد الخارق استطاعت أمة أن تُحيي لغتها من العدم، وأن تحيا هي بهذه اللغة، ويتشكل لها كيان وهُويَّة.
النموذج الياباني:
الأمة اليابانية تعرضت لإبادة شاملة في الحرب العالمية الثانية تم تدمير مقومات الحضارة والحياة الطبيعية فيها، وتحولت المدنية إلى أطلال، وخضعت لعملية إخضاع وقهر وتطويع عالمية باسم “مشروع مارشال” من أجل طمس الهوية وتغريب اليابانيين المعتزين بهويتهم وحضارتهم ولغتهم، ومع ذلك صمد اليابانيون بكل قوة أمام محاولات طمس هويتهم وسلب خصوصيتهم، وأصروا على أن تكون لغة التعامل والتعليم والتداول والتبادل حتى استعادوا مكانتهم وصاروا من السبعة الكبار على مستوى العالم.
وقد بلغوا من التقدم ما بلغوا حافظوا على لغتهم، وجعلوها لغة العلم في بلادهم، وترجموا كتب الغربيين إليها، ولم يفرضوا اللغات الغربية على طلابهم…وأما الصينيون فأمرهم عجب؛ إذ ما يصدر اليوم كتاب علمي في الغرب إلا وينبري له المترجمون ليطبع من الغد باللغة الصينية.
أيغار اليهود وأهل الصين واليابان على لغاتهم، ويحافظون على ألسن طلابهم، مع أن لغاتهم لا تساوي شيئا أمام لغة القرآن في مفرداتها، وجُملها، وبلاغتها، واستيفائها لحاجات العصر ومصطلحاته ومتطلباته؛ ويتنكر العرب للغتهم العرباء التي اختارها الله تعالى لهم، وأنزل كتابه بها؟! فيزاحمونها باللغات الأجنبية بحجة التقدم والتطور، واستيفاء حاجات العصر.
كيف يفعلون ذلك وهم يرون أن البلاد العربية التي زاحمت عربيتها باللغات الأجنبية ما أفلحت ولا تقدمت؟ ويرون أن البلاد الوثنية التي تقدمت في الشرق قد حافظت على لسانها، وطوعت العلوم للغاتها، وما ضرها ذلك!.
ومن تعلم منذ صغره لغة حتى أضحت لغته الأولى فلا بد أن يتعلم جذورها وثقافتها وتاريخ أهلها، فينتمي إليهم ولو لم يكن من بلادهم، وكثير ممن نشؤوا من أبناء المسلمين على ألسن الغرب ولغاتهم كان ولاؤهم إليهم أكثر من ولائهم لأمتهم وبلدانهم .

العنصر الخامس : واجب الأمة نحو اللغة العربية
أولا: معرفة فضلها ومكانتها: اعرفوا فضل لغتكم، ومكانتها من دينكم، وقوِّموا بها ألسن أولادكم؛ فإنها لغة القرآن، ولغة الصلاة والعبادة، وكان السلف يعتنون بها، ويؤدبون أولادهم على اللحن فيها.

وأعلموا أنها باب من أبواب عزكم، فإياكم إياكم أن تفرطوا فيها! فإنكم مسئولون يوم القيامة عنها كما قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزُّخرف:43-44].
ثانياً: الحفاظُ على هويتِنَا العربيةِ ، ولا بدَّ من النظرِ إلى اللغةِ العربيةِ على أنّها لغةُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ المطهرةِ، ولغةُ التشريعِ الإسلاميِّ، بحيثُ يكونُ الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلامِ وتراثهِ الحضاريِّ العظيمِ، فهي عنصرٌ أساسيٌّ من مقوماتِ الأمةِ الإسلاميةِ والشخصيةِ الإسلاميةِ، والنظرُ إليها على أنّها وعاءٌ للمعرفةِ والثقافةِ بكلِّ جوانِبِهَا، ولا تكونُ مجردَ مادةٍ مستقلةٍ بذاتِهَا للدراسةِ؛ لأنَّ الأمَّةَ التي تُهملُ لغتَهَا أمةٌ تحتقرُ نفسَهَا، وتفرضُ على نفسِهَا التبعيةَ الثقافيةَ.

ولنعلمَ تمامَ العلمِ واليقينِ أنّ اللهَ – سبحانَهُ وتعالى – حافظٌ كتابَهُ ودينَهُ . قال تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. (الحجر: 9).
ثالثا: تربية أبناءنا على اللغة العربية: يجب علينا أنْ نربيَ أولادَنَا على منزلةِ ومكانةِ اللغةِ العربيةِ لغةِ القرآنِ الكريمِ ، وأنْ ندرَّبَهم ونعودَهُم عليها ؛ لأنّه لا غنى لنا عنها، كما يجبُ أنْ نعتزَّ بها لا بغيرِهَا ، وعلينا أنْ نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ لا تكفي السباحةُ فيه، بل أنْ نغوصَ في مكنونِهِ، ونستخرجَ منه المعاني الجميلةَ والبديعةَ التي تصنعُه وتلبسُه لباسًا جذابًا.
وهذا لا يمنع من تعلم اللغات الأخرى، بل هو أمر مطلوب للتواصل مع غير العربيين، ولكن لا يتحدث بغير العربية إلا للضرورة وفي محضر غير العربيين الذي لا يفهمون العربية، أما في المؤتمرات وأثناء حضور المسئولين فلابد من الاعتزاز بلغته العربية وعدم الحديث بغيرها.
كلمات ينطقها العامة بغير العربية ولابد من العدول عنها إلى العربية اعتزازا بلغتهم العربية
ميرسي أو سانك يو : الصواب أن نقول جزاك الله خيرا
عن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسُولُ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ»
جود مورننج : الصواب أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: «عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: «عِشْرُونَ حَسَنَةً» ، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: «ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَوْشَكَ مَا نَسِيَ صَاحِبُكُمْ، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَجْلِسَ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، وَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، مَا الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ»
جود باي : عبدَ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «كان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده ويقول: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ»
وغيرها الكثير والكثير، فلابد أن نعتز بلغتنا ولا نعدل عنها.

وقد عبَّر الشاطبيُّ -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: “إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً؛ فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ، إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ؛ فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية؛ فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا؛ فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة؛ فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة”.
قال سيدنا عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما -: “ما كنتُ أدري ما معنى: ﴿ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 14] حتى سمعتُ امرأةً من العربِ تقول : أنا فطرتُه؛ أي: ابتدأته”، وقال: “إذا خَفِيَ عليكم شيءٌ من القرآنِ، فابتغوه في الشِّعرِ؛ فإنَّه ديوانُ العرب” ،
يقول الأصمعي: خرجت ذات ليلة، وفيما أنا سائر إذ بصرت بطفلة لم تتعد التاسعة من عمرها تنشد هذه الأبيات:
أستغفرُ اللهَ لذنبي كُلِّهِ * قتلتُ روحا بغَيْر حِلِّهِ
مثل غزالٍ ناعم في دَلِّهِ * وانتصف الليلُ ولم أُصَلِّهِ
فقلت لها: يا هذه، قاتلك الله! ما أبلغك على صغرك! فأجابت: ويحك! أبعد هذا فصاحة بجانب قول الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]؛ فقد جمع فيها -سبحانه- بين أمرين، ونهيين، وبشارتين، في آية واحدة!.
الخطأ في قراءة القرءان قد يبطل الصلاة: ألا يكفي الإنسان إذا قرأ قوله تعالى على هذا الشكل: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء، أي أن الله هو الذي يخشى العلماء؟! بطلت صلاته بحركة واحدة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]،
أصحبت اللغة العربية يتحدث بها مئات الملايين منْ سكان هذه الأرض، وتهوي إليها قلوب آلاف الملايين منَ المسلمين؛ لأنَّها لغة القرآن، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10].
وختاما: إن تعلم اللغة العربية فرض واجب؛ لأن فهم الكتاب والسنة فرض واجب، وما لا يفهم إلا بفهم اللغة ففهم اللغة فرض واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أوضح مثل لذلك الوضوء، الوضوء فرض مع أن الوضوء ليس صلاة، لكن الصلاة التي هي فرض لا تتم إلا بالوضوء، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا تتم السنة إلا بها فهو سنة.
ألا يكفي الإنسان إذا قرأ قوله تعالى على هذا الشكل: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء، الله هو الذي يخشى العلماء؟! بطلت صلاته بحركة واحدة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فأحياناً حركة واحدة قد تفسد صلاتك:
ومن القصص الواقعية أن رجلاً بصعيد مصر أرسل ابنه إلى الأزهر ليتعلم علوم الشريعة، عاد بعد خمس سنوات خطيب المسجد، خطب أول خطبة وكان الأب جالساً، فبكى الأب بكاءً شديداً، أنتم تظنون أنه بكى فرحاً بابنه، بكى ندماً على حاله، هذا الندم الشديد حمله أن يركب دابته ويتوجه من صعيد مصر إلى القاهرة، بقي شهراً، ثم بحث عن الأزهر وهو لا يجيد نطق اسم الأزهر صحيحا ، فتقدم في الأزهر الشريف ، ثم تعلم القراءة والكتابة في الخامسة والخمسين، وما مات إلا شيخا كبيرا في الأزهر. وقد يقول بعضنا أنا متقدم بالسن، أنا لم أعد أستطع التعلم، هذا كلام مرفوض، “تعلموا العربية فإنها من الدين”، من أجل أن تقرأ القرآن، من أجل أن تفهم أحكام الدين.
لأن المنهج التفصيلي في الدين فيه أقواله -صلى الله عليه وسلم- وأعماله، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه أقواله هو الطريق إلى فقه أعماله، إذاً: “تعلموا العربية فإنها من الدين”.
وعلينا أن نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ لا تكفي السباحة فيه، بل أن نغوصَ في مكنونِه، ونستخرج منه المعاني الجميلة والبديعة التي تصنعه وتلبسه لباسًا جذابًا..

لكن التبحر في اللغة، والتعمق، والتفرغ، هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل، نحن مأمورون أمر إيجاب، أو أمر استحباب، أن نحفظ قواعد اللغة العربية، وأن نصلح الألسنة المائلة، فيحفظ بهذه اللغة لنا فهم الكتاب، والسنة، والاقتداء بالعرب الفصحاء في خطابهم.
فاللهم انفعنا بالقرآن الكريم ولغة القرآن وارفع ذكرنا بالقرآن الكريم ، واشرح صدورنا واغفر ذنوبنا ببركة القرآن الكريم ، واجعل القرآن قائدنا إلى الجنة ، ولا تجعله سائقنا إلى النار ، برحمتك يا عزيز غفار
صل الله على نبينا المختار وعلى آله وصحبه الأخيار ، وسلم تسليما كثيرا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.