خطبة بعنوان : وقفة مع قول النبي ﷺ لسيدنا زاهِر الأَشْجَعيّ -رضي الله عنه- أنت عند الله غال

بقلم د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

وقفة مع قول النبي ﷺ لسيدنا زاهِر الأَشْجَعيّ -رضي الله عنه- أنت عند الله غال♦♦..

خطبة الجمعة القادمة..

————————-

الحمد لله مصرف الشهور والأعوام ، الملك القدوس السلام ، المتفرِّدِ بالعظمة والبقاء والدوام،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام ، والطول والإنعام، وأشهد أن سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله، أفضل الرسل وسيّد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان على الدوام ..

أما بعد:

فلقاء اليوم وقفة مع قصة عجيبة لصحابي جليل اسمه زاهِر بنُ حَرامٍ الأَشْجَعيّ -رضي الله عنه-..

كان الصَّحابي الجليل سيدنا زاهِرُ الأَشْجَعيُّ -رضي الله عنه- ممن شَهِدَ بَدْرًا ، وكان رجلا أعرابيّاً كلَّما قدم إلى المدينة أحضر الهدايا من البادية لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، كما كان الرسول أيضاً يُهدي له ويقول فيه: (زاهِرٌ بادِيَتُنا ونحنُ حاضِرَتُه).

فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- هذه القصة بتمامها فيقول: (أنَّ رجلًا مِن أهلِ الباديةِ كان اسمُه زاهِرًا وكان يُهدي إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الهَديَّةَ فيُجَهِّزُه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أراد أن يخرُجَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّ زاهرًا بادِيَتُنا ونحن حاضِروه وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّه وكان دَميمًا فأتى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا وهو يبيعُ متاعَه فاحتَضَنه مِن خَلفِه وهو لا يُبْصِرُه فقال أرْسِلْني مَن هذا؟ فالتفَت فعرَف النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجعَل لا يَأْلو ما ألصَقَ ظَهرَه بصَدرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ عرَفه وجعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ مَن يشتري العبدَ فقال يا رسولَ اللهِ إذن تجِدَني كاسِدًا فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكنَّك عندَ اللهِ لَسْتَ بكاسِدٍ أو قال عندَ اللهِ أنت غالٍ).

( مجمع الزوائد بسند صحيح) ..

العنصر الأول : دروس وعبر في هذه القصة المباركة ..

ففي هذه القصة العديد من الفوائد والدروس والعبر منها ما يلي :

أولًا: مدى حب هذا الصحابي الجليل للنبي صلى الله عليه وسلم ، إنه زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ من أهل البادية يأتي إلى المدينة محملًا بهدايا البادية مما لا يوجد في المدينة فيهديه لحبيبه صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك يعمق حبه في قلب النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا منهج نبوي كريم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : “تَهَادُوا تَحَابُّوا”؛ رواه البخاري في الأدب وسنده صحيح .

وفي أحداث القصة مشاهد معبرة ولقطات مؤثرة تكشف عن مكنونات الصدور وخبايا الضمائر ، وما تحويه من فيض الحب والوداد للنبي صلى الله عليه وسلم، فما هي هذه اللقطة؟ تأمل قول أنس رضي الله عنه: “فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ” مشهدٌ فريدٌ للحب، ها هو المحب يلصق ظهره بصدر حبيبه ليزداد قربًا وتمازجًا للتعبير عن عظيم سعادته وغاية أنسه باحتضان رسول الله له، يلصق ظهره بصدر رسول الله ليعمق الحب والوداد ولينهل من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نعم إنه مشهد من مشاهد الحب يتمنَّى الكثير لو كان في موضع زاهر رضي الله عنه، إنها قصة من أروع قصص الحب، فصلى الله وسلم عليك يا رسول الله ورضي الله عنك يا زاهر!(الالوكة).

تأملوا المشهد: زاهرٌ في السوق يبتاع ويشتري والسوق قد غصَّ بزبائنه ، فأتي صاحب القلب الودود الرحيم عليه الصلاة والسلام إلى السوق فاتجه إلى زاهر حاضنا ممازحًا ومداعبًا ..

لكن مع ممازحته كان لا يقول إلا صدقاً ..

فقوله: (من يشتري العبد)؟ كان مُزاحاً فيه حقيقةٌ؛ وهي أنّنا جميعا عباد لله وحده ..

ثانياً: رد التحية ومقابلة الإحسان بإحسان مثله..

فهما وعملا بقول الله تعالى :

﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾النساء /٨٦..

فها هو صلى الله عليه وسلم يجهز زاهرًا رضي الله عنه ويجمع له ما يحتاج إليه من المدينة من طعام وثياب ومتاع مما لا يوجد في البادية ؛ ليكشف لنا أن العلاقة بينهما قوية متينة، إنها علاقة وطيدة من الحب والوداد لخَّصَها صلى الله عليه وسلم بقوله: “إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ”..

بل العلاقة أعلى من ذلك تصل إلى المزاح بالقول والفعل في مشهد كله أُنْسٌ وحبٌّ وودادٌ وصفاء ونقاء ..

ثالثًا: القصة درس عظيم في تَواضُعُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وحُسنُ عِشرتِه لأصحابِه ، فكما ترى تواضع يفيض بالحب على رجل من البادية وصف -في رواية لابن حبان- بأنه كَانَ رَجُلًا دَمِيمًا، فيقبل عليه، ويقبل هديته، ويهدي إليه ويمازحه، وهذا زاهر رضي الله عنه يستصغر نفسه عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟” فَقَالَ زَاهِرٌ: تَجِدُنِي يَا رَسُولَ اللهِ كَاسِدًا! أي: لا قيمة لي ولا ثمن، وكان ثمرة هذا التواضع واستصغار النفس أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم البشارة العظيمة والوسام الذي ظفر به رضي الله عنه وأرضاه، لقد فاز بوصف النبي صلى عليه وسلم “: “بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ”، ولَسْتَ ‌بِكَاسِدٍ فما أعظمها من بشارة! وما أعظمه من وسام! هكذا يرفع الله شأن المتواضعين ويعلي ذكرهم : قال عليه الصلاة والسلام : “وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ”. أخرجه الإمام مسلم..

لله أنت يا رسول الله! ما أعظم شمائلك! ما أعظم تواضعك! ما أطيب قلبك! ما أسعد القلوب التي عاشرتك وشاهدت هذا المشهد! مشهدٌ غايةٌ في التواضع، غايةٌ في الطيبة، غايةٌ في الحب، غايةٌ في اليسر والسماحة، إنه مشهدٌ من مشاهد التواضع، صاحبه أعظم من مشى على الأرض، وخير من طلعت عليه الشمس، ما أسعدك وأهنأك يا زاهر رضي الله عنك وأرضاك! إذ فزت بحِضْن النبي صلى الله عليه وسلم، وفزت بمزاحه ومداعبته.

إن هداية هذا المشهد درسٌ بليغ للمربين وحُمَّال الدين ودُعاة الخير، درسٌ للآباء والأمهات؛ أن اقتربوا ممن تقومون على تربيتهم وتعليمهم، لا تجعلوا بينكم وبينهم حواجز، مازحوهم ولاعبوهم، أدخلوا عليهم الفرح والأنس والسرور، تعهدوهم بالهدية والإحسان، تعهدوهم بالمدح والثناء على ما يقومون به من خير وصلاح ونجاح، إنكم بذلك تدخلون السعد على نفوسهم وتبنون فيها صروحًا من الخير، وتدفعونهم إلى مزيد من العطاء والنجاح.

يخطئ كل الخطأ من يزعم أن المزاح مع الأهل والأبناء والمتربين والتلطف بهم والإهداء إليهم والتبسُّم في وجوههم والثناء عليهم يسقط هيبة المتربي، أقول لأولئك: دونكم هدي محمد صلى الله عليه وسلم، دونكم هدي خير من زكَّى النفوس وقام على تربيتها وكفى..

(الألوكة)

فيا أخا الإسلام :

تواضَعْ تَكُنْ كالنجمِ لاحَ لِنَاظرٍ

على صَفحَاتِ الماءِ وهو رَفِيعُ

ولا تكُ كالدُّخَانِ يعْلُو بنَفْسِه

إلى طبَقَاتِ الجوِّ وهْو وَضِيعُ إذا شئت أن تزداد قدرًا ورفعةً *** فَلِنْ وتواضع واترك الكبـر والعجبا

تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة **** فإن رفيع القوم منه يتواضع..

رابعًا:منزلة العبد الغالية عند الله.. إن قيمة العبد عند الله ليس بشكله صورته ولا بهيئته وزينته ، بل بما وقر في القلب من الإيمان والتقوى وحسن العمل ..

قال عليه الصلاة والسلام:

“إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”(أخرجه الإمام مسلم).

لقد علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الناسَ لا تَتفاضَلُ بحُسْنِ المظاهِرِ أو كَثرةِ الأموالِ، وإنما تتفاضلُ بالتقوى وطَهارةِ القلوبِ، والخَشيةِ من اللهِ، والسَّعيِ في الأعمالِ الصالحةِ، كما في هذا الحَديثِ، حيثُ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “إنَّ اللهَ تعالى لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم، وأموالِكم”، أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لا يَنظُرُ إلى أجسامِ العبادِ؛ هلْ هي كَبيرةٌ أو صَغيرةٌ، أو صَحيحةٌ أو سَقيمةٌ، ولا يَنظُرُ إلى الصُّوَرِ؛ هل هي جميلةٌ أو ذَميمةٌ؛ ولا يَنظُرُ إلى الأموالِ كثيرةٍ أو قليلةٍ؛ فلا يُؤاخِذُ اللهُ عزَّ وجلَّ عبادَه، ولا يُحاسبُهم على هذه الأمورِ وتَفاوُتِهم فيها، “ولكنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم”، أي: إلى ما فيها من التَّقْوى واليقينِ، والصدقِ والإخلاصِ، وقصدِ الرياءِ والسُّمعةِ، وسائرِ الأخلاقِ الحَسنةِ والقبيحةِ، “وأعمالِكم”، أي: وينظُرُ إلى أعمالِكم من حيثُ صلاحُها وفسادُها؛ فيثيبُ ويُجازي عليها؛ فلَيسَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ خلْقِه صِلةٌ إلَّا بِالتَّقْوى؛ فمَنْ كان للهِ أتْقَى كان من اللهِ أقربَ، وكان عندَ اللهِ أكرمَ؛ إذَنْ فعلى المَرْءِ ألَّا يَفخرَ بِمالِه ولا بِجَمالِه ولا بِبدنِه ولا بِأولادِه ولا بِقُصورِه، ولا بِشيءٍ من هذه الدُّنْيا أبدًا، إنَّما إذا وفَّقه اللهُ لِلتَّقوى؛ فهذا من فَضلِ اللهِ عليه؛ فَلْيحمدِ اللهَ عليه، وإنْ خُذِلَ فلا يَلومَنَّ إلَّا نفْسَه.. (الدرر السنية)..

ورغم أهمية تقوى الله وخشيته للمسلمين في الدنيا والآخرة ، فنحن لا نكترث لأمر التقوى، لا نرى في التقوى أو في لوازمها معيارًا حقيقيًّا نَقِيس به الناس، وميزانًا لاحترامِهم وتقديرهم، إنها إشكالية: معايير (مقاييس) الاحترام عند الناس اليوم، نجد أناسًا في هذا الزمان إنما يحترمون ويقدرون ويتزلَّفون ويتوددون ويسوِّدون ويقرِّبون صاحبَ الجاه والسلطان، وغاب عنهم أنه ما مِن جاهٍ إلا سيبلى، إلا جاهَ ربِّ العالمين، وما من سلطان إلا سيفنى، إلا سلطان الرب العظيم.

إن أناسًا اليوم يبالغون في توقير أرباب المال الفاني، ويبالغون في تعظيم أصحاب المباني وإن غابت فيهم المعاني، وأقصِد بالمعاني هنا: قِيَم الأخلاق والأدب والدِّين، ربما تناسَوا أن أصحاب المظاهر والمفاخر لا ينفَعُهم ما هم عليه من جميل المظهر والفخر، إن ساءت منهم السرائر والضمائر.

إن أناسًا اليوم يتملَّقون ويتزلَّفون ويتوددون لأصحاب النَّسَب العالي، وأصحاب الحسَب الغالي، وكأن مَن سواهم لا يستأهلون – على الأقل – أقلَّ الاحترام وأدناه.

أحبتي، إن المعيار الحقيقي الذي يتعيَّن علينا لزامًا أن نقيس به الناس، ونزِنَ به الناس، ونضع به الناس، ونرفع به الناس، ونحكم به على الناس هو: معيارٌ وميزانٌ ومقياسٌ واحدٌ: التقوى وما يتَّصل بها مِن حُسنِ سمتٍ ودِينٍ

هذا هو المقياسُ الشرعي الوحيد في التصنيف الحقيقي للناس، هذا هو المعيار الشرعي الوحيد في التمييز بينهم، وهنا يكفينا شاهدًا أن الله تعالى دلَّل على هذا المقياس أو المعيار في نحو قوله: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]؛ فكان أكرمَ الناس عند الله جل وعلا وأقرَبَهم إليه منزلاً: الأتقياءُ، الأنقياءُ والأصفياء..

إن الله – عز وجل – أعزَّ بلالاً بحُسْنِ إسلامه، وقد كان عبدًا أسودَا حبشيًّا، وأذَلَّ أبا جهلٍ وصناديدَ قريش بكفرهم وشِركهم وغَيِّهم، وقد كانوا سادةَ مكةَ وكُبَراءَها ووجهاءَها وأسيادَها.(الألوكة)..

فهذا الصحابي رجل من البادية دميم الخلقة، ومع ذلك بَشَّره رسولُه صلى الله عليه وسلم بقوله: “بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ”، وما أعظم أن يكون العبد غاليًا عند الله عز وجل! ولعلَّ الذي أوصله لهذه المنزلة عظيم حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه في ذلكم الحب ، وما كان عليه من التقوى والصلاح، فيا فوز من كان مُتقيًا لله وعَمرَ قلبه بحب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون غالي الثمن عند ربِّه عَزَّ وجَلَّ.

و في قصة جلبيب رضي الله عنه عظات وعبر ، كان يكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه و سلم، فقال له النبي ذات يوم فيما يرويه أنس رضي الله عنه : «” يا جليبيب ألا تتزوج يا جليبيب ؟ فقال : يا رسول الله و من يزوجني يا رسول الله؟ فقال : أنا أزوجك يا جليبيب فالتفت جليبيب إلى الرسول فقال : إذا تجدني كاسدا يا رسول الله٠ فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم:” غير أنك عند الله غير كاسد٠” فزوجه رسول الله فتاة من الأنصار٠ و لم تمض أيام على زواجه حتى خرج مع رسول الله في غزوة استشهد فيها رضي الله عنه٠ فلما انتهى القتال، اجتمع الناس و بدأوا يتفقدون بعضهم بعضا، فسألهم النبي و قال : ” هل تفقدون من أحد؟ قالوا نعم يا رسول الله نفقد فلانا و فلان، فقال صلى الله عليه و سلم:” و لكنني أفقد جليبيبا٠ فقوموا نلتمس خبره “، ثم قاموا و بحثوا عنه في ساحة القتال٠٠٠ فوجدوه شهيدا بجانبه سبعة من قتلى المشركين، فقال النبي صلى الله عليه و سلم:” قتلتهم ثم قتلوك أنت مني و أنا منك، أنت مني و أنا منك٠” فتربع جالسا بجانب الجسد، ثم حمله على ساعديه حتى حفروا قبره، قال أنس رضي الله عنه:” فمكثنا و الله نحفر القبر و جليبيب ماله فراش غير ساعد النبي صلى الله عليه و سلم» ٠

و ما أشبه قصة سيدنا زاهر بقصة سيدنا جليبيب رضي الله عنه كلاهما رجلان من صحابة النبي الكرام، كان في وجههما دمامة، كلاهما تحملا الفقر ومشاق الحياة وصعوبتها ، كلاهما اكرمهما النبي صلى عليه وسلم وأعطاهم منزلة عالية ..

العنصر الثاني : احترام الكرامة الإنسانية وصونها من أهم أسس ومبادئ الإسلام ..

تكريم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على منهاج القرآن الكريم في تكريم الإنسان وتأكيده على أنه مخلوق متميز مكرم عند الله ، فقد خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، ورزقه من الخير و الطيبات و فضله على سائر المخلوقات ..

قال جل شأنه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا».

(الإسراء 70) .

الإنسان خَلْقُ اللهِ -تعالى- وصنعتُهُ ، وما عرفَ قيمةَ الإنسانِ إلا المسلمُ الملتزمُ بدينِ الله -تعالى-، الذي له صلةٌ بالقرآنِ العظيمِ.

أمَّا مَن قَطَعَ صلَتَهُ بالله -تعالى-, وقَطَعَ صلَتَهُ بالقرآنِ العظيمِ؛ فإنَّه لا يعرف قيمةَ الإنسانِ، ويكونُ جاهلاً بِهِ، ومن الطبيعي أن يكونَ الإنسانُ عدواً لما يجهل.

القرآنُ العظيمُ هو الذي عرَّف المسلمينَ قيمةَ الإنسانِ، وذلك من خلال آيات القرآن الكريم وتعاليم السنة المطهرة..

وإن الإنسان من أجل وأعز ما خلق الله تعالى وكرم في هذه الحياة، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، والإنسان مجموع الروح والجسد ، والعقل والقلب والنفس والشهوة وفي الإنسان جوهرة ثمينة ، “هي الروح” لا يعرف سرها ، و ماهيتها إنسان مهما أوتي من علم ومعرفة ، فهي قبس من الرحمن جل في علاه ..

قال تعالى(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).

لقد قامت مبادئ الإسلام وتعاليمه وقِيَمه كلها على احترام الكرامة الإنسانية ، وصونها وحِفْظها، وعلى تعميق الشعور الإنساني بهذه الكرامة، وأمر الإسلامُ أتباعَه بالمحافظة على كرامة الإنسان المسلم وغير المسلم، ووجّه لمراعاة مشاعر المسلمين بل وغير المسلمين ..

لقد جعل الإسلام المعاملة الحسنة واحترام الإنسانية وتقدير المشاعر من أنجع الطرق والوسائل للتعريف بهذا الدين والترغيب فيه، والدعوة إليه، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يصل هذا الخير لكل الناس ..

كما كان النبي ﷺ يجسّد الرقي الإنساني لهذا الدين، فيخاطب المدعوين بالقول الحسن تأليفًا لقلوبهم ..

روى الإمام البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَمَرِضَ، فأتَاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ له: أسْلِمْ، فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَهُ فَقالَ له: أطِعْ أبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يقولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ”..

وعن قَيْسَ بنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ، كَانَا بالقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بهِما جِنَازَةٌ فَقَامَا، فقِيلَ لهمَا: إنَّهَا مِن أَهْلِ الأرْضِ، فَقالَا: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ، فَقَامَ فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا؟! .

(أخرجه الإمام مسلم) ..

كما تظهر سماحة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع غير المسلمين في كتبه إلى الملوك والأمراء ؛ حيث تضمنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف إشارة وأبلغ عبارة ..

وذكر كُتّاب السير أن أهل نجران -وكانوا نصارى- لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخلوا مسجده بعد العصر، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ ، فَقَامُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ ، فَصَلَّوْا إلَى الْمَشْرِقِ “.رواه أبو إسحاق في السيرة ، والطبري في تفسيره ، وسنده ضعيف.

وهذه الصور وغيرها الكثير من روائع تاريخ الإسلام كانت سببا في سرعة انتشاره وبناء حضارة الإسلام التي أنارت الدنيا في عصر الإسلام الزاهر ..

وهذا هو التكريم الحقيقي للإنسان ، فما يحدث من مشاهدة دماء الأبرياء أمام العالم ليؤكد على تساقط إدعاءات الغرب في احترامهم لحقوق الإنسان وكرامته التي طالما تغنى بها ..

تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : “العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها ، سُمح لهم جميعًا -دون أيّ عائق يمنعهم- بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى”.

سماحة الإسلام في معاملة غير المسلمين/٣٤.

إن القتال في الإسلام لم يفرض على المسلمين إلا عندما يبلغ الأذى منتهاه، ويقتل الإنسان وتهان كرامته، ويشرد في الأرض، ويستعبد من أخيه الإنسان، فكان القتال وسيلة من الوسائل لدفع ذلك كله أو بعضه، وإلا فإن الإسلام ينحاز إلى الحياة، ويسعى للسِّلْم الذي يصون دين الإنسان وكرامته وماله وعرضه ..

وففي فتح القسطنطينية بكى رهبانها من عدل المسلمين فيهم، وإكرامهم لهم، وقد قارنوا عدلهم بظلم الكاثوليك لهم ، لما استباحوا بيزنطة وارتكبوا فيها المذابح، واغتصبوا النساء، وخربوا العمران، ونهبوا آثارها، رغم أنهم على دينهم ..

إن دين الإسلام أصل الإنسانية وما أنزَله الله تعالى إلا ليحفظ للإنسان إنسانيتهُ وكرامتهُ ولكي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة.

نعم الإسلام دين رحمة وإنسانية لكن الرحمة لا تعني الذل والهوان ، كما أن الإتحاد والقوّة لا يعنيان الظلم والطغيان، فمن الحكمة وضع الرحمة في موضعها والشدة في موضعها ، وكل رحمة في غير موضعها فهي ذلة وكل قوة في غير موضعها فهي ظلم .

الإنسانية وضحت عنصريتها ، لجنس دون جنس ، ولون دون لون بوجه عام ، ولغير للمسلمين على نحو خاص ..

وتأكد أن الغرب عنده ازدواجية في المعايير ، يكيل بمكالين : مكيال لنفسه ، ومكيال لغيره من العرب والمسلمين ، أما مكياله للعرب والمسلمين في رعاية حقوق الإنسان فواضح من خلال قوله تعالى عنهم إذ قالوا: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)[آل عمران: 75]..

يعتقدون أن العرب حيوانات بشرية ، والحيوان هو عديم القلب والإحساس ، الذي يرتكب المجازر الإنسانية ، فيقتل الأطفال ، والمرضى ، والنساء!!. ؛ ولأنهم عرب ، من جنس آخر ولون آخر ؛ولأنهم يدينون بالإسلام ، لا تسمع للعالم صوتا قويا !! .

أين حقوق الإنسان التي صدعوا بها الرؤوس وادعوا أنهم رعاتها ؟! .

ألا لعنة الله عليهم وخيبة وندامة أذيالهم من أتباعهم في بلاد الشرق من المستغربين ..

وانظروا بعين البصيرة إلى هذا العالم الغربي ، الذي يسمي نفسه راعي حقوق الإنسان ، كيف يدعم العـ.دوان المجرم بالسـ.لاح ، ويمنع فى نفس الوقت الماء والطعام والدواء عن أهلنا الأبرياء في فلسطين،

يتعرضون لإبادة وعدوان، يعطون العهد للأبرياء الآمنين، ثم يحصدونهم بالطائرات على رؤوس النساء والأطفال ليفجروها

يغيرون فيها على المدنيين ، و المرضى والجرحى والمستشفيات ، حتى دور العبادة ، والمساجد والكنائس لم تسلم منهم !!.

هدموا كل شيء ثم يلاحقونهم فيحرقون عليهم خيمهم ..

فوالله ثم والله ثم والله إن القلب ليعتصر ألما من هوان أمة العرب والإسلام ، ومن تفرقها ، وتشرذمها ، يلعن بعضها بعضاً ،ويشكوا بعضها بعضاً ، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ، ولكل وجهة هو موليها ،

بلاد تقام فيها المواسم والمهرجانات والاحتفالات ، وبلاد أخرى يدعم ويتعاطف مع العدو المجرم ، وبعضنا يقف موقف المتفرج ، وبعضنا لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم كأن الأمر لا يعنيه !!..

و إخوانهم المستضعفين الأبرياء في أرض العزة والصمود ينامون ويستيقظون على واقع القتل والتفجير الأليم ، في كل دقيقة على الهواء مباشرة أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع ..

وصدق القائل :

بيروت في اليم ماتت وقدسنا انتحرت وأمتنا تسقي وحلها طينا ..

أي الحكايا سنروي عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا ..

إن حضارة الإسلام هي أوسع الحضارات امتدادًا عبر الزمان والمكان..

لقد حكمت حضارة الإسلام العالم أكثر من عشرة قرون، ورغم هذه المدة الطويلة، فإنها أقل الحضارات البشرية سفكًا للدم، وتعذيبًا للبشر، ونشرًا للجوع والفقر؛ لأن دعاتها فتحوا قلوب الناس للإسلام قبل فتح بُلدانهم بالسِّنان، ورأى الناس منهم الرحمة والعدل والإحسان فسلموا لهم، وفضلوهم على حكم غيرهم، وأكثر بلاد الأرض إبان الفتوح دانت للمسلمين سلمًا..

مَلكنا هذهِ الدنيا قُروناً

وأخضَعَها جدودٌ خالدونا

وسطَّرنا صحائفَ من ضياءٍ

فما نسيَ الزمانُ ولا نسينا..

وما فتىءَ الزمانُ يدور حتى مضى بالمجدِ قومٌ آخرونا

وأصبحَ لا يُرى في الركبِ قومي

وقد عاشوا أئِمَّتَهُ سنينا

وآلمني وآلمَ كلِّ حرٍ

سؤالُ الدهرِ: أين المسلمونا ؟

تُرى هل يرجعُ الماضي ؟

فإني أذوبُ لذلكَ الماضي حنينا

بَنَينا حُقبةً في الأرض مُلكاً

يدعِّمهُ شبابٌ طامحُونا

شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المَعالي

وما عَرفوا سوى الإسلامِ دينا..

يدكُّونَ المعاقلَ والحُصونا

وإنْ جنَّ المساءُ فلا تراهم

من الإشفاقِ إلا ساجِدينا…

ولم تشهدُهُمُ الأقداحُ يوماً

وقد ملأوا نواديهم مُجونا

وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ

ولكنَّ العُلا صِيغَتْ لُحونا…

فما عَرَفَ الخلاعَةَ في بناتٍ

ولا عَرَف التخنُّثَ في بنينا..

كذلكَ أخرجَ الإسلامُ قومي

شباباً مُخلصاً حراً أمينا

وعلَّمهُ الكرامةَ كيف تُبنى

فيأبى أنْ يُقَّيدَ أو يهونا..

(الديوان)..

وختاماً:

من خلال ما سبق نعرف : أنه لا يعرفُ قيمةَ الإنسان إلا من كانت له صلةٌ بكتاب الله -تعالى-، وبهدي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، ولكن عندما ابتعدَ الناسُ عن الهُدى الذي أكرمنا الله -تعالى- به، هانَوا على أنفسهم قبل اعدائهم ..

وفي قصة سيدنا زاهر مَنْقَبةُ وفَضْلُ زاهِرِ بنِ حَرامٍ رضِيَ اللهُ عنه.

وفيه: أنَّ المُؤْمِنَ قِيمَتُه غالِيَةٌ عندَ اللهِ..وفيه دعوة الإسلام لكرامة وعدم إهانة الإنسان مهما كان غنيا أو فقيرا ، حسنا أو دميما ..

فمن يرد أن يكون غاليًا عند الله عز وجل فعليه بالإكثار من طاعة الله ، والمداومة على ذكر الله عز وجل وخشيته وتقواه ، لاعبو منزلتك عند الله..

قال تعالى:﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

ونخلص من ذلك كله بفائدة عظيمة، وهي أن الرجل قد يكون ذا منزلة عالية في الدنيا، ولكنه ليس له قدرٌ عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبة منحطة، وليس له قيمة عند الناس، وهو عند الله خيرٌ من كثير ممن سواه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أصحاب المنازل العالية في جنات النعيم منزلةً ، مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين

اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين،

اللهم يامنزل الكتاب ويامجريَ السحاب وياهازم الأحزاب عليك بالمحتلين الغاصبين ..

اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِيْ نُحُوْرِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ.اللهم شتت شملهم وفرّق جمعهم ، واجعل تدبيرهم في تدميرهم ، وخرّب بنيانهم ، وبدّل أحوالهم وقرّب آجالهم ، وخذهم أخذ عزيز مقتدر .

اللَّهُمَّ أرِنَا فِيهِم عَجَائِبَ قُدْرَتِكَ.

اللهم يتم أطفالهم كما يتموا أطفال المسلمين ورمل نساءهم كما رملوا نساء المسلمين وأحرق بيوتهم واملأها عليهم نارا كما فعلوا بالمسلمين . واحفظ مصر من كل سوء ووحد صفوف ابنائها على العمل بالكتاب والسنة ، واجعلها بلدا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.. العبد الفقير الى عفو ربه محمد جاد قحيف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.