خطبة بعنوان :(جرم الاعتداء على الممتلكات العامة والمال العام) للدكتور محمد جاد قحيف

د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلما ، وكل شيء عنده بمقدار لا إله إلا هو الكبير المتعال .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم البعث والنشور .

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله ،صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

إذا رأيتَ بلاداً غنيَّةً بالمواردِ الطَّبيعيةِ ، ورأيتَ في ربوعِها الفقرَ والجوعَ، ويرتعُ في أرضِها الغِشُّ والفسادُ، فاعلم أنَّ هناكَ خللاً في التَّصرفِ بالمالِ العامِ .

والمال العام والمحافظة عليه في دين الإسلام لون من ألوان الأمانة ، وضياعه خيانة حذر منها المولى سبحانه في كتابه

قال تعالى:

﴿ يا أيها الذين آمنوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ .[الأنفال: 27].

وفي عصرنا الحاضر أُضِيعَت في كثير من الجهات والبلاد الأَمَانَةُ فَأُكِلَتِ الأَموَالُ العَامَّةُ بكل الحيل ، وَأُضِيعَت حُقُوقُ العِبَادِ بالخِدَاعِ وَالمكرِ، وَأُهدِرَتِ المبَالِغُ الطائلة فيما لا فائدة سوى التربح من المال العام، فكان ما كان، والله المستعان ..

والمال العام هو : (كُلُّ مالٍ استَحَقَّهُ المسلمُون ولم يَتعيَّنْ مالكُهُ منهم فهوَ منْ حُقُوقِ بيتِ الْمالِ.. لأنَّ بيتَ الْمالِ عبارةٌ عن الجِهةِ لا عنِ الْمكانِ) ..

(القاضي أبو يعلى الفراء).

والمال العام أعظم حرمة وخطرا من المال الخاص؛وذلك لتعدد الذمم المتعلقة به وصاحبه يكون خصيما لكل من له حق فيه .

ويدخل في المال العام كل ما يدخل في ميزانية الدولة، والمؤسسات المملوكة للدولة ينتفع بها الأفراد بطريق مباشر أو غير مباشر ..

العنصر الأول : تحذير القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من الاعتداء على المال العام ..

لقد حذَّرَ القرآن الكريم من خطورة التعدِّي على المال العام بأيِّ وَجْهٍ من الوُجوه ومن ذلك ما يلي :

١-قال تعالى مُحذِّراً عبادَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾، قال ابنُ جرير:

( ولا يَأْكُلُ بعضُكُمْ مالَ بعضٍ بالباطِلِ، فجَعَلَ تعالى ذِكْرُهُ بذلكَ أَكْلَ مالِ أخيهِ بالباطِلِ كالآكِلِ مالِ نفْسِهِ بالباطلِ، ونظيرُ ذلكَ قولُه تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]، وقولُه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾، بمعنى: لا يَلْمِزُ بعضُكُمْ بعضاً، ولا يَقْتُلُ بعضُكُمْ بَعْضاً، لأنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُهُ جَعَلَ المؤمنينَ إخوَةً، فقاتلُ أخيهِ كَقَاتِلِ نفْسِهِ، ولامِزُهُ كَلامِزِ نَفْسِهِ.

٢-قال جل وعلا مُشنِّعاً على الأحبار والرُّهبان من أهل الكتاب صنيعهم في سورة التوبة: قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.

[التوبة: 34]..

٣-وقد يأتي الحديث عن الاعتداء على المال بما يسمى الغلول ..

قال تعالى : (وَمَا كَانَ لِنَبيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَومَ القِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ)[آل عمران:161].

وفي الآية السابقة دعوة الاقتداء برسول الله ﷺ

وسائر الأنبياء (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ).

فكما أنَّ الأنبياءَ وهم المسؤلونَ عن بيتِ مالِ المسلمينَ لا يَغلُّونَ ولا تكونُ الخيانةُ أبداً فيمن اختارَهم اللهُ -تعالى- لنبوتِه؛ فلنا فيهم قدوةٌ حسنةٌ كما أمرَ اللهُ تعالى نبيَّهَ، فقالَ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام:90]

كما اشتملت الآية على تخويف النَّاسِ من عذابِ الآخرةِ والفَضيحةِ يومَ القيامةِ.

(وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

وعلى منهاج القرآن الكريم أكدت السنة النبوية الشريفة على الوعيد الشديد لمن يستحل الأموال والمكالمات العامة بغير حق .

قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللهِ بِغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ”.

(رَوَاهُ الإمام البُخَارِيُّ).

قال الحافظ ابن حجر: “يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ” أي يَتَصَرَّفُونَ في مَالِ المُسلِمِينَ بِالبَاطِلِ”.

(فتح الباري).

وأخرج الإمام البخاري أيضاً عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : “بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا” فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ”.

وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ خَيبَرَ، أَقبَلَ نَفَرٌ مِن أَصحَابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، وَفُلانٌ شَهِيدٌ، حَتى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: “كَلاَّ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنِّي رَأَيتُهُ في النَّارِ في بُردَةٍ غَلَّهَا، أَو عَبَاءَةٍ غَلَّهَا..” .

(رَوَاهُ الإمام مُسلِمُ).

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: “مَنِ استَعمَلنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوقَهُ، كَانَ غُلُولاً يَأتي بِهِ يَومَ القِيَامَةِ”.

(رَوَاهُ الإمام مُسلِمٌ).

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: “مَنِ استَعمَلنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقنَاهُ رزقًا فَمَا أَخَذَ بَعدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ”(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وسنده صحيح).

العنصر الثاني : صور واقعية من إهدار المال العام ..

ثمت صور ومشاهدَ محزنة ومؤلمة في واقعنا تعد من مظاهر إتلاف المال العام وأملاك الدولة، فمن ذلك : الاعتداء والعبث بالممتلكات العامة ،

كتكسير الأجهزة والنوافذ والمرافق ، والعَبث الذي يحدثه الطلاب في أثاث المدارس بصورة متعمدة، وتمزيق الكتب وإهانتها ،

تشويه منظر مدارسهم بالكتابة عليها، أو تكسير المقاعد والنوافذ الزجاجية ، أو إتلاف الأشجار ..

وقد يقوم بعض أفراد المجتمع بتخريب المباني والحدائق، و ما نراه من عبث بالقطارات وسيارات الدولة ومكاتبها وأجهزتها، وما نراه من استخفاف بمحتويات المستودعات الحكومية ونحوها.

ومن صور الاعتداء على الممتلكات العامة والمال العام أيضاً : الغش ، وأكثر ما يكون هذا في تنفيذ العقود ، فبعض الشركات التي تقوم بتنفيذ عقود المقاولات والأشغال العامة ، كالطرقات والمباني والسدود وغيرها لا تفي بالشروط والمواصفات التي يتم الاتفاق عليها، ثم تأتي مناقصة أخرى لنفس المشروع لإصلاح ما فسد منه، وتستخدم الرشوة أو الهدية، أو أي مسمى آخر، وسيلة لتسهيل مثل هذه الصفقات والمعاملات، فتضيع وتهدر أموال وحقوق، وربما تعرض المجتمع للخطر؛ فالسد الذي لم يبن بالمواصفات الصحيحة ربما أغرق الحرث والنسل، والمدرسة ربما سقط سقفها على أبنائنا، وفلذات أكبادنا، والطريق ربما أزهقت بسببه أرواح، وأتلفت أموال، وغير ذلك.

من أهم صور الاعتداء على المال العام أيضاً قبول الموظف أو المسئول للهدايا والرشاوي ، وهذا ما حذر منه النبي ﷺ ؛ لأنه يورد المهالك في الدنيا والآخرة.

عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً من الأزد، يُقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهْدي لي، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظرُ أَيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحدٌ منكم شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر “-أي تصيح-، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: “اللهم هل بلغت” ثلاثًا (متفق عليه).

فقبول الموظف أو المسئول كبر أو صغر الهدايا أو الرشاوى في عمله ، من أعظم أنواع الحرام ، فالموظف يفعل ذلك خفية، ويظن أنه لم يراه أحد، فيا هذا إن لم يرك البشر فإن رب البشر يراك، وإن لم تتب من عملك المشين ذاك فستفضح على رؤوس الخلائق من لدن آدم -عليه السلام- إلى آخر ما خلق الديَّان، فمن أخذ ظرفاً فيه مبلغ من المال أتى به يحمله على عنقه، ومن أخذ سيارة يأتي بها على عنقه، ومن أخذ أرضاً يأتي بها على عنقه، انظر إلى من يحال على المعاش من أصحاب الرشاوي بيوم واحد لايتذكره أحد بهدية كما كانوا يفعلون أثناء توليه للمنصب ، والله وربما لا يلقون عليه السلام إن قابلوه ؛ لأن العلاقة ما كانت لله ، وما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل ..

ومن غش المسلمين أو أكل المال العام ظلما فليتذكر أنه صائر إلى الله، وأن للمظلومين دعوات لا يحجبها عن الله حاجب، ولئن كان الظلم في المال الخاص ممقوتا، فإنه في المال العام أنكى أثرا، وأشد خطرا، وأبعد ضررا.

كل هذه الصور من أموالِ المُسلمينَ العامة يُحاسبُ عليها العبدُ في الدُّنيا والآخرةِ ،حتى ولو كانَ شيئاً يسيراً .

أَمَا واللهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤمٌ *** وما زَالَ المـُسيءُ هو الظَّلُومُ

سَيُعلم في الجَزَاءِ إذا التَقَيْنَا *** غداً عِنْدَ الإِلهِ مَن المـــَلُومُ

إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمـــْضِي *** وعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ ..

فالاعتداء على المال العام يشمل الأفراد والمواطنون في المجتمع ، وكذلك العاملون والموظفون ،

ومن يدير هذه المؤسسات يحرم عليهم الاعتداء على الممتلكات العامة ، والاختلاس من هذه الممتلكات ، والاستفادة منها دون وجه حق ..

العنصر الثالث : نماذج من حياة العمرين رضي الله عنهما.

حياة سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عمر بن العزيز فيها قصص وحكايات ، كانت ولا زالت نبراسا يتعلم منها كل مسئول في كل زمان، وهي نماذج واقعية جاءت كدرر لامعة في صفحات التاريخ المشرق للإسلام ..

كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه معظِّما للمال العام؛ لأن المال مال الله لا يملكه أحد، جيء بمال كثير من العراق فقيل لعمر: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين. هذا عدله في السراء، فما حاله مع الرعية في الضراء وأوقات الأزمات؟.

إنه إذا ما وقع بالناس أزمة وبلاء، أو دهمتهم لأواء، يكون المسؤول العادل أول المتأثرين، وآخر المنتفعين، وهكذا كان عمر.

لما أصاب الناسَ هولُ المجاعة والقَحط في عهد عمر كان لا ينام الليل إلا قليلا، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: لو استمرّت المجاعة شهورا أخرى لمات عمر من الهمّ والأسى.

وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه، وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافلة: ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس، وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب! وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا.

وعلى منهجه كان عماله الذين اختارهم لقيادة البلاد والإمارات ، وهذا نموذج رائع في عصره ، لمَّا فتحَ المسلمونَ القَادسيةَ أَخذوا الغَنائمَ وأرسلوها إلى عُمرَ بنِ الخَطابَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وفيها تَاجُ كِسرى وملابسُه المُرصَّعةُ بالجواهرِ، وبِساطُه المَنسوجُ بالذَّهبِ واللآلئ، فلمَّا رَأى عُمرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِقدارَ ما وَصلَ إليهِ من أَموالٍ إلى المَدينةِ، حَمِدَ اللهَ وقَالَ: “إنَّ قَومًا أدُّوا هذا لأُمناءِ”، فأَجابَه عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “إنَّكَ قد عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيتُكَ، ولو رَتعْتَ لرَتَعوا”.

(المكتبة الشاملة).

وكذلك حياة سيدنا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ كان على منهاج جده بن الخطاب ، عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة نظر في بيت مال المسلمين، ثم نظر إلى ما في يده، ثم نظر إلى ما في يد أمراء بني أميه، فبدأ بنفسه، فدعا زوجه فاطمة فقال: يا فاطمة، هذه حليّك، تعلمين من أين أتى بها أبوك؟ فإن رأيتِ أن أردَّها إلى بيت مال المسلمين فعلت، وإلا خذيها وفارقيني، فوالله لا أجتمع أنا وهي في دارٍ أبدا، فقالت: لا والله يا أمير المؤمنين، بل أؤثر صحبَتَك، فردّت حليَّها على بيت مال المسلمين. فلما مات عمر قال لها أخوها: يا فاطمة، إن شئتِ رددتها إليك، قالت: لا والله! لا آخذها وقد ردّها عمر.

وزوجته السيدة فاطمة قيل في مناقبها :

بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف والخليفة زوجها ..

أبوها الخليفة عبد الملك بن مروان وجدّها الخليفة مروان بن الحكم . وإخوتها الخلفاء الأربعة في الدولة الأموية (البداية والنهاية)..

ثم انقلب عمر بعد أن بدأ بنفسه إلى بني أميه، فقطع كلّ صلات كانوا يأخذونها، وأعطياتٍ كانوا يستلمونها؛ لقد كان ينظر إلى بيت المال ويعلم أن اسمه بيت مال المسلمين، ليس بيتَ مال عمر، ولا بيت مال أحد الأمراء، فكلّ مال أخِذ من بيت مال المسلمين فدفِع إلى أمير قام عليه عمر فردّه من حيث أخذ، واستشاط أمراء بني أميه غضبًا، فأرسلوا إليه ابنَه عبد الملك، فقالوا: يا عبد الملك، إما أن تستأذنَ لنا على أبيك، وإما أن تبلّغه عنا أنّ من كان قبله من الأمراء يعطوننا أعطياتٍ، ويصلوننا بصلاتٍ، وأنه قد قطعها عنا، مُرْه فليردّها علينا. وأبلغَ عبد الملك أباه المقالةَ فقال: ارجع إليهم فقل لهم: إن أبي يقول:

إني أخاف إن عصيت ربي عذابَ يوم عظيم، وهذا لجامٌ ألجم عمر به نفسه.

وذات يوم “اِشْتَهَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز التُّفَّاح فَلَمْ يَجِدْ فِي بَيْته شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ، فَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَتَلَقَّاهُ غِلْمَان الدَّيْر بِأَطْبَاقِ تُفَّاح، فَتَنَاوَلَ وَاحِدَة فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاق، فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا حَاجَة لِي فِيهِ. فَقُلْت : أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّة، وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة”.(الطبقات الكبرى).

وفي يوم آخر جاءَه أحدُ الولاةِ وأَخذَ يُحدثُه عن أُمورِ المسلمينَ، وكانوا يستضيئونَ بشمعةٍ بينَهما في اللَّيلِ، فلما انتهى الوالي من الحديثِ عن أمورِ المسلمينَ، بدأَ يَسألُ عمرَ عن أحوالِه، قالَ له عمرُ: انتظر، فأطفأَ الشمعةَ، وقالَ له: الآن اسألْ ما بَدا لكَ، فتعجبَ الوالي وقَالَ: يا أميرَ المؤمنينَ لِم أَطفأتْ الشَّمعةَ؟، فقالَ عُمرُ: كُنتَ تَسألني عن أَحوالِ المسلمينَ وكُنتُ أَستضيءُ بنورِهم، وأما الآنَ فتَسألني عن حَالي؛ فكيفَ أُخبركَ على ضَوءٍ من مَالِ المسلمينَ ..

يوم أن تركنا سيرتهم وهديهم تخلفنا عن ركب القيادة والقوة والتقدم ، وتحكم فينا أعداؤنا ،

وحال الأمة في أهم قضاياها الكبرى قضية فلسطين ، يؤكد أننا بحاجة إلى العودة لديننا ؛ لتعود لنا عزتنا ووحدتنا وقوتنا وكرامتنا ، كما كانت في عصر الإسلام الزاهر ..

كيف انطوت أيـامهم وهم الأُلـي نشـروا الهدى وعلـوا مكان الفرقد. هجروا الديار فأين أزمع ركبهم مـن يهتـدي للقـوم أو من يقتدي .يَا قلبُ حسبُك لن تُلِمَّ بطيفهـمْ *** إلا على مِصباح وجهِ محمـدِ. فازوا من الدنيا بمجدٍ خالـدٍ *** ولهمْ خلودُ الفوز يومَ الموعـدِ.

وختاماً:

إن أكل المال العام بالباطل مُنْقَلَبُهُ أليم، ومرتعه وخيم ، وإن الاعتِدَاء عَلَى المالِ العَامِّ ذَنبٌ عَظِيمٌ وَجُرمٌ كَبِيرٌ، لا يُبَرِّرُهُ كَثرَةُ المتَخَوِّضِينَ فِيهِ بِغَيرِ حَقٍّ ، فَاللهُ يَزَعُ بِالسُّلطَانِ مَا لا يَزَعُ بِالقُرآنِ، فَوَاجِبٌ إِنكَارُ ذَلِكَ بِإِبلَاغِ جِهَاتِ الرَّقَابَةِ وَالمحَاسَبَةِ لِقَطعِ دَابِرِ الشَّرِّ الذي يُهَدِّدُ أَمنَ المجتَمَعِ وَاقتِصَادَهُ، حَتَّى لا تَغرَقَ السَّفِينَةُ بِعَبَثِ بَعضِ ذَوِي الِحسَابَاتِ الشَّخصِيَّةِ وَالأَطمَاعِ الدَّنِيئَةِ .

علينا أن نسأل أنفسنا بكل صدقٍ هل ربَّينا أولادنا على المحافظة على المرافق العامة ..فيا أيها المسلم يا من على قدر المسؤولية ! ورب أولادك على الحلال الطيب، فأنت مؤتمن، كن مثل أعلام الإسلام ، أو اقتدي بهم على قدر استطاعتك ، تفز في الدنيا بثناء الناس، وتوفيق الله لك؛ وفي الآخرة برضوان الله والجنة ، ورضوان الله أكبر.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطيب كسبنا، وأن يصلح نياتنا، وأن يرزقنا وإياكم تقواه وخشيته ظاهراً وباطناً، يا سميع يا مجيب اُنْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ في فلسطين وعَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، وَاِرْبِطْ عَلَى قُلُوبِـهِمْ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَانصُرْهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِيـنَ.

الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، واحْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ ..

اللهم اجعل مصر وبلادَ المُسلمينَ محفوظةً بحفظِك، يا حفيظ يا عليم.

واللَّهُمَّ اكفِنَا بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وَأغنِنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ يَا أَكرَمَ الأَكرمين ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.