خطبة بعنوان «نعمة الماء وكيفية شكر الله عليها » للدكتور محمد جاد قحيف

الحمد لله لله الذي أنشأ وبرى ، وأبدع كل شيء وذرى ، وخلق الماء والثرى ، لا يغيب عنه دبيب النمل في الليل إذا سرى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، الرحمن على العرش استوى ، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث في أم القرى .. اللهم صل وسلم عليه وعلى صاحبه أبي بكر في الغار بلا مرا، وعلى عمر الملهم في رأيه فهو بنور الله يرى ، وعلى عثمان زوج ابنتيه ما كان حديثا يفترى ، وعلى علي بحر العلوم وأسد الثرى ، وعلى آله وأصحابه الذين انتشر فضلهم وأثرهم في الورى.. وبعد: فنعم الله على البشر متعددة لا تعد ولا تُحصى ، نعم ظاهرة ونعم باطنة، نعم دنيوية ونعم أخروية… و من أجل النعم الدنيوية الظاهرة على الإطلاق: نعمة الماء فهو أساس كل حياة وأصل كل نماء ، وسبب كل حضارة وعمران ..
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾.[الأنبياء: 30].
وقال عز وجل:﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾[النور:45].فحيثما وُجِد الماء وُجدت الحياة، وحيثما فُقد الماء كان الجدب والقحط والمجاعات.
وقد جاء ذكر الماء في القرآن الكريم ثلاثة وستين مرة..
كما جاءَ وَصْفُ المَاءِ في القُرآنِ الكريمِ بِالبَركَةِ والطَّهارة والعذُوبَة، يقولُ الله عزّ وجل: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الْفُرْقَانِ: 48] ويقولُ اللهُ جل جلاله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) ق/٩. ويقولُ -سبحانه-: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) [الْمُرْسَلَاتِ: 27]،
وفي الحديث الصحيح الذي أورده الحافظ المنذري بصيغة التصحيح عن النبي ﷺ قال: « إنَّ أوَّلَ ما يُسأَلُ عنه يومَ القيامةِ – يعني العَبدَ – من النَّعيمِ أن يُقالَ له: ألم نُصِحَّ لك جِسْمَك ونَروِيَك من الماءِ الباردِ».
ولجلالة هذه النعمة نعمة الماء وشكرها كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا فرغَ من طعامِه قالَ: « الحمدُ للَّهِ الَّذي أطعَمَنا وسقانا وجعلنا مُسلمينَ».
أخرجه الإمام الترمذي في الشمائل وسنده صحيح..
فشكر الله على نعمة الماء يكون باعتراف القلب بأن هذه النعمة من الله وحده، ويكون بنطق اللسان حمدًا لله على هذه النعمة، وفي القرآن الكريم يقول الجليل -سبحانه وتعالى- محذرًا: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68-70]..
إن المياه منذ عقدين من الزمان كانت تتدفق بمجرد وضع مواسير الطلمبات بعد أمتار قليلة ، ولكن هذه المياه قلت وغارت وصدق الله العظيم : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30]. الله سبحانه وحده جل جلاله،وتسامت صفاته.
قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض ، وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون:18].

العنصر الأول : الماء من أجل نعم الله ومن آياته الكونية..
إن من دلائل وحدانية الله العظيمه، وآيات قدرته الكثيره التي لا تُعدُّ ولا تُحصى،وآيات الله كثيرة في الأنفس والآفاق ، وفي السماوات وفي الأرض كثيرة يمر عليها الناس وهم عنها معرضون، نعم وآلاء تتوجه إليها البصائر والأبصار في مكنونات هذا الكون، والظواهر والأحوال في تأملات واسعة الآماد،
تفكر وتأمل يحيي القلوب، ونظر وتبصر يرشد العقول في بدائع صنعِ (اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل:88]؛ لينظر في آثار الربوبية وليكون التوحيد كله لله. وشواهدُ عظمته الوفيره التي لا تُحد ولا تُستقصَى تلك الآيات والبراهين التي تترى أمام الناس ، لكن كثيراً من القلوب عن آيات الله غافلة، والنفوس عن شواهد قدرته لاهية، والعقول عن دلائل عظمته شاردة، إلا من رحم الله! فأين المتفكرون؟! وأين المتأملون؟! وأين أهل البصائر وأولو الألباب؟! عن التفكير في عظمة رب الأرباب، وقدرة مُسَبِّبِ الأسباب؛ ليقودهم ذلك إلى توحيد ربهم -جلَّ وعَلا-، وإخلاص الدين له، وإفراده بالعبادة دون سواه؟!.
فالماء من حولنا تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار ، وتختزنه تجاويف الأرض والبحار..
حتى البحار والمحيطات مخزن عظيم من المياه المالحة المحفوظة ؛ لذا يجب إعمال العقل في تحلية المياه المالحة في البحار والمحيطات ، كما أنهما مع الأنهار مصدر مهم من مصادر الرزق الحلال ، الأسماك بكل أنواعها ، اللؤلؤ والمرجان ،وبعض الأحجار الكريمة ..
قال تعالى: ” وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّۢ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۖ وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِۦ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”فاطر/١٢ .
ومن هنا يجب علينا عند التفكر في تلك الآيات البينات، وتدبر عظمة المولى جل في علاه، والنظر في ملكوته العظيم، ورحمته التي وسعت كل شيء ليعلم العباد ضعفهم وحاجتهم إلى فضل ربهم..
قال لبيد بن ربيعة:
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ
أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ
وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ .. (الديوان)..
إن الماء من أجل النعم وأصل المعاش ، وسبيل الرزق، يقول سيدنا عمر -رضي الله عنه-: “أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة”.
لذلك من أجلهما ؛ تقام الحروب وتنشيء الصراعات بين القبائل والبلاد والدول ..

العنصر الثاني  : كيفية شكر الله تعالى على نعمة الماء..
إن شكر الله -تبارك وتعالى- على نعمة الماء لا يقتصر على الشكر باللسان؛ بل يتعداه إلى الشكر بحسن التصرف فيه ، وحسن استغلاله، والاقتصاد والترشيد في استعماله؛ فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء وكفر لهذه النعمة، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحًا في القُرآنِ المجيدِ، والله تعالى يقول :
﴿ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ الأعراف/٣١.
لقد نهَتِ الشَّريعةُ الإسلاميةُ المُطهَّرةُ عن الإسرافِ، والإسرافُ يكونُ في كُلِّ ما زاد عن حاجةِ الإنسانِ، ولو كان ذلك في استِعمالِ الماءِ في الغُسلِ أو الوُضوءِ. (الدرر السنية)..
وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيًّا عنهُ وممنوعًا مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وأشدُّ خَطَرًا، وقد وردَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنهُ كانَ إذا اغتسلَ اغتسلَ بالقلِيلِ، وإذا تَوضَّأَ تَوضأ بالنَّزْرِ اليَسيرِ، فعَنْ أنسٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: “كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يغتسلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ، ويتوضَّأُ بالمُدِّ” .
أخرجه الإمام البخاري.
والمُدُّ مِلءُ اليدَينِ المُتوسِّطَتَين، وإذا كانَ الاقتصادُ في استعمالِ الماءِ في العبادةِ مَطْلُوبًا وعَمَلًا مَرغُوبًا فَالاقتصادُ في غيرِ العبادةِ أَولَى وأَحرى، وإنْ كانَ الَّذي يُغرَفُ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ بَحْرًا.
وعن عقيل بن ابي طالب قال:”يُجزئُ منَ الوضوءِ مُدٌّ ومنَ الغُسلِ صاعٌ فقالَ رجلٌ لا يُجزِئُنا فقالَ قد كانَ يُجزِئُ مَن هوَ خيرٌ منكَ وأكثرُ شَعرًا يَعني النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ” ..
أخرجه ابن ماجه وسنده صحيح..
يا إخوة الإسلام إن الإنسان المعاصر قد وصل استهلاكه للماء إلى أرقام من الإسراف مخيفة، وبخاصة ما يصرف في الاستحمام والمراحيض والسباحة، وسقي الحدائق وأمثالها؛ فأما المستعمل في الشرب والطهي فلا يتجاوز نسبة (2%).
المسرف همته الوصول إلى متعته ولذته، ولا يبالي بمصيره ولا بمصير أمته؛ كما حكى القرآن عنهم:
يقول الله جل وعلا : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)[الشعراء:151-152].

ويقول تعالى:(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)[الإسراء:16].
والماء -كما قال الشعبي: “أعز مفقود وأهون موجود”( المجالسة للدينوري)، فإن كثيرا من الناس لا يدركون قيمته إلا إذا فقدوه، وطالما هو متوفر تحت أيديهم فهم له يضيعون وفيه يسرفون وعليه يعتدون ويبذرون!.
يحكى أن رجلا تاه في الصحراء حتى كاد يموت من العطش ، فحفر حفرة في الصحراء لعله يجد الماء ، فوجد كنزا !! فأخذ يبكي ويقول ماذا أصنع بالكنز !!ماذا أصنع بالمال!!..
وينطبق على المسرف في الماء ما ذكره القرآن عن المسرفين والمبذرين؛ من أن الله لا يحبهم: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، ومن أنهم إخوان الشياطين: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)[الإسراء: 26-27]…
*
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عجبا في إهدار الماء، وفتحه من محابسه إلى أعلى الدرجات؛ فنجد الماء مهدرا نافذا إلى مجاري الصرف، وكأنهم لا يعون ولا يعلمون شيئا من سنة رسولهم محمد حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من القدر الذي عليه هدي رسول الله بعشرات المرات، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر..
بناء على ذلك فالشكر على نعمة الماء يكون بحسن التصرّف في هذه النعمة ،
كما كان يفعل رسولنا وقدوتنا النبي محمد ﷺ في استخدامه للمياه ..
وكما كان يحذر من الإسراف فيه ، وعدم الاقتصاد..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ. أخرجه الإمام البيهقي، وسنده صحيح..
لقد” أجمع الفقهاء على النهي عن الإسراف في الماء ولو في شاطئ البحر ..”
شرح سنن أبي داود”.
لقد نَهَى الإسلامُ عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ يُؤَدِّي إلى خِلَافِ ذلك، فَعَنْ جابرٍ -رضيَ اللهُ عنه- عنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “أنهُ نَهَى أنْ يُبالَ في الماءِ الرَّاكِد”..
وفي الدرر السنية:”حثَّ الإسلامُ على الحِفاظِ على مَصادِرِ المياهِ نَقيَّةً طاهرةً من كلِّ مُلوِّثٍ ومن كلِّ ما يُفسِدُه، وحتَّى لا يَدخُلَ عليه ما يُغيِّرُ عليه أوصافَه”.
وشدّدَ الإسلامُ النَّكيرَ على كُلِّ مَنْ تَصرُّفَ تَصرُّفًا أو سلَكَ سُلُوكًا حَرَمَ بسببِهِ الماءَ مِنْ صفَائِه، وطهارتِهِ ونقائِهِ، فعَنْ معاذٍ -رضيَ اللهُ عنه- قال: قالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “اتقوا الملاعِنَ الثلاثَ: البُرازُ في المَواردِ وقارعةِ الطَّريقِ والظِلِّ”، والمرادُ بالمواردِ مواردُ المياه..أيِ: التَّبرُّزُ أو إفراغُ فَضَلاتِ الإنسانِ في مَوارِدِ ومَصادِرِ المياهِ مثلِ الآبارِ والأنهارِ فتتَلوَّثُ المياهُ (الدرر السنية).
فقابِلوا عباد الله: نعمَ الله بشكرِها، وقيّدوها بتعظيمه والثناءِ عليه والاعتراف له بالفضلِ، وأن تكون تلك النعمة سببًا في علاج القلوبِ من أمراضها، واستقامة النفوس على أمر ربها، وقابلوها بالقيام بما أوجَب؛ فما شَكر العباد نِعم الله إلا إذا قاموا بحقه ومحبته وخشيته، فلِلّه الفضلُ والمنّة أوّلاً وآخرًا، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
يقول الحافظ ابن كثير مفسرًا: “أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، (ولئن كفرتم) أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، (إن عذابي لشديد)؛ وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها”.
فيا من تسرفون في الماء: احذروا أن تحرموا منه فلا تجدوا منه قطرة؛ فإن النعم تدوم مع الشكر، وتنزع بسبب الكفران ..

قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها
فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم
وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ
فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم
فَإِن تَعطِ نَفسَكَ آمالَها
فَعِندَ مُناها يَحِلُّ النَدَم
فَأَينَ القُرونَ وَمَن حَولَهُم
تَفانوا جَميعاً وَرَبّي الحَكَم..
(الديوان)..

العنصر الثالث  :الماء جند من جنود الله
إن هذا الماء جند من جنود الله جعله الله عذابا لأمم مكذبين؛ فغدا طوفانا عم الأرض وعلا قمم الجبال، ولم ينج منه إلا نوح -عليه السلام- وأصحاب السفينة.
وكان لسبأ وأهلها الذين كانوا في نعمة عظيمة، أرزاقهم واسعة وزروعهم وافرة، وثمارهم طيبة؛ فأعرضوا عن الهدى ولم يوحدوا الله بالعبادة ويشكروا نعمه -كان عقابا عاجلا حين أرسل الله عليهم سيل العرم؛ فانهار السد واجتاح الماء بلادهم واجتث زروعهم وثمارهم وأتلف أموالهم ومحاصيلهم، فتحولت أفراحهم أتراحا ، وسرورهم أحزانا ، ونعمهم بؤسا ، وذلوا بعد عزة وضعفوا بعد قوة، وتفرقوا بعد اجتماع وإلفة، وخافوا بعد أمن ومنعة ..
قال جل جلاله:(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ:15-17]..
وإن ما نشاهده ونسمع عنه من فيضانات تغرق الناس وتشردهم عن بيوتهم ومدنهم ، وقراهم ، ويصبح الناس في العراء، ويزدادون فقرا إلى فقرهم! في حين تشكو بلاد أخرى جفافا لسنين عدة؛ حتى نفقت بهائمهم وهجروا قراهم طالبين السلامة وقطرة الماء
إن هذا لدليل واضح على أن الماء مؤتمر بأمر الله -تعالى- يصرفه كيف يشاء،
إِنَّهُ لولا الماءُ ما كان إنسانٌ وما عاش حيوانٌ وما نبت زَرْعٌ أو شَجَر، فمِنَ الماءِ يَشربُ الإنسانُ ومنهُ يَخرجُ المَرعَى، وبهِ تُكْسى الأرضُ بِساطًا أَخضرَ؛ فتبدو للناظرين أَجْملَ وأَنضرَ، يقولُ اللهُ -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 10-11]، ويقولُ عزَّ من قائل: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الْأَنْعَامِ: 99]..
♦♦♦

العنصر الرابع : الماء من نعيم الدنيا والآخرة..
لقد جعل الله نعمة الماء من نعيم الدنيا والآخرة؛ فقد قال الله -تعالى- عن الماء الطهور: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان: 48-49]، وجعله -عز وجل- جائزة دنيوية لمن أقام شرعه:
قال الله: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)[الجن:16]، كما إنه وسيلة عقاب على المذنبين المكذبين: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر:11-12].
الماء في الآخرة
وأما الماء في الآخرة ، فقد عدَّد القرآن الكريم مشروبات أهل الجنة ، وذكر أن أولها الماء: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)[محمد: 15].
وفي الجنة أيضا (ظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وفاكهة كثيرة)[الواقعة:30-31]..
وأخبر القرآن الكريم أن أسمى أمنية لأهل النار شربة من ماء الجنة: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ…)[الأعراف: 50].
كما أن الماء في صور أخرى وسيلة لعذاب أهل النار عياذاً بالله من النار: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)[الكهف:29]، وكما قال الله: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)[محمد:15].
ولما شرب عبد الله بن عمر ماء باردا بكى فاشتد بكاؤه فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت آية في كتاب الله -عز وجل-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)[سبأ: 54]، قال: فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا إلا الماء البارد(رواه أحمد في الزهد)..
لذلك كله ما أَكْثَرَ الدَّعَواتِ التي كانَ يَدعُو بِها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يَفرُغُ مِنْ طَعامِهِ إِذَا طَعِمَ وشَرابِهِ إِذَا شَرِبَ، فكانَ إذا فَرَغَ مِنْ طعامهِ وشرابهِ قال: “الحَمدُ للهِ الذي أَطعمنا وسَقَانا وجعلَنا مُسلِمِين”..
وكانَ إِذَا شَرِبَ الماءَ قالَ: “الحمدُ للهِ الذي سقَانا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِه، ولم يَجعلْهُ مِلْحًا أُجاجًا بِذُنُوبِنا “.
الدر المنصور السيوطي فيه مقال ..
وختاماً: إنَّ شُكْرَ اللهِ -تباركَ وتعالَى- على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، أتمنى أن تعمل الدولة على تشجيع تحلية مياه البحر واستخدامه في الأغراض الأخرى كالاغتسال ، وحمامات السباحة ورش الطرق والبيوت ، ويبقى الماء العذب للطعام والشراب ، وأن المياه العذبة المعالجة يجب أن تستخدم للشراب والغذاء والدواء فقط ، ولا يستخدم للاستحمام وإزالة القاذورات ..
وأخيرا يا إخوة الإسلام اسألوا الله تعالى المزيدَ من عطائه وكرمِه وجوده، فهو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وأرحم الراحمين، واستعينوا بما أنعَم به عليكم من نعمة الماء وغيرها في مرضاته.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في نعمة الماء ، وأن يفيض علينا بالمزيد من فضله..
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِينَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِينَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَار..
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ..
واللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوعِنَا وانصر عبادك المستضعفين على عدوك وعدوهم يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.