خطبة الجمعة ٨ من شهر نوفمبر لعام ٢٠٢٤م الموافق ٦ من جمادى الأولى لعام ١٤٤٦هـ
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
إنَّ عَرْضَ القرآن الكريم للماء أبلغ كلام في أهميته وضرورته، فإنَّه جَلَّ وعلا ذكر لنا أنَّ كلَّ المخلوقات من الماء.
ولأهميَّةِ المياهِ وعظيمِ قَدْرِها وجليلِ أمرِها حفلَ القرآنُ الكريمُ بذكرِها والتنويهِ بشأنِها في مَعرِضِ الحديثِ عَنْ نِعَمِ اللهِ -تبارك وتعالى- على الإنسان، وتحدَّثَ عنها نازلةً منَ السماء، أو خارجةً مِنَ الأرضِ أو مُختَزنةً فيها لِوَقْتِ الحاجةِ، وقد ورد ذكر الماء في كتاب الله ثلاثًا وستين مرَّةً، وذكر فيه عدَّة أوصاف للماء النقي الذي تتحقَّق فيه الحياة التي قرَّرها ربُّ العزة له،
١- فذكر صفات: الطهور، المبارك، الغدق، الفرات، الثجاج. يقولُ اللهُ -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزُّمَرِ: ٢١]،
ويقول جل شأنه: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ) [الْمُؤْمِنَونَ: ١٨].
٢* ويخبرنا الله جلا شأنه بأن الماء أكثر صلة بالحي وأعظم شيء ينتمي إليه وبأنه خلق كل الكائنات منه ويؤيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: ٤٥]
ويقولُ الرسولُ -ﷺ-: “كلُّ شيءٍ خُلِقَ مِنْ ماء”.
يقول الإمام الشعراوي رحمه الله: الدابة: كل ما يدب على الأرض، سواء أكان إنسانًا أو أنعامًا أو وحشًا، فكل ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء، حتى النملة لها على الأرض دبيب.
وكل شيء يُضخَّم قابل لأن يُصغَّر، وقد يضخم تضخيمًا لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهَهُ، وقد يصغر تصغيرًا حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مكبر، ومن عجائب الخلق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومقوماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم،
ولما كان الماء هو الأصل في خلقة كل شيء حي، وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأن يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطًا مائيًا يعيش فيه.
٣* لولا الماءُ ما كان إنسانٌ وما عاش حيوانٌ وما نبت زَرْعٌ أو شَجَر، فمِنَ الماءِ يَشربُ الإنسانُ ومنهُ يَخرجُ المَرعَى، وبهِ تُكْسى الأرضُ بِساطًا أَخضرَ؛ فتبدو للناظرين أَجْملَ وأَنضرَ، يقولُ اللهُ -تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ١٠-١١]،
٤* شبه الله تعالى الدنيا بالماء فيقول تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَاةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰامُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَاهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَاهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَاتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾ يونس: ٢٤. وفي سورة الكهف يقول جلا وعلا: ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَياةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَاحُۗ وَكَانَ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا﴾ الكهف: ٤٥.
وفي سورة الحديد يقول عز وجل: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَياةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَالِ وَٱلۡأَوۡلَادِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰامٗاۖ وَفِي ٱلۡآخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ الله وَرِضۡوَانٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَاةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَاعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ الحديد: ٢٠.
فلماذا شبه الله تعالى الدنيا بالماء؟
إن المتأمل في الآيات يجد شبهًا كبيرًا بين الدنيا والماء
– الماء: لا يستقر في موضع وكذلك الحياة الدنيا لا يستقر حالها لأهلها.
– الماء: يتغير والدنيا كذلك.
– الماء: لا يبقى والدنيا كذلك.
– الماء: لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل به، والدنيا كذلك لا يسلم أحد من فتنتها بالمال والأولاد.
– الماء: إذا كان بقدرٍ كان نافعًا وإذا جاوز الحد كان ضارًا ومهلكًا، وكذلك الدنيا.
٥* تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن نعمته وقدرته في الماء وخَلْقِه وعمله، وكيف أنه حيوي لكل كائن حيٍّ، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: ٩٩].
٦* وبالماء كانت حياة الأرض وحياة الكائنات عليها، وبغير الماء تموت الأرض وتموت الكائنات عليها، وتلك آية لكلِّ عاقل. قال سبحانه وتعالى: {… وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: ١٦٤]،
٧* وبالماء الواحد تخرج الثمرات المتنوِّعة المتكاثرة، تلك الحقيقة التي كرَّرها القرآن كثيرًا، وبعدَّة أساليب فقال سبحانه وتعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: ٤]، وقال عز وجل:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: ٥٣-٥٤].
٨* لهذا كان الاستنكار الإلهي شديدًا على مَنْ ينسى هذه الحقائق الواضحة والجلية؛ فيَنْسَى اللهَ أو يُشرك معه غيره، قال سبحانه وتعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: ٦٠].
٩* إنَّ من الناس مَنْ تَعوَّدُوا وجود النعمة وأَلِفُوها؛ فهم تحت تأثير هذا الإِلْفِ وهذهِ العادةِ قد ينسون قدرها؛ لأنها دائمًا حاضرةٌ بين أيديهم، فينسون شكرها، ونعمة الماء لو فقدت -ولو لزمن يسير- حينها يعلم العبد عظيم فضل الله عليه، وأن فقدها جسيم، فذَكَّر الله عز وجل أقوامًا كفروا به بنعمه؛ ليُعِيدَ إليهم تلك الحقيقة التي غابت عنهم، فيقول عز وجل: ماذا لو غاص الماء في أعماق الأرض، من يأتيكم بماء يجري بين أيديكم؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠]،
١٠* كذلك عذوبة الماء نعمة فلو كان مِلحًا أُجاجًا فمن يستسيغه وينتفع به، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة: ٦٩-٧٠]. فهي نعمة تستوجب شكر الله وحمده.
١١* وإنزال الماء أمر بيد الله تعالى، لا بيد غيره، فهو القائل: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر: ٢٢]،
١٢* جعل الله تعالى من أدلة وقوع البعث بعد الفناء بإحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات: قال تعالى: ﴿وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ذَٰلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث مَن في القبور﴾ الحج:٥-٧.
-وقال تعالى: ﴿وَمِنۡ آياتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَاشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ فُصِّلَت: ٣٩.
١٣* وانظر إلى أهل النار وهم يستغيثون بأهل الجنة طلبًا للماء: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله). الأعراف
١٤* وهو من صور رحمة الله بعباده، وقد يمسك رحـمته لحكمة يعـلمها سبحانه، ﴿مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: ٢].
١٥* وهذا يدل على أهمية نعمة المياه وعظيم قدرها، فلولا نعمة الماء لما كان في هذه الحياة إنسان، وما عاش حيوانٌ، وما نبت زَرْعٌ أو اخضر شَجَر، فمنه تشرب ومنه يخرج المرعى، وبه تكسى الأرض بساطًا أخضرَ، وتكون للناظر أحلى وأجمل، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: ١٠-١١].
١٦* ونعمة الماء من النعيم الذي يسأل عنه العبد يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨]، فقد جاء في الأَثَر: “إنَّ أوَّلَ ما يُسألُ عنهُ العَبدُ يومَ القيامةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقالَ له: أَلَمْ نُصَحِّ لَكَ بَدنَكَ ونُرْوِكَ مِنَ الماءِ البارد؟”،
ولقد كان ﷺ حفيًا بنعم الله يعظمها ويشكرها، فكان إذا أكل أو شرب قال:” الْحَمْدُ لله الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا.” رواه أبو داود.
إنَّ شُكْرَ اللهِ -تباركَ وتعالَى- على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحًا في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الْأَعْرَافِ: ٣١]،
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد
فإن الماء وثيق الصلة بأمور ديننا؛ لأن الطهارة أمر أساسي، وعند الاطلاع على معظم أهم كتب الحديث النبوي الشريف وكتب الفقه الإسلامي نجد في كل واحد منها بابًا خاصًا بالوضوء وسننه، فالإنسان المؤمن يكون طاهر البدن والثياب والمسكن على شاكلة طهارة النفس والروح. فمن جهة يؤدي ذلك إلى تحقيق الصحة البدنية، ومن جهة ثانية إلى الصحة النفسية والروحية للإنسان.
ويكفي أن تفتح أي كتابٍ من كتب الفقه لتجدها تبدأ بباب الطهارة ووسائلها ومنها الماء؛ فالصلاة والتي هي عماد الدين لا تصح إلا بالوضوء والجنابة لا تزال إلا بالغسل بالماء الطاهر.
ونجد من فضائل الوضوء كون الإنسان المسلم إذا نام على الوضوء وجاء أجله فهو قد مات على دين الإسلام، كما أخبر بذلك البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي ﷺ الذي مما قاله في هذا الحديث: “….فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة” .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فيلفعل”، متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطرة الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب”. رواه مسلم .
وكما نعلم فعند انحباس المطر وحدوث الجفاف سن الرسول عليه الصلاة والسلام صلاة “الاستسقاء”، أي التوسل إلى الله والتضرع إليه، طلبًا للسقي بأداء ركعتين.
وتقديرًا لمكانة الماء وما ينتج عن استهلاكه وما قد يكلف هذا الاستهلاك، فقد جعل الإسلام الواجب في زكاة الحبوب “العُشر” إن سقيت بماء المطر أو الأنهار الجارية، في حين حدده في “نصف العشر” إن سقيت بماء تطلب تكاليف في جلبه وحفر آباره ومد قنواته.
طهارة الماء منة من الله عز وجل
ولقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بنعمة أخرى، وهي (طهوريَّة الماء)؛ وبها كان الماء مُنَظِّفًا ومزيلًا للأوساخ والملوِّثات والنجاسات والأقذار، فصلحت به حياة الإنسان فيَجِبُ أنْ يعملَ الإنسانُ على إِبقاءِ الماءِ على الصورةِ التي صوَّرَها القرآنُ الكريمُ، والصفةِ الَّتي وَصَفَهُ بِها، فَقَدْ جاءَ وَصْفُ المَاءِ في القُرآنِ الكريمِ بِالبَركَةِ والطَّهُورِ والعذُوبَة، يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) [ق: ٩]، وقال في حديثه لأهل بدر:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: ١١].
ويقولُ جلَّ شأنُه: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الْفُرْقَانِ: ٤٨]، ويقولُ -سبحانه-: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٧]،