خطبة بعنوان «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» للشيخ أحمد عزت حسن
adminaswan
30 أكتوبر، 2024
خطب منبرية, ش / أحمد عزت
124 زيارة
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة الأول من شهر نوفمبر، ٢٩ من شهر ربيع الثاني
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
لقد كان رسول الله ﷺ حريصًا أشد الحرص على بناء الشخصية المسلمة؛ وذلك لأن الفرد المؤمن هو اللبِنة الأولى في تكوين المجتمع المسلم، الأمر الذي في نهايته يكوِّن الدولة الإسلامية، وأعطى الرسول الكريم ﷺ ذلك الاهتمامَ الدرجةَ الأولى؛ بناء الفرد لبناء المجتمع، ولبناء الدولة.
ولا تنفصل القوة الإيمانية المطلوبة بقلب المؤمن عن القوة العقلية والذهنية، ولا عن القوة البدنية، فالقوةُ الروحية الإيمانية وحدها لا تكفي لنصرة أو نجدة أمة.
لكن يتطلب معها الأخذ بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال: ٦٠]، فالإعداد في الآية صرَّح الله عز وجل بأنه من ﴿قُوَّةٍ﴾، وجاءت نكرة للعموم؛ أي: من كلِّ قوة لازمة لتحقيق الهدف والغاية، سواء كان قوة ذاتية “إيمانية، ذهنية، بدنية”، أم قوة خارجية “علمية، اقتصادية، سياسية، عسكرية… إلخ”، فباجتماع أسباب القوة يكون قد اكتمل الإعداد.
ولأن القاعدة الربانية المعروفة من قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، كان المقدار المطلوب من الإعداد غير محدَّد، ولكنه متروك حسب كل حال، فقال الله عز وجل:﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾؛ أي: قدر استطاعتكم، من دون تضييق عليكم أيها المؤمنون؛ وذلك الإعداد المطلوب لتحقيق هدف مرحليٍّ، ألا وهو ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ﴾.
ولما جاءت صيغة فعل الأمر في قوله: ﴿وَأَعِدُّوا﴾ من دون قرينة تصرفها عن الوجوب، ومن المعروف والمتفق عليه أصوليًّا أنه إذا جاء الفعل بصيغة الأمر دون قرينة صارفةٍ، فإنه يكون للوجوب، فإن الأمر هاهنا بالإعداد أمرٌ واجبٌ؛ أي: يجب عليكم الإعداد.
والمخاطَبُ في الآية الكريمة كان صحابة رسول الله ﷺ ومن بعد الصحابة عموم أمة الدعوة المكلَّفين، فالمخاطَبُ في الآية الكريمة هم المسلمون جميعًا، ولا يقتصر الخطاب على مسلمي زمانٍ معيَّن، بل مسلمو زمن النبوة وكلِّ زمان.
ولما فهم المسلمون الأُوَلُ القرآنَ والسُّنة، كان بناؤهم لأنفسهم ولمن تحت ولايتهم بناءً عامًّا، شاملًا البناء الروحي والعلمي والجسدي، والقدوة في هذا رسولُ الله ﷺ؛ حيث كان يهتم بأقل اهتمامات الأفراد، بل بأصغر الأفراد، وأجمل مثال هو اهتمام رسول الله ﷺ بذلك الطفل “أبي عُمَير”.
فقد كان لعمير عصفورٌ صغيرٌ اسمه “النُّغَيْر”، وكان عمير يُحبه كثيرًا، فكان رسول الله يُداعب عميرًا ويقول له: (يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَيْر؟!)، فلما مات النُّغير، واسى الحبيبُ ﷺ أبا عُمير، وهو على رأس دولة المسلمين!
ومن ذلك حرص رجلٍ كعمر بن الخطاب بصفته أبًا على أن يزوج أحدَ أولاده تلك الفتاة “بنت بائعة اللبن”؛ لما سمع من أمانتها وخشيتها وتقواها لله؛ لعلمه أن مثلها يُصلح الله بها الزوج والذرية.
هذا بالنسبة لأصحاب الولاية المحدودة على الأفراد؛ كالأب، أما أصحاب الولاية العامة كالخلفاء وأمراء الأقطار، فقد اهتموا ببناء المجتمع بناءً متكاملَ الأركان؛ حتى يكون مثلًا للقوة الراسخة، ومن ذلك حرص الولاة والأمراء في شتى العصور الإسلامية على إنشاء المعاهد العلمية، والوقف والإنفاق على العلماء وطلاب العلم، وإنشاء دور للدواء والتداوي “المستشفى”، واهتموا ببناء الجيوش الإسلامية القوية التي قصمت ظهور أعدائهم لقرون طويلة، فواكبوا التطورات وسابقوها، مثلما بَنَى عثمانُ بن عفان الأسطول البحريَّ، وبنى العثمانيون المدافع.
وإذا أردنا أن نضرب مثالًا يُحتذى في بناء الفرد والأمة منذ طفولته، لوجدنا مئات بل آلاف الأمثلة، بداية من الصحابة رضوان الله عليهم، وانتهاء إلى عصرنا الحالي، مرورًا بعصور الصليبيين والتتار؛ ولكن أغرب مثال هو محمود بن ممدود “سيف الدين قطز”، الذي وُلد في بيت ملوك، وتربَّى في قيد العبودية، ثم صعد إلى أعلى درجات المُلك في الدنيا، وقصم ظهر التتار في عين جالوت، وكان شعار حياته تلك الوصية التي عَقَلها: “اصبر صبر الملوك”، فنشأ وصبر على ذلِّ وأذى العبودية حتى صار ملكًا.
ومن قبله صلاح الدين الذي أنجبه أبوه وربَّاه على هدف واحد، وهو “تحرير بيت المقدس”، فعندما كان صغيرًا شاهده والده يلعب مع الأطفال فأخذه من بينهم ورفعه إلى الأعلى -وكان أبوه- طويل القامه، وقال له: ما تزوجت أمك وما أنجبتك لتلعب مع الأطفال، ولكن تزوجت أمك وأنجبتك لكي تحرر المسجد الأقصى. وتركه من يديه فسقط الطفل على الأرض فنظر إليه وراى الألم على وجهه فقال له: آلالمتك السقطة؟ فقال نعم
فقال الأب: فلماذا لم تصرخ أو تبكي من الألم؟!
قال الطفل كلمته الخالدة: ما كان لمحرر الأقصى أن يبكي أو يصرخ من الألم.
ومحمد الفاتح وهو صغير كانت أمه تأخذه وقت الفجر ليشاهد أسوار القسطنطينية وتقول له أمه (أنت يا محمد من سيفتح هذه الأسوار؛ لأن اسمك محمد كما قال رسول الله ﷺ). فقد كانت أمه تُلقنه حديثَ رسول الله ﷺ: (لتفتحنَّ القسطنطينية، فلنِعْمَ الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، حتى فتحها بجيشه.
ومشايخ الأزهر وعلماؤه الذين جاهدوا بشموخٍ، هُم وطلابهم، الحملةَ الصليبيةَ الفرنسيةَ، ومع المشايخ عامة أهل مصر، فكانت المحصلة مقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية في قصره على يد طالبٍ بالأزهر من حلب. وما كان هذا كله إلا نتاج عناية بالإعداد المأمور به في كتاب الله عز وجل.
وتحت راية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ كان البذل كلٌّ على قدر طاقته، وليس هنا تقليل لجهد أي فرد في الإسلام أبدًا لدرجة أن الله عز وجل ذَمَّ أولئك: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُم﴾ [التوبة: ٧٩] في الإعداد، فكان هذا إشعارًا بمدح أولئك الفقراء العاملين بجهدهم.
ولما كان الذين: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢] مخلصين في البذل لإعداد الجيش المدافع عن الأمة، كان الجزاء أن خفَّف الله عنهم، ورفع عنهم حرج التخلف وإثم البقاء في المدينة، ليس هذا فحسب، وإنما كان جزاؤهم أن قال رسول الله ﷺ عن هؤلاء الفقراء، وعمن أصابهم العذرُ فلم يلحق بالغزو: (إنَّ أقْوامًا خَلْفَنَا بالمَدِينَةِ، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَاديًا إلا وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ).
فلما كان السعي على قدر الاستطاعة، كان الجزاء عظيمًا، بالمشاركة في أجر الغزو والجهاد في سبيل الله، وهو (ذروة سَنام الإسلام) كما قال رسول الله ﷺ.
فالإعداد ليس إعدادَ فردٍ فحسب؛ وإنما إعداد أمة بأكملها، كلٌّ يسعى ويجتهد، ولا يدَّخر جهدًا ولا طاقة، فالإعداد كلُّه واجب لتحقيق هدف إيقاع “الرهبة” في نفوس أعدائكم؛ حتى لا يُعتدى عليكم ويكفَّ عنكم، وحتى تتحقق الغاية، وهي رضا الله عز وجل عند اتباع أوامره، ونفوز بالجنة.
الله تعالى قادر على إهلاك أعداءه ولكنه سبحانه جعل لكونه سننا يمشي بها منها:
ابتلاء الأمة المسلمة بالأعداء ليميز الخبيث من الطيب
ومن سننه سبحانه أن إعداد الأمة لأسباب قوتها وظفرها من أسباب تحقيق النصر على أعدائها وإلا لما كانت الدنيا دار اختبار لو أن كل من عادى الله أو عادى أولياءه أبادهم في طرفة عين دون إمهال، فالمهلة للكافر حتى يتوب وللمؤمن حتى يحقق أسباب النصر ويسعى إليه.
لقد أمرنا ربنا في محكم كتابه بإرهاب الأعداء بواسطة ما نعده من قوة لمواجهتهم،
والإرهاب معناه إيقاع العدو في الرهبة أي في الخوف والفزع حتى لا يفكر في الظلم والاعتداء، فالقرآن يدعونا إلى إعداد كل قوة مستطاعة، ومنها -بل في مقدمتها- قوة العقيدة، فالمؤمن بالله قوي بإيمانه؛ لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر كله لله، وأنه عبد لله يسعى للفوز برضاه، فلا يخاف إلا الله، والتربية والأخلاق قوة بها يتماسك المجتمع ليصبح قادرًا على مواجهة العدو.
وهذه القوة ليست للاعتداء ولا للظلم، بل إنما تعد أساساً للإرهاب، أي للتخويف حتى لا يطمع في المسلمين طامع، فإذا وقع اعتداء وجب الجهاد، ومعنى الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، أي أن المجاهد يبذل طاقته ويتحمل المشقة في دفع العدو بكل الوسائل والتي آخرها الحرب والقتال، فليس الجهاد فقط هو القتال بل هو كل عمل يُدفع به العدو، والعدو يُدفع بالقلب وذلك بعدم الميل إليه، كما يُدفع باللسان واليد.
فبالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تفتح القلوب التي لا تستطيع الجيوش فتحها، والجهاد إنما يراد به وجه الله واعلاء كلمته ودفع الباطل.
وهذه القوة -قوة العقيدة والتربية والأخلاق- إنما تتحقق بقيام العلماء والدعاة بواجبهم، حتى تشيع في المجتمع المسلم العقيدة الصحيحة والأخلاق الإسلامية والتربية السليمة، فالوسائل المادية وحدها لا تكفي إذا لم تكن هناك عقيدة تربط القلوب بالله تعالى.
بل إن القوة مطلوبة في أداء المناسك والعبادات
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: “أَنَّ قُرَيْشًا، قَالَتْ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ! فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله -ﷺ- لِعَامِهِ الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ -عمرة القضاء-، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: “ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثلاثا –أي في الثلاثة أشواط الأولى- لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَكُمْ” فَلَمَّا رَمَلُوا، قَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا وَهَنَتْهُمْ –يعني حمى يثرب-“
رمل إذا أسرع في مشيته، وهز منكبيه، وهو في ذلك لا يجري، الرمل: المشي السريع.
وفي رواية لأحمد: “فقال المشركون: أهؤلاء الذين نتحدث أن بهم هزلا! ما رضي هؤلاء بالمشي حتى سعوا سعيا!”، وفي روية: فقال المشركون: “كأنهم الغزلان”.
إن أمر النبي -ﷺ- للصحابة: “ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثلاثا لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَكُمْ” ذلك أن القوة حاسمة في إظهار الهيبة لدين الله، وللمسلمين.
إن من السياسة الشرعية الحكيمة التي يعلمنا إياها نبينا -ﷺ- في هذا المشهد إظهار القوة أمام الأعداء، ولئن كانت القوة هي عنصر الحسم الأول في زمان مضى، فإنها اليوم بلا شك أظهر.
وهي سنة من سنن الكون، فالقوة بمعناها الشامل الذي يؤدي إلى جلب المصالح الشرعية، ودفع المفاسد؛ مطلب إسلامي أصيل.
** بل إن القوة صفة يحبها الله -تعالى- في الأمة أفرادًا وجماعات؛ ففي صحيح مسلم وفي السنن بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -ﷺ- قال: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل الخير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدرُ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”.
وفي رواية: “قّدر الله وما شاء فعل”.
من المفاهيم الدارجة التي تحتاج إلى تهذيب: إهمال جانب القوة المادية في مقابل القوة الإيمانية في واقع الحياة، وتهذيب هذا المفهوم لا يتم بالمنطق العقلاني الفلسفي؛ نأتي على النصوص الشرعية ثم نلويها، أو نحرف معناها، حتى يوافق المعنى عقولنا وأذواقنا -نعوذ بالله من هذا المنهج-. لا أبدًا، التهذيب يكون من خلال النصوص ذاتها، ومن خلال فهم الصحابة وسلفهم من الأئمة لتلك النصوص.
أيها الإخوة المؤمنين:
عندما نستعرض ما ورد في القرآن، أو السنة، حول موضوع القوة، قد يرد على البعض شبهة التعارض، ففي آية يذكر الله فيها نعمة القوة المادية، فيقول تعالى فيما يعد فيه هود -عليه السلام- قومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود: ٥٢] نعمة من نعم الله -تعالى-.
ويقول تعالى -كما تقدم-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).
ففي هاتين الآيتين: ذكرًا لأهمية القوة المادية، وأمرًا بأخذها في الاعتبار، والسعي إلى تحقيقها.
وفي آية أخرى تشير في الظاهر إلى التهوين من تلك القوة، وضعف الاعتماد عليها؛ يقول سبحانه: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: ٢٤٩].
وفي آية أخرى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران: ١٢٣]. فهل في هذه الآيات تعارض؟ -حاشا لله- أبداً ليس فيها أي تعارض!.
فمن مبدأ هذه الحقيقة الكونية جاءت النصوص تحث على السعي إلى تقوية الأمة ماديًا، ولكن في نفس الوقت هناك حقيقة أخرى، هناك سنن إلاهية لا يدركها سوى المؤمن، سنن تكمل النقص المادي، إذا بذل المستطاع، ولو كان المستطاع قليلا.
كما في ما حدث في معركة بدر عندما جمع الله المسلمين مع عدوهم من غير ميعاد، وكان المسلمون قلة، غير مهيئة للمعركة، فوقعت سنة من نوع آخر، وقعت سنة التأييد الإلهي لعباده الصالحين، في حال الاضطرار والشدة، وأوحى الله للملائكة أن تقاتل معهم، وقذف في قلوب الذين كفروا الرعب: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) [آل عمران: ١٥١]. فكان النصر للمسلمين.
إنها سنة التأييد الإلهي حين تضيق بالمؤمنين السبل، وتنعدم الحيل، إلا من اللجوء إلى الله -جل وعلا-.
إنها بركة العمل التي تقلب الموازين المادية، وتكسر لغة الأرقام، ومن هذا المبدأ جاءت النصوص الأخرى التي تشير إلى قطع الاعتماد على الأسباب المادية.
ولهذا نقول: إن السبب المادي مهم جدًا لتحقيق الأهداف، لكن مع اليقين بالله، والتوكل عليه.
وقد جاء في صحيح الجامع بإسناد حسن قوله ﷺ لصاحب الناقة: “اعقلها وتوكل”.
وجاء في سنن ابن ماجة في بإسناد صحيح من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو على المنبر، يقول: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”.
وقد ورد عند البخاري من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام «مَرَّ علَى نَفَرٍ مِن أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، (أي يتنافسون ويتسابقون في رمي السهام) فَقالَ النبيُّ ﷺ: « ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فإنَّ أَبَاكُمْ كانَ رَامِيًا ارْمُوا، وأَنَا مع بَنِي فُلَانٍ قالَ سلمة بن الأكوع: فأمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بأَيْدِيهِمْ فلم يرموا ، فَقالَ ﷺ: “ما لَكُمْ لا تَرْمُونَ”؟ قالوا: “كيفَ نَرْمِي وأَنْتَ معهُمْ يا رسول الله”؟ فقالَ النبيُّ ﷺ: ارْمُوا فأنَا معكُمْ كُلِّكُمْ».
أيها الإخوة الكرام: في هذا العالم الذي يحكمه الأقوياء، ولا يَرى فيه الأقوياءُ ولا يَسمعون ولا يَكترثونَ إلا بأنفسهم نود أن نقول: إن كنا نشتكي ضعفًا فضعفنا من عند أنفسنا، وإن كنا نتألم لهواننا على الناس فهواننا هذا من صنع أيدينا والله ورسوله منه بريئان.
ورد بصحيح الجامع من حديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: « « يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ ، كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها ، قيل: يا رسولَ اللهِ ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ»
القوة المادية التي ينادي بها ﷺ هي قوة الرمي، يعتبرها قوة مهمة: “ألا إن القوة الرمي” بل يؤكد عليها ﷺ بترديدها ثلاثا.
بل صح في مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: “من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى”.
الشاهد: أن السبب المادي كما ترون مهم، ومأمور باتخاذه؛ فالنبي ﷺ يعتبر أن رمي العدو عن بعد أسلم وأفضل من مضاربته على القرب، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يُرمى به العدو من سهم أو رصاص أو قذيفة أو صاروخ بواسطة المدفع أو الطائرة أو غير ذلك، وتعتبر القنبلة الذرية اليوم أقوى سلاح للإرهاب، ويحرص الغرب على أن يمتلكها وحده، وأن يمتلكها اليهود ليرهبوا بها العرب والمسلمين.
لذلك يجب على علماء المسلمين مواكبة التقدم العلمي، والسير -بإذن الله- نحو العمل بأمر فرضه الله، وهو امتلاك القوة التي تمنع العدو من فرض كل ما يريد، فالدول الإسلامية مطالبة بالتعاون فيما بينها على امتلاك القوة النووية وتصنيع السلاح حتى لا تبقى عالة على غيرها، [ولدينا مثال عملي من التجربة النووية الباكستانية] ولن يتحقق للمسلمين ذلك إلا إذا عادوا إلى دينهم وطبقوا شريعة ربهم، وأقاموا الحق والعدل، واعتبروا الدنيا، طريقًا إلى الآخرة، فعملوا فيها من الخير ما سيجدون ثوابه في دار الجزاء.
إن مفهوم الإسلام للقوة المادية قائم على لزوم جريان السنن الكونية؛ كما قدر الله في خلقه؛ ففي الوضع الطبيعي قدر الله -تعالى- في سنن الكون أن القوي يهزم الضعيف، والغني يستأجر الفقير، والحاكم يملك السلطة، والجد ينتج ويورث الثمر، والكسل يقعد، وينتج كسلا.
إذاً لماذا هونت نصوص أخرى من أثره؟!
والحقيقة أنها لم تهون من أثره، بل هذبت علاقة القلب بها؛ لأن المؤمن مأمور بالتوكل لا على السبب المادي، وإنما على خالق السبب -جل وعلا-.
ولو تأملنا في بعض الآيات التي تناولت معركة بدر ذاتها؛ لعلمنا هذا التوجيه حين النظر في تلك الأسباب المادية.
ولعلمنا التوجيه بربط القلب بالله -تعالى- لا بالأسباب حين أنزل سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) [الأنفال: ١٧].
في مجمع الزوائد بإسناد صحيح: أن النبي -ﷺ- قال لعلي: “ناولني كفًا من حصى، فناوله فرمى به وجوه القوم، فما بقى أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، فنزلت: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى)[الأنفال: ١٧].
فسواء كان الأثر أو الفعل خارقا للعادة، أو كان عاديًا، فإنه ما كان ليكون إلا بأمر الله -تعالى-، ولهذا ربط النبي -ﷺ- وصحابته هدايتهم وصدقتهم وصلاتهم بأمر الله، عندما كانوا يحفرون الخندق.
فقد صح في البخاري عن البراء -رضي الله عنه- قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ الله -ﷺ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ التُّرَابَ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعْرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ رَجُلا كَثِيرَ الشَّعْرِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى بَغَوْا عَلَيْنَا وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ”.
إذاً لولا الله ما وقع شيء، وهذا لا يعني الاتكال على القدر، فكل ميسر لما خلق له، ولهذا جاء في النصوص الأخرى الأمر باتخاذ السبب المادي، والعناية به.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: “فالعبد لا يسلب الفعل، بل يضاف إليه”. فالعبد هو الفاعل لكن الله هو الخالق، وكما قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة: ١٤].
فلا تعارض بين النصوص، بل هو تنوع، وفي هذا التنوع إرشادًا إلى التعامل مع الحياة بمنطقية عملية مادية، وفي الوقت ذاته يحث على تعلق القلب أثناء ذلك لخالق الأمر، ومدبره سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: إن المسلم ليتحسر عندما يرى من حوله من الأمم أحرص منا على اكتساب القوة بجميع أشكالها، وبالذات القوة العلمية، والعسكرية، والصناعية.
فالنصارى من قبل تحركوا، والوثنيون في اليابان تحركوا، والبوذيون في الصين تحركوا، والهندوس في الهند تحركوا، بل حتى المجوس يتحركون، ونحن مع الأسف ما زلنا نزحف زحف السلحفاة.
فلا يصح من أمة التوحيد التي أخرجت للناس أن تكون آخر الناس، هابطة الهمة، تابعة لا متبوعة، متخلفة لا متقدمة، ضعيفة لا قوية. فما الحل إذاً؟
إن الخطوة الأولى من خطوات مباشرة الحل تبدأ بالفرد، وتنتهي بالجماعة، كما بدأت خطوة الإسلام الأولى بالنبي -ﷺ- فردًا، وانتهت بالأمة كلها.
* يجب أن نحيي مفهوم المسئولية في قلوبنا، نحن أولا، وقلوب من حولنا من الناس، وإذا كنا سنبادر إلى ذلك يومًا ما، فاليوم بلا أدنى شك أوجد أزمة مالية، ما زالت تبعاتها مشتعلة، وخطر قريب جاثم على صدورنا، لديه من الأطماع ما الله به عليم، والمنافقون بين أظهرنا يدينون له بالولاء.
فقد كان السلف الصالح يعتنون بتربية أبنائهم على القوة، والهمم العالية.
إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص يقول: كان أبي يعلمنا مآثر رسول الله -ﷺ- ويعدها علينا وثرياه، ويقول: يا بني هذه مآثر آبائكم، يا بني هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها.
وقال علي بن الحسين: كنا نعلم مغازي النبي -ﷺ- وسراياه؛ كما نعلم السورة من القرآن.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح: أن علموا غلمانكم العوم –السباحة- ومقاتلتكم الرمي.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد
أيها الإخوة الكرام:
إن المآلات مرهونة بالبدايات، فمن تربى على معاني القوة، ومضامين القوة؛ سيجد أثر ذلك في تكوينه، فلنسع لهذا النوع من التربية.
القوة المادية للأمة أفرادًا وجماعاتًا مهمة جدًا، بل ضرورية، فلا مناص للعز بعد الإيمان إلا بقوة ترفع رأس الأمة، وتعيد كرامتها.
لقد ظل النبي -ﷺ- ثلاثة عشرة عامًا في مكة يدع أهلها إلى الإسلام فكذّبوه وآذوه، ورموه بالسحر والشعر والكهانة، ثم حاربوه، فلما دخل عليهم بعشرة آلاف جندي قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم!!!
دعـا المصطفى دهرًا بمكة لم يجـب
وقد لان منـه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلتٌ بكــفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
على النصر خيل الله سير رعيلها
وجهز جنود الحق حيث تساب
وسير ذوي الرايات أعلام حاشدًا
فهيهات أن ينسد دون سباب
أيها الإخوة المؤمنون
يعرف فضل القوة إلا من ظُلم فلم يجد من ينصره.
لا يعرف فضل القوة إلا من سُلب ماله، أرضه ولم يجد من يعينه لأنه ضعيف.
لا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من عاش تحت وطأة الطغيان دهرًا طويلاً.
ما أجمل القوة العادلة عندما تحق الحق وتبطل الباطل.
إن القوة التي تقيم بين الناس موازن القسط، وتبسط بينهم العدل هي ما أمر به الإسلام، وربى عليه أتباعه، بل حضّ على بذل النفس والنفيس من أجله،
إن الحق المسلوب لن يستطيع رده إلا رجال لهم جرأة في الحق لا يخافون في الله لومة لائم.
إنهم رجال عندهم حرص على التضحية في سبيل الله أشد من حرص عدوهم على المغامرة، ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَـاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ والقرآن وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١١١].
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.