خطبة بعنوان «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» للدكتور محمد جاد قحيف

بقلم د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

 

الحمد لله ذي القوة والجبروت، والقهر والملكوت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده الحي الذي لا يموت، القوي العزيز ، يعز من يشاء ، ويذل من يشاء، لا منصور إلا من نصره الله، ولا عزيز إلا من أعزَّه الله ، ونصلى ونسلم على إمام المجاهدين، وقائد المنتصرين، وعلى آله وصحبه، و من سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد: ثمت صراع يدور رحاه بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والطيب والخبيث ، ويبحث الناس عن نصرة الحق وزوال الباطل ، والتعلق بالخير والبعد عن الشر ، وقد جعل المولى جل جلاله للانتصار أسس وقواعد وقوانين لا تتبدل ولا تتحول ..

قال جل جلاله : ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ .فاطر/٤٣.

ومن أسس الغلبة والانتصار القوة وحسن الإعداد ..

وفي دعوة الإسلام نصائح غالية ودعوة صريحة للأمة أفرادا وجماعات أن يتملكوا أسباب القوة التي يحبها الله ورسوله ، القوة في كل شيء مادية ومعنوية ، وفي جميع معانيها المحبوبة لكل إنسان . والله سبحانه وتعالى لا يحب للمؤمنين أن يكونوا في الجانب الضعيف ، ولا أن يكونوا من المتقاعسين الذين يضعفون عن مجابهة التحديات أو يجبنون عن مقاومة الأعداء .

♦♦♦

العنصر الأول : قوة الفرد أساس بنيان الأمة..

إن المؤمن القوي هو عماد الرسالات، وروح النهضات، ومحور الإصلاح، أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب القوي، وضَع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية، فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان، فلن تنجز مشروعًا إذا حُرمتَ الرجل الغيور..

سقطت دول تملك السلاحَ دون أقوياء الرجال، وبقيت مقاومة أقوياء الرجال تثخن في أعداء الله وهي في قلة من السلاح. ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه..

إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم..

إن قوة البدن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة صارت محمودة، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومةً، وليس هذا فحسب، بل نريد القوة المتكاملة بجوار قوة الدين والنفس، نريد قوة البدن وصلابته، ونريد قوة العقل وحدّته، نطالب كل مسلم أن يتحول إلى مؤمن قوي يتكفل بنفسه، وينطلق إلى غيره، معتصمًا بالله، متوكلاً عليه، قويًا بإيمانه، معتزًا بإسلامه، لا ينهزم في الحروب النفسية التي تدير رحاها وسائل الإعلام دون سلاح، لا تكن سمَّاعًا لهم، كن واعيًا، كن واثقًا، كن حذرًا، لا تكن عاهة مستديمة في أمتك، عالة على مجتمعك..

وإن الأمة في حاجة إلى المؤمن القوي في عقيدته، وفي حاجة إلى شباب أقوياء في عقيدتهم، إذا تكلم الواحد منهم كان قويًا واثقًا، وإن عمل كان قويًا ثابتًا، وإذا ناقش كان قويًا واضحًا، وإذا فكر كان قويًا مطمئنًا، لا يعرف التردد، ولا تميله الرياح، ولا تخيفه التهديدات، يأخذ تعاليم دينه بقوة، وينقلها إلى غيره بقوة، ويتحرك ويدعو في مجتمعه بقوة، لا وهن معها ولا ضعف..

فالمؤمن يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها ، وهذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.

لنتسمع لهذا النداء الرباني لنبي الله يحيى عليه السلام ..

قال جل جلاله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم: 12]، وقبله قال الله لموسى وقومه: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)[الأعراف : 145]، وقال لبني إسرائيل بوجه خاص: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة : 63].

♦♦♦

العنصر الثاني : مقومات القوة في الإسلام

أولا : قوة الإيمان والعقيدة..

المسلم بطبعه قوي، قوي بإيمانه بالله -سبحانه وتعالى-، قوي في كل شيء من أفعال الخير والبر والمعروف، همته عالية في أمر دينه ودنياه؛ لأن عموم الحديث يدل على تلك الصفات في المؤمن، وأعظم قوة يتحلى بها المؤمن قوة عقيدته بالله -سبحانه وتعالى- أن يكون قويا في توحيده وعبادته لله -جل وعلا-، لا يشرك به ،شيئًا يدعوه وحده، ويستغيث به ويتوكل عليه، ويفوض إليه أموره في جميع أحواله، ويتجنب كل مظاهر الشرك صغيرة كانت أو كبيرة، لا يعبد إلا الله ولا يستغيث ولا يستعين إلا بالله -جل جلاله-، لا يرائي المخلوقين؛ لأنه بقوة إيمانه يحتسب الأجر عند الله -سبحانه وتعالى- في كل ما يفعله، ويصل إلى مقام الإحسان

قال بعض السلف: “من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء”.

والمؤمن الذي يستمد قوته من عقيدته الصافية ، وإيمانه بالله الحق ومنهجه الرباني يعيش على أرض صلبة ؛ لذلك فقوة العقيدة والإيمان تعطي المؤمن الثبات في مواجهة الباطل وإن علا يوما ؛ لأن مصدر قوته أنه مع الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتزحزح..

وإن القوة الحقيقية تَحدُث عندما تتعلق القلوب بالقوى المتين، فقوة الله فوق كل شيء ..

قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58).

وقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66]..

وعِندما يَنصُرُ المُسلِمُ دِينَ اللهِ وعبادَ اللهِ المُؤمنين فَليَبشِرِ بِوعدِ اللهِ: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].

وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]..

وللأسف الشديد أضحت أمتنا تطلب المدد والقوة من أعدائها الذين وضحت أهدافهم في عصرنا للعيان، وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر ..

إن الإيمان يدفع المؤمن إلى التضحية والصبر والمصابرة وتقديم النفس والنفيس في سبيله ،

وحينما تتمكن العقيدة من القلوب فهي معين لا ينضب للنشاط المتواصل الذي لا ينقطع والعمل الدؤوب الذي لا يفتر .

وإن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح.

ثانياً: قوة العبادة :

لقد كان النبي ﷺ- أقوى الناس عبادة، ما ترك الصلاة وقيام الليل وسائر العبادات ، ولو كان في حالٍ من الضعف ، وكان إذا فاته قيام الليل صلاّه من الغد، وكان في آخر حياته يصلي بعض صلاته جالساً من الضعف الذي لحقه في بدنه، لكنه لم يترك تعبده لربه -سبحانه وتعالى-.

حتى قال بعض نسائه أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!. فقال : أفلا أكون عبدا شكورا أخرجه الإمام مسلم ..

ثالثاً: القوة في مواجهة الأعداء ؛ وذلك لإرهابهم ودفع الاعتداء والظلم.. والقتال في سبيل الله من أهم مقاصده حماية الدين والأرض والعرض ؛ ولتكون كلمة الله هي العليا ..

لقد أمر الله المؤمنين بتحصيل القوة بجميع معانيها وأنواعها بقدر الاستطاعة..

قال تعالى:(وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].

فما هي هذه القوة ؟؟ ، وهل هي قوة مقدرة ، ولها ضوابط ؟؟..

كلمة القوة جاءت نكرة لتشمل كل انواع القوة و مجالاتها صغيرة كانت أم كبيرة؟؟ ..

قالَ الشيخُ السَّعدِيُّ -رحمِهُ اللهُ- ما مفادُهُ: “أَعِدُّوا لأعدَائِكم السَّاعِينَ فِي هَلاكِكُم وإبْطَالِ دِينِكُم كُلَّ مَا تَقدِرونَ عليهِ مِن القُوَّةِ العَقلَيةِ والبَدَنِيِّةِ، وأنواعِ الأَسلِحَةِ مِمَّا يُعينُ على قِتَالِهم، من الآلاتِ وَالمَدَافِعِ والرَّشَاشاتِ، والطَّيارَاتِ الجَوِيَّةِ، والمَرَاكِبِ البَرِيَّةِ والبَحرِيَّةِ، وتَعَلُّمِ الرَّمْيِ، والشَّجَاعَةِ والتَّدبِيرِ”..

ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى ﴿ و َمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ فهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته. فإذا وجد شيئا أكثر إرهاباً منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب ..

﴿ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به “اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ” فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار. ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ قليلاً كان أو كثيراً ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ أجره يوم القيامة مضاعفاً أضعافاً كثيرة..

عَنْ عُقْبَةَ بْن عَامِر رَفَعَهُ : “إنَّ اللهَ يُدخِلُ بالسَّهمِ الواحِدِ ثلاثةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صانِعُه الذي يحتَسِبُ في صَنعتِه الخَيرَ، والذي يُجهِّزُ به في سَبيلِ اللهِ، والذي يرمي به في سَبيلِ اللهِ، وقال: ارمُوا واركَبوا، فإن تَرْمُوا خيرٌ لكم من أن تَرْكبوا، وقال: كُلُّ شيء يلهو به ابنُ آدَمَ فهو باطِلٌ إلَّا ثلاثًا: رَمْيُه عن قَوسِه، وتأديبُه فَرَسَه ، وملاعبَتُه أهلَه؛ فإنَّهنَّ مِن الحَقِّ” أخرجه أبو دَاوُد..

وقَالَ الْقُرْطُبِيّ: “إِنَّمَا فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْي وَإِنْ كَانَتْ الْقُوَّةُ تَظْهَرُ بِأَعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ آلآتِ الْحَرْبِ لكون الرَّمْيِ أَشَدّ نِكَايَة فِي الْعَدُوِّ وَأَسْهَل مُؤْنَة لِأَنَّهُ قَدْ يَرْمِي رَأْسَ الْكَتِيبَة فَيُصَابُ فَيُهْزَمُ مَنْ خَلْفَهُ”..

وفى الحديث:

“ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ”.

أخرجه الإمام مسلم.

فالقوة إذا مطلب شرعي، وما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة ، ولا يفل الحديد إلا الحديد، والإٍسلام ينهى عن الضعف والمهانة، وموالاة الأعداء والتبعية لهم، ويأمر بتحصيل جميع أسباب القوة المادية والمعنوية بقدر الإمكان، فهذا الإعداد يشمل جميع أنواع القوة الإيمانية والعلمية ، والسياسية والعسكرية والاقتصادية ، والتخطيط الإعداد المسبق ، والأخذ بجميع أسباب القوة على قدر الوسع والطاقة ..

إذًا فهناك قوتان، قوة رباط الخيل والرمي اللتان تماثلهما في هذا الزمن الأسلحة والمدرعات والدبابات والقذائف والطائرات، ولقد عُطفت على كلمة “قوة”: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، فهذا العطف يقتضي المغايرة ، وهناك قوة أخرى هي التي فقهها المجاهدون، ألا وهي قوة الله -جل وعلا-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول لوط -عليه السلام-: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:80]، قال -صلى الله عليه وسلم-: “رحم الله أخي لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد”.

رابعاً: ضبط النفس والتحكم في شهواتها :

القوة في ضبط النفس البشرية والتحكم في الإرادة ، ومحاولة التحكم بالنفس من الانسياق وراء الشهوات والفتن والمغريات ، نريد قوة المؤمن تظهر في التعفف والترفع عن سوء الخصال وعن خوارم المروءة، المطلوب من المؤمن هو القوة مع علو همة، وعدم الوقوع في المنكرات والفواحش والمعاصي، وهنا تظهر حقيقة قوته من ضعفه، لاشك أن الشهوات لها ضغط على النفس أيًا كانت هذه الشهوات، فهنا تظهر القوة من عدمها، وهذا لا يعني العصمة، فإنه لا عصمة إلا لأنبياء الله ورسله، ولكن هذه القوة تجعل المؤمن لا ينساق وراء شهواته بل تجعله يبادر بالتوبة، ويرجع إلى ما كان عليه من قبل وأفضل .

فالبُعْدُ عن الشَهَواتِ بِأنْواعِهَا، وَعن المُنكَرَاتِ بِأشْكَالِهَا مِن تَبَرُّجٍ وَسُفُورٍ، وَرَقْصٍ وَغِنَاءٍ وَلَهْوٍ وَفِسْقٍ، يزيد من قوة العبد قال عز وجل:(يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].

وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.

واعلموا أنه من انهزم في الميدان الصغير سيخذلنا في الميدان الكبير، ومن خارت قواه أمام الشهوات فسيخذلنا في الجبهات، ومن هزم في ميدان “حيَّ على الصلاة” فسيُهزم قطعًا في ميدان :

“حي على الكفاح”.

ولا شك أن ترك المسلمين للجهاد بنوعيه من أسباب الذل والهوان كما قال ﷺ في الحديث الذي رواه أبو داود ( عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ »اخرجه أبو داود وسنده صحيح ..

نريد أن يمتلئ المجتمع بالنفوس القوية التي تتعالى على شهواتها، وتنتصر على رغباتها، وتتحول إلى نفوس مجندة لخدمة هذا الدين..

وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.

♦♦♦

العنصر الثالث : عناصر القوة والثبات عند المسلم.:

١- الإيمان بالله واليوم الآخر .

إننا بحاجة ماسة إلى تقوية الإيمان بالله تعالى ، فالقوة الحقيقية هي الخوف من الله، والالتزام بشرعه ،

و تحكيم منهجه .

فمن خاف الله سدت منافذ الخوف إلا منه ، فلا خوف إلا منه ، ولا فقر إلا إليه ، ولا اعتماد إلا عليه ولا انقياد إلا لحكمه وآوامره ونواهيه ..

والقوة الحقيقية بالاستغفار والرجوع إلى الله..

والإيمان بالله جل جلاله يتأسس على الثقة الكاملة في قوة الله التي لا تُقهر؛ فالله وحده هو الخالق المالك لهذا الكون: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

ومالك الملك قاهر فوق عباده: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18].

وهو وحده النافع الضار: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

٢- الوحدة والاصطفاف..

إن من أهم عناصر قوة هذه الأمة الوحدة والاصطفاف، واجتـماع الكلـمة على الحق، وإصلاح ذات البين، وعدم التــنازع والتـفرّق، والقتال تحت راية واحدة بقيادة واحدة ..

قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]..

وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46] ..

فإذا لم يحقق المسلمون تقوى الله بطاعة الله ورسوله، وتنازعوا واختلفوا، زالت قوتهم، وتسلط عليهم أعداؤهم..

وإن نبينا ﷺ عمل منذ اللحظة الأولى من بناء دولة المدينة على التآخي بين المسلمين أخوين أخوين ، بين الأوس والخزرج ، وبين الأنصار والمهاجرين ؛ لإذابة العصبية والعنصرية ، والفوارق ، فلا أوسيون ولا خزرجيون ، ولا قرشيون ، ولا حجازيون ولا يمنيون ، الكل مسلمون على عقيدة التوحيد الربانية والأخوة الإيمانية .

لذلك تحوَّلُوا وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم من خامات الجاهلية إلى عجائب الإنسانية ، وإلى نماذج فريدة سُلوكًا وإخلاصًا، ورحمة وعدلا..

قال تعالى:”وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”

.الأنفال/٦٣.

وقد سلط الله على هذه الأمة أعداءها بسب المعاصي والذنوب فجعلت اجتماعاهم فرقة، وأحالت وحدتهم إلى شتات، وسلبتهم قوتهم، وألبستهم الضعف والهوان وحال أمتنا لا يخفى علينا ..

في دفتر القدس الحزين حكاية تنعى الشهامة في بني الإنسان..

شاشاتنا قد اتخمت ببرامج وكأننا نعيش في كون ثان..

لن يرحم التاريخ ذلا قد بدا من صمت كل مداهن وجبان..

ماذا سنخبر ربنا في حشرنا

مليارنا قد باء بالخسران..

روائع الشعر د/وائل جحا ..

٣- الدعاء مع باقي أسباب القوة:

الدعاء سلاح المؤمن لكن الدعاء وحده لا يكفي ، و لا يعمل منفرداً ، بل لابد مع الدعاء من الأخذ بالأسباب الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية ..

لقد كان النبي ﷺ يدعو ربه بالليل والنهار أن ينصر الإسلام والمسلمين مع الأخذ بكل أسباب النصر ( أعد العدة ، ودرب الناس ، وحرضهم على القتال في سبيل الله، ورص الصفوف، ووزع المهام، وخطط ورتب لكل صغيرة وكبيرة) وحارب في ما يقرب من مئة غزوة وسرية ..

لو كان الدعاء على العدو بدون الأخذ بأسباب القوة يكفي لاكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولما فعل شيئا استعدادا للغزو والقتال ..

لقد كان من روائع أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم

“لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال ” يعني لاستجاب لكم الدعاء ، وحقق الرجاء ..

٤-القوة العسكرية ..

لا ريب أن من أهم مقومات القوة القوة العسكرية ، فهي تحفظ الدين والأرض والعرض ، وترهب الأعداء ، فلا يقفون في وجه الدعوة إلى الإسلام . وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويحق الحق ويبطل الباطل.

ولقد كان من هدي سلف الأمة الإسلامية في عهدها الزاهر أنهم اهتموا ببناء القوة الإيمانية ، وببناء الجيوش الإسلامية القوية التي قصمت ظهور أعدائهم لقرون طويلة، فواكبوا التطورات وسابقوها، مثلما بَنَى عثمانُ بن عفان الأسطول البحريَّ، وبنى العثمانيون المدافع..

٥-قوة الثقة واليقين ..

قوة اليقين، والثقة في الله المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والمتغيرات ،ثقةٌ بالله واعتمادٌ عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله. ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [إبراهيم:12].

٦- قوّة الأخلاقِ: لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاق دون أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبعضُ المسلمين اليومَ جمَع من العلمِ فأوعَى، وخلاَ من الخُلُق الأوفى.. القوّةُ في الأخلاق دليلُ رسوخِ الإيمان ،

ومن مواطن سمو الأخلاق وانتشارها ؛ فالصبر قوة والرحمة قوة لأنها لا تكون إلا من ذوي النفوس الكبيرة، والعدل قوة لأن العادل لا يخشى بأس المتكبرين ولا يرجو نفعا من المظلومين والتواضع قوة، والحلم قوة، فالحليم لا يستفزه تطاول الناس لأنه أكبر من ذلك. وكل هذه القوى كانت متمثلة في شخص الرسول ﷺ فهو أشجع الناس وأكرم الناس وأحلم الناس وأعدل الناس.

اسمعوا -أيها الشباب- إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ، وذلك حينما عبر عبد الرحمن الداخل البحر أول قدومه على الأندلس، أهديت له جارية بارعة الجمال -وهذه كانت حلالاً له بحكم الجواري في ذلك الوقت- لكنه -رحمه الله- نظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أَهُمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أَهُمُّ به ظلمت همتي، ألا فلا حاجة لي بها. ثم ردها إلى صاحبها.

٧- العلم و العمل :

المطلوب من كل مؤمن يهمه أمر الإسلام أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل أولاً، ثم يكون جنديًا في سرية من سرايا هذا الدين، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الدعوة إليه، وليخلص كل مؤمن أن يعمل بجد ومثابرة؛ فإن الباطل يزحف، وسيله جارف، ولا يقابل ذلك إلا إيمان وعمل..

ولا يشترط أن يكون الجميع نسخة واحدة في أعمال الخير ، فبلال غير أبي بكر، وخالد غير أبي ذر، وابن عباس غير ابن عمر، ومصعب غير ابن عوف، كانوا مهاجرين وأنصارًا، وكان فيهم أصحاب بيعة الرضوان، فيهم الولاة والحكام، وفيهم العسكريون والقادة، وفيهم أوعية العلم والفقه، لكن كلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وكلهم كان ثغرًا من ثغور الإسلام، فحفظه وصانه ..

وختاماً: هذا الموضوع حقيقة يحتاج إلى مجلدات ووقفات ، لما فيه من حكم ووصايا نافعات ، وإن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى غرس القوة في أفرادها دينيا وعلميا وخلقيا، وتحتاج الأمة اليوم إلى المؤمنين الأقوياء، الذين يحملون في قلوبهم قوة نفسية تحملهم على معالي الأمور وتبعدهم عن سفسافها، قوة تجعل أحدهم كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو بيته ودينه وأمته ..

وواللهِ لَمْ يَظْهر أَعداءُ الإسلامِ علينا من اليَهود الصهاينة ومن وقف بجانبهم إلاَّ لِوَهَنٍ حَلَّ فِي صُفُوفِنا، وَأَثَرَةٍ طَغَت علينا، وَتَفَرَّقٍ بعدَ اجتماعٍ، وهذا سِرُّ تَداعِي الأُمَمِ علينا، قالَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ –صلى الله عليه وآله وسلم-: “يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ” قَالَوا: وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.

أخرجه أبو داود وسنده صحيح.

نعم، هَذا هُو مَبعثُ الوَهَنِ حَقِيقَةً، أنْ تَخلُدَ الأُمَّةُ لِدُنْيَاهَا، وتَتَعَلَّقَ بِشهواتِها، وتَرَفِهَا وَلَهْوِهَا فَتَكرَهُ المَوتَ وتُفَضِّلُ حَياةً ذَلِيلةً على مَوتٍ كَرِيمٍ.

والأُمَّةُ القَوِيَّةُ والدَّولَةُ القَويَّةُ تُحفظُ مَهَابَتُها، ويُحسَبُ حِسَابُها، وتُقبلُ شُرُوطُهُا، ويُصانُ جَنَابُها، ولا يَقومُ حَقٌّ مَا لَم يُحَاط بِقوَّةٍ تَحفَظُهُ وَتسنُدُهُ، وحينَ أمَرَ اللهُ بإعدادِ القُوَّةِ ليسَ حُبَّاً في الحربِ وإراقَةِ الدِّماءِ، إنَّما لِتَكُونَ سَبَبَاً فِي مَنعِ الحَربِ، واستِعدَادَاً عِند نُشُوبِها.

إن المسلم ليتحسر عندما يرى من حوله من الأمم أحرص منا على اكتساب القوة بجميع أشكالها، وبالذات القوة العلمية، والعسكرية، والصناعية، فلا يصح من خير أمة أخرجت للناس أمة التوحيد والهداية أن تكون آخر الناس، ولا يصح أن تكون هابطة الهمة، متدنية المكانة ، أمة تابعة لا متبوعة، متخلفة لا متقدمة، ضعيفة لا قوية.

وقد نُقِلَ في صفحات التاريخ الاسلامي المشرق أن امرأة مسلمة حاول روميا أن يعتدي عليها ، مجرد محاولة ، فصرخت واستغاثت وهي في بلاد الروم: «وامعتصماه» فما كان من الخليفة المعتصم إلا إجابة تلك الاستغاثة وهذا النداء ، فزحف بجيش عرَمْرمٍ لإنقاذها، فصانها، وأدَّبَ وعاقب من أهانها..

فاللهمَّ انصر دينَكَ وكِتابَكَ وجُندَكَ وسُنَّةَ نَبِيَّكَ وعِبادَك الصَّالِحينَ..

واللهم من أرادَ بنا وبالإسلامِ والمُسلِمينَ سُوءاً فأشغِلهُ في نَفسِهِ يا ربَّ العالمينَ..

واللهم ارزقنا القوة في أبداننا، وارزقنا القوة في إيماننا، وارزقنا القوة في أخلاقنا، وارزقنا القوة في أفعالنا وفي جميع أحوالنا إنه سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.