خطبة بعنوان : وقولوا للناس حسنا للدكتور محمد جاد قحيف
adminaswan
22 أكتوبر، 2024
خطب منبرية, د/ محمد جاد قحيف
419 زيارة
الحمدُ للهِ الوهابِ المنانِ، الرحيمِ الرحمنِ، خلق الإنسان علمه البيان سبحانه وتعالى المدعُو بكلِّ لسانٍ، المرجُو للعفوِ والإحسانِ.. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ..
وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، رفيعُ الدرجاتِ، واسِعُ الرَّحماتِ، واهِبُ البركاتِ، مُجِيبُ الدَّعواتِ، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} ..
وأشهد أن سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد: أحبتي في الله وأحباب الحبيب المصطفى ﷺ لقد أمرنا المولى جل شأنه أن نطهر قلوبنا وألسنتنا وأن نقول للناس حسنا بلفظ القول المعروف، والقول السديد، والقول الميسور، والقول الكريم، والقول اللين أو ما يشمل ذلك القول بالتي هي أحسن…
قال تعالى:{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} سورة الاسراء:53..
يعني يجب على المسلم أن يتخير أحسن الكلمات وأجمل العبارت عندما يريد أن يخاطب الناس الكبير والصغير، و القريب والبعيد، مع المسلم وغير المسلم ، من غير طعن ولا لعن ،ولا فحش لا بذاءة ،ولا تكبر ولا تحقير ..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ). أخرجه الترمذي وسنده صحيح..
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال:
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة للقرآن وذكر للرحمن ، وعلم ومعرفة ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما.
والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره.
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ} أي: يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.
فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها، وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي..
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}..وينبغي للناس أن يحاربوه ولا يطيعوه فإنه يدعوهم {ليكونوا من أصحاب السعير} إن الحزم كل الحزم السعي ضد عدوهم ، وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم…
(المكتبة الشاملة).
العنصر الأول: اللسان نعمة ونقمة
لقد خلق الله للبيان آلة وهي اللسان فلسان المرء سلاح ذو حدين ، إما أن يستعمله في ما يرضي الله وما طاب من الأقوال ، فيغرس شجرة تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها، وإما أن يستعمله فيما يورث سَخطَ الله فيكون سبب في هلاكه ودخوله النار ..
اللسان نعمة جليلة، ومخلوق صغير، داخل كيان هذا الإنسان، لكن له شأن عظيم، فما أصغر حجمه وما أعظم أثره على الإنسان ..
وهذا اللسان الصغير الحقير في حجمه نعمة إلهية عظيمة ، ومظهر التكريم الرباني للإنسان بين غيره من المخلوقات العجماء، كما هو مظهر إعجاز بما أودع الله فيه من أسرار باهرة ..
قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8-9].
وقال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1- 4].
وفي نفس الوقت قد يكون نقمة ووبالا على صاحبه ؛ ذلك أنه الترجمان الأكبر عن الإنسان، في أحوال شخصيته النفسية، والعقلية والخلقية، فهو عضو كبير وخطير بما يفيض منه من خير أو شر، وتتعلق به آفتان: آفة الكلام بالباطل، وآفة السكوت عن الحق،
في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”[رواه أحمد عن أنس بن مالك]
فالحديث يقرر الترابط والتفاعل القائم في الإنسان بين عناصر ثلاثة يؤثر بعضها في بعض : الإيمان والقلب واللسان ..
فالإيمان لا يصح ويستقيم حتى يستقيم القلب على اليقين والصدق والإخلاص وذلك غذاء الإيمان.
والقلب لا يستقيم على الصحة والسلامة من أمراض الأهواء والزيغ حتى يستقيم اللسان، وهو ترجمان القلب ينبض بما ينطوي عليه، فيعود عليه بالتأثير سلبا أو إيجابا.
ويشهد الواقع أنه إذا صلح لسان المرء عرف ذلك في سائر عمله، وإذا فسد لسانه تجلى ذلك في تصرفاته وأحواله.
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده *** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
إن الكلام لفي الفؤاد وقد جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ..
اللسان -أيها الأحبة- يعتريه شيئان، الكلام والسكوت فكلام اللسان له سلبيات، وهي ما تسمى بالآفات، وله إيجابيات، وهي الطاعات والقربات..
وسكوت اللسان قد يكون آفة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وقد يكون عملاً صالحا؛ ففي الصَّحيحينِ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: “ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليقلْ خيرًا أو ليَصْمُتْ”،
فالسكوت والصمت، خير من الكلام بالباطل وبالفحش.
الصمت زين والسكوت سلامة *** فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما أن ندمتُ على سكوتي مرة *** ولقد ندمت على الكلام مرارا..
أيها المسلمون: اللسان تتعلق به آفات كثيرة، وخصال عديدة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: فيما أخرجه الإمام الترمذي بسند حسن عند أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي تخضع له- فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا”.
وحسبنا من خطورة اللسان ومسؤولية الكلام وعواقبه، ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام في وصيته الثمينة لمعاذ بن جبل حيث أخبره بطريق الجنة والنجاة من النار ، وبين له أبواب الخير، ورأسُ الأمرِ الإسلامُ ، وعمودُهُ الصَّلاةُ ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ …ثمَّ قالَ : ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ ؟ قُلتُ : بلَى يا رسولَ اللَّهِ ، قال : فأخذَ بلِسانِهِ قالَ : كُفَّ عليكَ هذا ، فقُلتُ : يا نبيَّ اللَّهِ ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فقالَ : ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم .
أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح..
وفي رِوايةٍ أنَّ ذلك كان في غَزوَةِ تَبوكَ، يقول سيدنا معاذ رضي الله عنه”ونَحنُ نَسيرُ”، وقد أصابَنا الحَرُّ، فتَفرَّق القومُ، فإذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أقرَبُهم منِّي، فدَنَوتُ منه”فقال ما قال ثم “أخَذ بلِسانِه”، أي: أمسَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بلِسانِ نَفْسِه، ثمَّ قال: “كُفَّ عليك هذا”، أي: اترُكِ الكلامَ المحرَّمَ كالكلام الذي فيه شِركٌ باللهِ تعالى، والكَذِبِ، وشَهادةِ الزُّورِ، والقولِ على اللهِ بغيرِ عِلمٍ، والخوضِ في أعراضِ النَّاسِ، وغيرِ ذلك مِن الموبِقاتِ كالغِيبةِ والنميمةِ والفُحشِ مِن القولِ ونحو ذلِك، واتْرُكِ الكلامَ فيما لا يُفيدُ وفيما لا مَعنى له؛ فإذا تَكلَّمتَ فلا تَتكلَّمُ إلَّا بخير؛ كالأمْرِ بالصَّدقةِ والمعروفِ أو الإصلاحِ بينَ الناسِ ونحو ذلك؛ فإنْ لم يكُنْ في الكلامِ خيرٌ ففي الصَّمتِ السَّلامةِ، قال معاذٌ: “يا نبيَّ اللهِ، وإنَّا لِمُؤاخَذون بما نتَكلَّمُ به؟!”، أي: مُحاسَبون ومُعاقَبون على الكلامِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: “ثَكِلَتك أمُّك يا مُعاذُ!”، أي: فقَدَتْك، وليس المرادُ به الدُّعاءَ عليه، ولكنَّها مِن كلامِ العرَبِ، واستعمالُه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لها لِتَنبيهِه إلى أمرٍ كان يَنبَغي أن يَنتَبِهَ له ويَعرِفَه، “وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجوهِهم- أو على مَناخِرِهم-“، أي: هل هناك شيءٌ يَجعَلُهم يُصرَعون على وُجوهِهم ويَسقُطون،إلَّا بسبَبِ ما يَحصُدونه يومَ القيامةِ مِن كَثرةِ الكلامِ في الدُّنيا في غيرِ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ. الدرر السنية..
أيها المسلمون: إن أقل الورع يكون في اللسان، قال بعض السلف: “فتشنا الورع، فلم نجده في شيء أقلّ منه في اللسان”.
اللسان معبر عندما اشتمل عليه قلب الإنسان، فإن كان القلب زكياً مؤمناً كانت ألفاظه طيبة، وإن كان القلب خرباً مظلماً بظلمة المعصية، كانت ألفاظ اللسان سيئة بذيئة.
فعلى المسلم أن يتعهد لسانه بالمراقبة والمحاسبة والتسديد، فلا يقول إلا خيرا، فإن الله تعالى لا يرضى كلام السوء: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء:148].
وصدق القائل:
اِحذر لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ
لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبانُ
كَم مِن قَتيلِ في المَقابِرِ لِسانِهِ
كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الشجعانُ
إن الحديث -أيها المسلمون- عن اللسان وآفاته، حديث لا ينقطع ولا ينتهي؛ لأنك إن أردت الحديث عن ذلك، فإنك ستلاحقك سائر شئون الحياة التي يحياها الإنسان، فهناك الكذب، وبضده الصدق، وهناك الكف عن أعراض الناس، وبضده الغيبة والنميمة، وهناك التقعر والتنطع
في الكلام، وهناك قول الزور، ولغو الحديث والخوض في الباطل، وهناك التحدث بالأخبار من غير تثبت، وهناك الطعن في نيات الصالحين، والتلذذ بتشويه سمعة من آتاه الله فضلاً وعلماً وعفة.
وهذا إذا صار معه الهوى -والعياذ بالله- كان الكلام مطيته الكذب، وسوء الظن، قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].
وقال جل شأنه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)[الزخرف: 80].
ولقد أحسن من قال:
إذا شئت أن تحيا سعيداً مُسَلَّماً فدبّر وميّز ما تقولُ وتَفعَلُ
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهلُ وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مَقتَلُ
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه
إذا لم يكن قفلٌ على فِيهِ مُقفَلُ
إذا ما لسان المرء أكثر هَذْرَهُ فذاك لسانٌ بالبلاءِ مُوَكَّلُ..
العنصر الثاني: خير الكلام وأحسنه وشر الكلام وأخبثه
خير الكلام وأحسنه هي كلمة التوحيد كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: ((خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))(16) . فما من أحد أحسن قولًا ممن دعا إلي توحيد الله وعبادته كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]
قال السعدي: “هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلامًا وطريقة، وحالة {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها”.
ومن ذلك:
مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَليقل لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ “.
ومن عاد مريضًا فليدع له وليقل: “لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
وإن أصابه كرب أو ابتلي ببلية فليحمد الله وليقل: “لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ”
وشر الكلام وأخبثه كلام الكفر والجحود والإلحاد ، ثم الايذاء والاعتداء بالقول أو بالفعل ، والغيبة والنميمة والوقيعة بين الناس ، فمن الآفات الفتاكة التي سادت بين الناس بالفساد الكبير، والشر المستطير، آفة كلام السوء، وخبيث القول، الذي يفعل فعل الوباء القاتل في حياتنا الاجتماعية، فيعصف بالعلاقات والمعاملات، ويبيد أمن النفوس واستقرارها، ويهدم صروح الثقة بين الناس.
وقد أضحت الألسنة طليقة بالسوء، بغير قيود ولا حدود؛ حتى امتلكت بفعل العادة والألفة شرعية مقيتة من الجراءة والمجاهرة، والتحدي لضوابط الدين والخلق والمروءة.
مظاهر وصور من قبيح القول، لا تكاد تحصى في رذائل السب والشتم والطعن والقذف والسخرية، والكذب والغيبة والنميمة والزور والنكت والنوادر الذميمة.
أحوال الناس في هذا الصدد لا تحتاج إلى شاهد ولا دليل على واقع نعيشه ونواكبه بأسماعنا وأبصارنا، وقد نساهم فيه بقليل أو كثير، من حيث ندري أو لا ندري .
وهل يليق بأمة الإسلام، أمة الخيرية، أن تعيش على هذه الحال أو تتقبله ، وهي التي أراد الله تعالى لها أن تحيى طيبة طاهرة في كل شيء من أمرها، لتكون قدوة للناس في الاستقامة على الصلاح والإصلاح: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: 110].
فوجب على المسلم أن يحيا طيبا في كل أحواله؛ فيكون طيبا في قلبه، بأطيب المشاعر والخواطر والنوايا، ويكون طيبا في عقليته بأطيب الأفكار والتصورات وموازين المنطق السليم، ويكون طيبا في جوارحه بأطيب الأفعال والأعمال، ويكون طيبا في لسانه بأطيب الكلام وأقوم الأقوال.
وبذلك تكتمل له مقومات وفضائل الشخصية المؤمنة الربانية، ويعيش تقيا نقيا زكيا راضيا مرضيا، مشمولا بالثناء الرباني: (وهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 24].
من أجل ذلك يعلمنا كتاب الله تعالى ويضرب لنا الأمثال لنتبين الفرق بين الكلمة الطيبة النافعة الفاعلة في الناس بالخير، والكلمة الخبيثة الفاسدة المفسدة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 2628].
وتلك حقيقة الكلمة الطيبة الثابتة بجذورها في تربة طيبة، تعلو فروعها السامقة لتؤتي ثمار الخير أكلا طيبا جنيا يسري أثره النافع في النفوس والأفعال والأحوال باستمرار.
بينما تكون الكلمة الخبيثة نبتة مشؤومة الآثار، لا تثمر بين الناس إلا الشر والفساد.
ثم إن الكلام الطيب، عمل صالح يتقبله الله تعالى ويرفعه..
قال تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].
وقد أحسن الأزهر الشريف في بيانه أن شهداء «المقاومة الفلسطينية»لم يكونوا إرهابيين كما يريد عدوهم أن يصورهم كذبا وزورا ، بل كانوا مقاومين بحق، أرهبوا عدوهم، وأدخلوا الخوف والرعب في قلوبهم، وكانوا مرابطين مقاومين متشبثين بتراب وطنهم، مدافعين عن أرضهم وقضيتهم وقضيتنا؛ قضية العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها..
ونقول كلمة لإخواننا المسلمين المستضعفين في فلسطين ولبنان وفي جميع بلاد المسلمين ، انتم تموتون حرباً، ونحن نموت قهرًا، أنتم تنزف دماؤكم، ونحن تنزف قلوبنا، انتم الشهداء ونحن المصابون..!!ولا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم ،وإلى الله المشتكى..
العنصر الثالث :أنواع الكلام أو أقسامه.
الكلام يا إخوة الإسلام ثلاثة أقسام: ١-كلام خير، يستحب للمسلم التكلم به، وهو أفضل من سكوته، كتلاوة القرآن، وذكر الله وتعلم العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك مما فيه خير دنيا أو دين ..
٢-كلام سوء وشر، فيجب الإمساك عنه، وعدم الخوض فيه، كالغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء، وغير ذلك مما نهى عنه الشرع وحذر منه.
٣-وكلام مباح بين الخير والشر، ولكن السكوت عنه أفضل، إلا ما دعت إليه حاجة أو ضرورة.
وأما أهل الإيمان والورع فلا يأخذ منهم لغو الكلام أوقاتهم الثمينة: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55].
لهذا يحسن بالمؤمن العاقل أن يجمل شخصيته بطيب الكلام الذي يرفع قدره، ويحفظ مروءته، ويجلب له عند الناس المودة والقبول .
وفي الكلام الطيب مزيتان؛ إحداهما: في مضمونه السديد المفيد، وثانيتهما: في هيئته متى كان بليغا لطيفا، بريئا من الحدة والخشونة، فإن الإحسان والتلطف في الخطاب، مطلوبان على كل حال، ومع أي كان، حسبكم أن الله تعالى أوصى به حتى مع أطغى طاغية جبار وهو فرعون، حين بعث إليه موسى وهارون، وقال لهما: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 43 – 44].
والقول الحسن يجذب الناس إلى دين الله، ويرغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والقول السيء ينفر الناس عن الدين، ويبغضهم إليه، مع ما لصاحبه من الذم والعقاب الخاص..
وإن الكلمة في دين الله أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة، لما قد يترتب عليها من خير أو شر، ولذا كانت متبوعة بالمراقبة والتوثيق لتكون لصاحبها أو عليه؛ بهذا يخبرنا القرآن الكريم: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].
كذلك ينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطورة الكلام وعواقبه ليوم القيامة، فيقول: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم”[رواه البخاري].
هذا عن كلمة واحدة، فماذا يكون مصير من لا يحلو لهم الحديث إلا في أعراض الناس وأسرارهم، يتندرون ويتلذذون بكل ما ينال من كرامة الإنسان.
وهذا حال كثير من مجالس المقاهي ، وأندية اللهو واللغو والأسواق ، والمسلسلات والمسرحيات ، والمقالات وغيرها.
ومن الحكمة والمروءة الإقلال من الكلام؛ لأن كثرة الكلام مدعاة للوقوع في المحظور، فإن كثيرا من مباح الكلام يجر صاحبه ويستدرجه إلى ما فيه إثم، وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب: “من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به”.
إن المرء ما دام ساكتا صامتا فهو آمن، فإذا تكلم، كان كلامه له أو عليه، فوجب التحفظ والتيقظ والمراقبة لشهوة الكلام التي يسقط كثير من الناس ضحايا لها بالإدمان الكلامي وعواقبه.
ولرب كلمة يقولها الإنسان لا يتبين فيها تزل به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب..
إن الاشتغال بالطعن في الناس، -خاصة من عرف بالاصلاح ، والدعوة والعلم- وذكر نقائصهم، والتسلي بالخوض في معائبهم، وإفشاء مقالة السوء بينهم، من طبائع القلوب المريضة، والصدور الحاقدة، وهو من أظهر الدلائل على قلة التوفيق -والعياذ بالله-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”[رواه البخاري ومسلم].
ذكر رجل آخر بسوء عند إياس بن معاوية، فقال له: “هل غزوت الترك والروم؟ فقال: لا. فقال: سلم منك الترك والروم، ولم يسلم منك أخوك المسلم”.
فاحذر -أيها المسلم- من لسانك، وزن كلامك وتأمل عاقبة قولك قبل أن تتلفظ به، فرُب كلمة سلبت نعمة، وإن الكلمة إذا خرجت من فمك لا يمكن استردادها، وقد يصعب تدارك خطرها، فالملائكة كتبوا، والناس سمعوا، والمرجفون علقوا وشرحوا وزادوا، وأنت وحدك الذي تتحمل كل هذه التبعات والمسئوليات..
ويعظ عبد الله بن عمر ابنه فيقول له: بني أن البر شئ هين : وجه طليق ، وكلام لين ..
وخير منه كلام ربنا تبارك وتعالى الذي يقول : { وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الفرقان:63 .
جاء رجل إلى علي بن الحسين بن علي – رضي الله عنهم أجمعين – فقال له إن فلاناً قد آذاك ، ووقع فيك . فما كان منه إلا أن قال له : انطلق بنا إليه ، فانطلق معه ، وهو يرى أنه سينتصر لنفسه ، ويقتص منه ، ويرد له الصاع صاعين .. وما أكثر الذين يحبون هذا .. غير أن الذي حدث ، خيب ظن الساعي ، وأفشل مسعاه .. فلما أتاه ، قال له : ” يا هذا إن كان ما قلت فيّ حقاً ، فغفر الله لي .. وإن كان ما قلت فيّ باطلاً فغفر الله لك”..
يا لها من أخلاق حسنة كانت سببا مباشرا وغير مباشر في دخول الملايين من الناس في دين الله ومنهم مسلمو إندونيسيا وكذلك الهند والصين وغيرها من البلدان.
مهندسة يهودية من اليمن كتبت مقالا تقول أن بعض أصدقائها يدعونها إلى الإسلام وأرسلوا لها قصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهودي الذي كان يؤذيه فلما مرض اليهودي زاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت الزيارة سببا لدخوله الاسلام ، فتقول أن أخلاق نبيكم أغرت ذلك اليهودي وجعلته يدخل الاسلام ، أما أنتم فبماذا تغروني لكي أدخل الاسلام وانتم يذبح بعضكم بعضا ويكفر بعضكم بعضا ويشتم بعضكمويأكل بعضكم مال بعض بعضا وبأسكم بينكم شديد؟!!.
وختامًا:
فلقد كان السلف -رحمهم الله- يتخيرون ألفاظهم، ولا ينطقون إلا بالكلام الطيب الحسن؛ لأنهم يعلمون أنهم محاسبون عليه بين يدي الله عزّ وجل قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].
فلا يريدون أن يروا في صحائف أعمالهم ألفاظاً بذيئة فاحشة، غيرُ حسنة ..وكان هذا هدياً عاماً فيهم، وتلك من صفات عباد الرحمن وأهل الإيمان ..
قال ابن هشام صاحب السيرة: “طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعت منه لفظا سيئا قط، ولا كلمةٌ غيرها أحسن منها”.
ولهذا تعلق الناس حبا بالشافعي لما قدم مصر، من حسن حديثه وصدق بيانه..
أيها المسلمون: كم من لفظة يقولها الإنسان، فتؤثر في حياته كلها، وتقلبها رأساً على عقب، رب لفظة قالها رجل، هدمت بيته، وفرقت شمله، ورب كلمة سيئة خرجت، فرقت الصديق عن صديقه، ورب كلمة قيلت، حرمت صاحبها من رزقه ووظيفته.
فمن كان يرجو الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا، راضيا مرضيا بين الناس، فقائده لسانه بينهم إذا طيب حديثه وصانه عن الآفات الكلامية، ونزهه عن السفاسف والدنايا، وألجمه بالصمت إلا عن قول الحق وممارسة التوجيه والإرشاد والصلح والإصلاح..
ومن كان يرجو الآخرة فليراقب لسانه بوازع التقوى والإشفاق من عواقب يوم القيامة، يوم يعرض كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
فليعمل على تزكيته ومراقبته ومحاسبته، منشغلا بذكر الله تعالى وما فيه خيره وخير الناس، داعيا إلى الله تعالى، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر.
ولتكن أسوته الحسنة في الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ الذين كلامهم عبادة، وصمتهم عبادة، فإن نطقوا فبما يرضي الله جل وعلا، وإن سكتوا فهم في تأمل وتدبر في آيات خلقه، فطوبى لهم وحسن مآب: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].
جعلني الله وإياكم منهم ومعهم في رضا الله تعالى ورضوانه، واسكننا الفردوس الأعلى من جناته ..
واللهمَّ إِنَّا نَسألُكَ خشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادَةِ، و نَسأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا والغضَبِ ، واللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل البقاع ، وعليك بعدوك وعدوهم ، واحفظ مصر وجميع بلاد المسلمين ..