إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة ٢٥ من شهر أكتوبر ٢٢ من شهر ربيع الثاني
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
إن ديننا الإسلامي الحنيف قد جعل نفع الناس والإحسانَ إليهم عبادةً عظيمة؛ فالله سبحانه قد أمر بالإحسان في آياتٍ كثيرة، وأخبَر أنَّه يحبُّ المُحسنين،
“والله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” [آل عمران: ١٣٤]
* والمُحسِنُ يكتَسِبُ بإحسانِه محبَّةَ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ قال تعالى: “وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” [البقرة: ١٩٥]
* وأنَّه يكونُ في معيَّةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ قال اللهُ تعالى: “وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” [العنكبوت: ٦٩] .
* للمُحسِنين أجرٌ عظيمٌ في الآخرةِ، ويكونون في مأمَنٍ من الخوفِ والحُزنِ؛ قال تعالى: “بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة: ١١٢].
* المُحسِنُ قريبٌ من رحمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ قال تعالى: “إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” [الأعراف: ٥٦].
* وأن الله يَجزي المُحسن بالإحسان، ويجزي المحسنين بالحُسنى وزيادة، “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة” [يونس: ٢٦]
* وأنه لا يضيع أجر المُحسنين، ولا يضيع أجرَ من أحسن عملاً،
* الإحسانُ إلى النَّاسِ سَبَبٌ من أسبابِ انشِراحِ الصَّدرِ:
فالذي يحسِنُ إلى النَّاسِ ينشَرِحُ صَدرُه، ويشعرُ بالرَّاحةِ النَّفسيَّةِ؛ قال ابنُ القيِّمِ: (إنَّ الكريمَ المُحسِنَ أشرَحُ النَّاسِ صَدرًا، وأطيبُهم نفسًا، وأنعَمُهم قلبًا، والبخيلُ الذي ليس فيه إحسانٌ أضيَقُ النَّاسِ صدرًا، وأنكَدُهم عيشًا، وأعظَمُهم همًّا وغَمًّا).
* الإحسانُ هو وسيلةُ المجتمَعِ للرُّقِيِّ والتَّقدُّمِ، ووسيلةُ تقَدُّمِه ورُقِيِّه؛ لأنَّه يؤدِّي إلى توثيقِ الرَّوابطِ وتوفيرِ التَّعاوُنِ.
وحينما نتكلم عن الإحسان فإننا نخاطب هذه النفوس العالية التي تترفع عن الدنايا وتعمل الخير ولا تنتظر عليه جزاءً ولا شكورًا؛ ذلك لأن الإحسان مرتبة فوق العدل، إنني لا أعاملك كما تعاملني بل أزيد عنك درجة، هذه الدرجة أمر بها المولى جلا وعلا أصحاب الهمم العالية حينما تحدث عن العقوبة وردها قال: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به” هذا هو العدل
هذا جزاء المثل بالمثل، ولكنه زاد درجة فأطمع أهل الفضل قائلًا لهم: “ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر”.
– خاطب أهل المروءة بعدم ملاقاة الإساءة بإساءة مثلها، وإلا فكيف يتميز أهل الفضل عن غيرهم فقال: “ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا” ثم يرغبّهم في ذلك البذل والعطاء، يرغبّهم في إنفاق العفو قائلًا: “ألا تحبون أن يغفر الله لكم”؟؟!! النور: ٢٢
* فالإحسانُ إذًا وسيلةٌ لإزالةِ ما في النُّفوسِ من الكَدَرِ وسُوءِ الفَهمِ وسُوءِ الظَّنِّ ونحوِ ذلك؛ فالإحسانُ إلى النَّاسِ يُطفِئُ نارَ الحسَدِ، ويدفَعُ العداوةَ.
فإطفاءُ نارِ الحاسِدِ والباغي والمؤذي يكون بالإحسانِ إليه؛ فكلَّما ازداد أذًى وشَرًّا وبَغيًا وحسَدًا ازدَدْتَ إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شَفَقةً، وما أظنُّك تُصَدِّقُ بأنَّ هذا يكونُ!! فضلًا عن أن تتعاطاه وتفعله! فاستمَعِ إذًا لقولَه عزَّ وجَلَّ: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” [فصلت: ٣٤ – ٣٦]،
وقال تعالى -موضحًا ثواب ذلك الفعل العظيم-: “أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ” [القصص: ٥٤]
هذا مع أنَّه لا بُدَّ له مع عَدُوِّه وحاسِدِه من إحدى حالتَينِ – إمَّا أن يملِكَه بإحسانِه فيستَعبِدَه وينقادَ له ويَذِلَّ له، ويبقى من أحبِّ النَّاسِ إليه، كما قال الشاعر الحكيم
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَأْسِرْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا اسْتَأْسَرَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
وَكُنْ عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذِي أَمَلٍ
يَرْجُو نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْوَانُ
– وإمَّا أن يُفَتِّتَ كَبدَه ويقطَعَ دابِرَه إن أقام على إساءتِه إليه؛ فإنَّه يذيقُه بإحسانِه أضعافَ ما ينالُ منه بانتقامِه، ومَن جَرَّب هذا عرَفَه حقَّ المعرفةِ. كما قال بشار بن برد
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
فالقاعدة واضحة والأمر بَيِّن، والجزاء من جنس العمل.
إن أوَّل المستفيدين من الإحسان هم المُحسنون أنفسُهم، يَجْنون ثَمراتِه؛ عاجلاً في نفوسهم وأخلاقِهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراحَ والسَّكينة والطُّمأنينة.
إنَّ الإحسان كالمِسْك؛ يَنفع حامِلَه وبائعه ومشترِيَه، شَربة ماء مِن بغيٍّ لكلبٍ عقور أثْمرَت دخول جنَّةٍ عرضها السَّماوات والأرض؛ لأنَّ صاحب الثواب غَفور شكورٌ، غنيٌّ حميد، جوَادٌ كريم، فلا تحتَقِرْ -أخي المُحسن- إحسانك وَجُودك وعطاءك، مهما قلَّ.
دعونا ننتقل نحن وإيَّاكم الآن بِعُقولنا ومشاعرنا إلى “طيبة” الطيِّبة زمنَ النبوَّة، بينما الصحابة جلوسٌ حول رسول الله -ﷺ- في صدر النهار، ينهلون من فيض خُلقه وعِلمه قد سُعدوا، -وحقَّ لهم ذلك-، بينما هم على هذه الحال -وما أطيبها من حالٍ- إذْ دخَل عليهم قومٌ من قبيلة مُضَر، حافيةٌ أقدامهم، قد لبسوا صوفًا مخرقًا، عباءة أحدِهم تستر بعض جسده، متقلِّدون سيوفهم، بِهم من الفقر وضيق الحال ما لا يَعلمه إلاَّ الله.
ساقَتْهم أقدامُهم إلى أكرمِ الخلق، وأرحمِ الناسِ بالناس، جاؤوا وقد أحسنوا المَجيء، وأفلحوا في الاختيار، كيف لا؟ وقد قصدوا من يلهج إلى مولاه، أن يرزقه حُبَّ المساكين، فلمَّا رآهم -صلوات ربِّي وسلامه عليه- تَمَعَّر -تغير-وجهه، ثم دخل بيته، وخرج مضطرِبَ الحال، منشغل التفكير، مهمومًا مغمومًا، فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى، ثم خطب، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: ١٨] (تصدَّق رجلٌ -أي: ليتصدق- مِن ديناره، من درهمِه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تَمره – حتَّى قال: ولو بشقِّ تمرة)، يقول جريرٌ -راوي الحديث-: “فجاء رجلٌ من الأنصار بِصُرَّة كادت كَفُّهُ تعجز عنها، بل قد عجزتا”، قال: “ثُمَّ تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله -ﷺ- يتهلَّل كأنه مذهبة”.
هنا انفرجت أساريرُ وجهِه -ﷺ- وانزاح هَمُّه، وهو يرى أبناء أمَّتِه يشعرون بحاجة إخوانهم، ويهتمُّون لِهَمِّهم، ويرسمون في صورةٍ رائعة شعورَ الجسد الواحد والأمَّة الواحدة، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- بعد أن أتى الأنصاريُّ بالصرَّة التي أثقله حملُها قاعدةً مهمَّة في هذا الدِّين، تدلُّ على سُموِّه وعلوِّه، وعظمته ويُسرِه قال: (مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنةً فله أجرها وأَجْرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووِزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم.
أنواع الإحسان
* والإحسان يكون إحسانًا إلى الغير، وهو بِمَعنى الإنعام عليه،
* والإحسان فيما بين العبد وبين ربِّه، وهو أعلى مراتب الدِّين، وقد فسَّره النبيُّ -ﷺ- بأن “تعبد الله كأنَّك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، ومعنى ذلك أنَّ العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربِه منه، وأنه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشيةَ والخوف والتَّعظيم، ويوجب النُّصح في العبادة وتحسينها وإتمامها.
الإحسان في القرآن والسنة
وقد ورد ذِكْرُ الإحسان في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالتَّقوى أو بالعمَل الصَّالِح، كلُّ ذلك مما يدلُّ على فضل الإحسان وعظيم ثوابه عند الله تعالى.
١- وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره،
٢- وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها.
وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه،
فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب،
وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب.
٣- والإحسان في ترك الحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها كما قال تعالى: “وذروا ظاهر الإثم وباطنه” [الأنعام: ١٢٠]. فهذا القدر من الإحسان فيها واجب.
٤- وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع.
٥- والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله.
٦- والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب.
أمثلة الإحسان
لقد ضرب لنا النبي ﷺ العديد من الأمثلة على مجالات الإحسان، ووضع قاعدة عامة تتعلق به في أشد المواقف في حديث أبي يعلي شداد بن أوس عن رسول الله ﷺ قال: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة -،أي: أحسنوا هيئة الذبح وهيئة القتل- وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته.” رواه مسلم
إن القتل والذبح هو إزهاقٌ للروح وإنهاءٌ للحياة فكيف يأمرنا النبي ﷺ بالإحسان في هذا المقام؟ وماذا بعد إزهاق الروح قصدًا الذي هو القتل، أو الذبح فيما يُذبح؟
وإذا كانت القضية قضية ذبح، فكيف يكون الإحسان؟
لا شك أنه من باب أولى، فإذا كان هذا مع بهيمة تذبح الآن، أو مع إنسان يستحق القتل، مجرم، ومع ذلك ينبغي أن يُحسن في طريقة القتل، إذًا الذي لا يجوز قتله من الناس، المحترم، معصوم الدم، كيف يكون التعامل معه والإحسان إليه؟ فالشريعة تراعي هذه الأمور غاية المراعاة.
* إن الإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب هو وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه من غير زيادة في التعذيب، -فإنه إيلام لا حاجة إليه-.
* إن أسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: “فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب” [محمد: ٤]،
وقال تعالى: “سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق” [الأنفال: ١٢]
وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام ودون الدماغ، ووصى دريد بن الصمة قاتله أن يقتله كذلك،
* وخرج البخاري من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النبي ﷺ أنه نهى عن المثلة. فكان النبي ﷺ إذا بعث سرية تغزوا في سبيل الله قال لهم: “لا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا”
وخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة عن النبي ﷺ: قال الله تعالى: لا تمثلوا بعبادي.
وخرج أيضًا من حديث رجل من الصحابة عن النبي ﷺ قال: “من مثل بذي روح ثم لم يتب، مثل الله به يوم القيامة.”
وخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: “أعف الناس قتلة أهل الإيمان”.
• الإحسان في القصاص
الله -تبارك وتعالى- يقول أيضًا في القصاص: “وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا” [الإسراء:٣٣].
لا يُسرف في القتل يدخل فيه صور من الإسراف في القتل منها:
– أن يقتل غير القاتل، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، يقول لك: هذا قتله واحد من عامة الناس، عامة القبيلة، لكن هذا سيد ما يكافئه إلا السيد، فلان يُقتل به، وذاك لا ذنب له، وهكذا أيضًا قد يُمثل به ويتشفى منه،
– وهكذا أيضًا قد يقتل جماعة من الناس.
** فإن قال قائل: ما تقولون في الرجل إذا زنا وهو محصن، فإنه يرجم بالحصى؛ أي: بالحجر الصغير، حتى يموت، وهذا يؤلمه ويؤذيه قبل أن يموت، فهل يعارض ذلك هذا الحديث؟
فالجواب: لا، لا يعارضه؛ لأنه يُحمَل على أحد أمرين:
الأول: إما أن يراد بإحسان القتلة ما وافق الشرعَ، وحينئذٍ يكون الرجم من إحسان القتلة؛ لأنه موافق للشرع.
والثاني: إما أن يقال: هذا مستثنى دلَّت عليه السُّنةُ.
فالزاني المحصن الذي تزوَّج وجامَعَ زوجته، إذا زنا -والعياذ بالله- فإنه يؤتى به، وتؤخذ حجارة صغيرة أقل من البيضة ومثل التمرة تقريبًا أو أكبر قليلًا، يضرب ويرجم حتى يموت،
ويتقى المَقاتل؛ يعني لا يضرب في موضع يموت به سريعًا؛ بل يضرب على ظهره وبطنه وما أشبه ذلك، حتى يموت؛ لأن هذا هو الواجب.
والحكمة من هذا أن البدن الذي تلذَّذ بالشهوة المحرَّمة، عمَّتِ الشهوةُ جميعَ بدنه، فمن الحكمة أن تعم العقوبةُ جميعَ بدنه، وهذا من حكمة الله عز وجل.
** ولننتبه إذا قُتِل الإنسان بحدٍّ، يعني قُتِل وهو زانٍ أو قُتِل قصاصًا، فإنه يصلَّى عليه، ويُدعى له بالرحمة والعفو مثل سائر المسلمين، لعل الله أن يعفو عنه ويرحمه.
** أما من قتل كافرًا مرتدًّا، فإنه لا يدعى له بالرحمة، ولا يُغسَّل؛ هذا لا يُغسَّل ولا يُكفَّن، ولا يصلَّى عليه، ولا يُدفن مع المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، ومن دعا له بالرحمة فإنه آثمٌ متَّبِعٌ غيرَ سبيل المؤمنين؛ لقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: ١١٣].
وأما القتل فيكون فيما لا يحلُّ أكلُه، فيما أُمِر بقتله، وفيما أُبيح قتلُه، ومما أُمِر بقتله الفأر، وكذلك العقرب، وكذلك الحية، وكذلك الكلب العقور، فتُقتَل هذه الأشياء، وكذلك كلُّ مؤذٍ فإنه يُقتَل.
وعند العلماء قاعدة تقول: “ما آذى طبعًا قُتِل شرعًا”، يعني ما كان طبيعته الأذى فإنه يُقتَل شرعًا،
وما لم يؤذِ طبعًا ولكن صار منه أذية فلك قتلُه، لكن هذا الأخير مقيَّد،
فلو آذاك النمل في البيت وصار يحفر البيت ويُفسِده، فلك قتلُه -وإن كان منهيًّا عنه في الأصل- لكن إذا آذاك فلك قتلُه، وكذلك غيره مما لا يؤذي طبعًا ولكن تعرض منه الأذية فاقتله إذا لم يندفع إلا بالقتل؛ فمثلًا إذا أردت أن تقتُل فأرة -وقتلُها مستحبٌّ- فأَحسِنِ القِتلةَ،
اقتُلْها بما يُزهِق روحها حالًا، ولا تؤذها،
ومن أذيتها ما يفعله بعض الناس حيث يضع لها شيئًا لاصقًا تلتصق به -مصيدة أو ما شابه-، ثم يدعها تموت جوعًا وعطشًا، وهذا لا يجوز، فإذا وضعت هذا اللاصق، فلا بد أن تكرِّر مراجعته ومراقبته، حتى إذا وجدت شيئًا لاصقًا قتَلتَه.
أما أن تترُكَ هذا اللاصقَ يومين أو ثلاثة، وتقع فيه الفارة وتموت عطشًا أو جوعًا، فإنه يُخشى عليك أن تدخل النار بذلك؛ لأن النبي ﷺ قال: (دخَلَتِ النارَ امرأةٌ في هِرَّةٍ حبسَتْها حتى ماتت، لا هي أطعَمتْها، ولا هي أرسَلتْها تأكل من خَشاشِ الأرض).
المهم أن ما يُشرَع قتلُه فاقتُلْه بأقرب ما يكون من إهلاكه وإتلافه، ومن ذلك الوزغ الذي يُسمى السام الأبرص، ويسمى البرص أيضًا، اقتله واحرص على أن تقتله بأن يموت في أول مرة، فهو أفضل وأعظم أجرًا وأيسَرُ له، وكذلك بقية الأشياء التي تُقتَل.
«شرح رياض الصالحين لابن العثيمين: (٣/ ٥٩٤- ٥٩٩)»
• الإحسان في الذبح
الذبح والنحر يكون فيما يحلُّ؛ أي: فيما يؤكل، ويكون النحر للإبل، والذبح فيما سواها،
والنحر يكون في أسفل الرقبة مما يلي الصدر،
والذبح يكون في أعلى الرقبة مما يلي الرأس،
ولا بد في الذبح والنحر من قطع الودجين، وهما العِرقانِ الغليظان اللذان يجري منهما الدم ويتوزع على بقية البدن؛ لأن النبي ﷺ قال: (ما أنهَرَ الدمَ وذكر اسم الله عليه، فكُلوا)، ولا ينهر الدمَ إلا قطعُ الودجين، فالشرط في حِلِّ المذكَّى أو المنحور أن يُقطع الودجان، أما الحلقوم الذي هو مجرى النفَس، والمريء الذي هو مجرى الطعام، فقطعُهما أكملُ في الذبح والنحر، ولكن ليس ذلك بشرط.
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، أي: إذا ذبحتم فيما يُذبح من البهائم فأحسنوا الذِّبحة، بمعنى:
* أنه لا يُعذب هذه البهيمة قبل ذبحها بجرجرتها،
* أو يذبحها وهي ترى قبلها ما يُذبح من أخواتها،
* وقد يضع السكين عليها مدة قبل أن تُذبح،
* أو يضعها على الأرض -أو وهي قائمة- والسكين أمامها،
وإنما يخفي عنها السكين، ويجعلها تشرب إذا احتاجت للشرب،
* وكذلك أيضًا يعطيها مجالاً للاسترواح، فإذا ذبح فإنه يذبح ذبحًا ناجزًا؛ بمعنى أنه لا يجرجرها ويلغلغها، بحيث إنها تتعذب،
* ويعطيها مجالاً للتحرك عند زهوق الروح،
* ثم بعد ذلك يكون هناك مجال لهذه البهيمة تتحرك وتضطرب، وهذا أسهل لها عند زهوق الروح، أمّا أن تُكتم أنفاسها ما يتحرك منها عرق فهذا غلط.
* أيضًا لا يبدأ بتقطيعها وسلخها قبل أن تموت وتخرج روحها،
* وقل مثل ذلك أيضًا بطريقة الذبح، بمعنى أنه يقطع الودجين والحلقوم والمريء، هذه أربعة أشياء قطعها جميعًا أسهل بخروج الروح، مع أنه يُجزئ قطع اثنين، لكن ذلك قد يتعبها، يعني: لو قطع أحد الودجين مع الحلقوم مثلاً هي ستموت، ولكن هذا بعد معاناة شديدة، فلو قطع الأربعة لكان ذلك أسرع في زهوق الروح، وأيسر على هذه البهيمة.
* وقد ورد الأمر بقطع الأوداج عند الذبح كما خرجه أبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس، وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه نهى عن شريطة الشيطان؛ وهي التي تذبح فتقطع الجلد، ولا تفري الأوداج”، وخرجه ابن حبان في صحيحه وعنده قال عكرمة: “كانوا يقطعون منها الشيء اليسير ، ثم يدعونها حتى تموت، ولا يقطعون الودج. فنهى عن ذلك”.
* ثم قال النبي ﷺ: (وليحد أحدكم شفرته)، الشفرة هي السكين العريضة، فإذا كانت السكين غير حادة فإن ذلك يكون تعذيبًا للبهيمة، وليرح ذبيحته، اللام هنا للأمر، ويحد: يعني يجعلها حديدة سريعة القطع، والشفرة: السكين، يعني إذا أردت أن تذبح فاذبح بسكين مشحوذة؛ أي: مسنونة، بحيث يكون ذلك أقرب إلى القطع بدون ألم. فلهذا أمر النبي ﷺ بإحسان القتل والذبح،
وخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: أمر رسول الله ﷺ بحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: “إذا ذبح أحدكم فليجهز” يعني: فليسرع الذبح.
وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها.
وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال: “مر رسول الله ﷺ برجلٍ وهو يجر شاة بأذنها، فقال رسول الله ﷺ: دع أذنها وخذ بسالفتها” والسالفة: مقدم العنق.
وخرج الخلال والطبراني من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: مر رسول الله ﷺ برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: أفلا قبل هذا؟ تريد أن تميتها موتات”؟
وقد روي عن عكرمة مرسلا خرجه عبد الرزاق وغيره، وفيه زيادة: “هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها”.
وقال الإمام أحمد: تقاد إلى الذبح قودًا رفيقًا وتُوارى السكين عنها، ولا تظهر السكين إلا عند الذبح. أمر رسول الله ﷺ بذلك أن توارى الشفار. وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها، وتعرف أنها تموت. وقال يروى عن ابن سابط أنه قال: إن البهائم جبلت على كل شيء إلا أنها تعرف ربها، وتخاف الموت.
وروى عبد الرزاق في كتابه عن محمد بن راشد عن الوضين بن عطاء أن إن جزارًا فتح بابًا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي ﷺ فاتبعها فأخذ يسحبها برجلها، فقال لها النبي ﷺ: “اصبري لأمر الله، وأنت يا جزار فسقها إلى الموت سوقًا رفيقًا” وبإسناده عن ابن سيرين أن عمر رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك قدها إلى الموت قودًا جميلًا”.
وروى محمد بن زياد أن ابن عمر رأى قصابًا -جزارًا- يجر شاة، فقال: سقها إلى الموت سوقًا جميلًا، فأخرج القصاب شفرته فقال: ما أسوقها سوقًا جميلًا وأنا أريد أن أذبحها الساعة، فقال: سقها سوقًا جميلًا.
وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية بن قرة عن أبيه: أن رجلا قال للنبي ﷺ: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي ﷺ: والشاة إن رحمتها رحمك الله”. وقال مطرف بن عبد الله: “إن الله ليرحم برحمة العصفور”.
* (وليرح ذبيحته) هذا أمر زائد على شحذ الشفرة، وذلك بأن يقطع بقوة، يضع السكين على الرقبة ثم يجرها بقوة، حتى يكون ذلك أسرع من كونه يجرها مرتين أو ثلاثًا، وبعض الناس يوفِّقه الله من مرة واحدة حتى يقطع الودجين والحلقوم والمريء؛ لأنه يأخذ السكين بقوة، وتكون السكين جيدة مشحوذة، فليسهل على الذبيحة أو المنحورة الموت.
وأن تراح الذبيحة -يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد
* ومن إراحة الذبيحة أن تضع رِجلَك على رقبتها، وتمسك الرأس باليد اليسرى وتذبح باليمنى، وحينئذٍ تكون مضجعة على الجنب الأيسر، ودع القوائم اليدين والرِّجلين ودعها تتحرك بسهولة؛ لأنك إذا أمسكت بها فإن هذا ضغط عليها، وإذا تركتها تتحرك بيدها ورجليها كان هذا أيسر لها،
وفيه أيضًا فائدة وهي تفريغ الدم بهذه الحركة؛ لأنه مع الحركة والاضطراب يتفرغ الدم أكثرَ، وكلما تفرغ فهو أحسن.
وأما ما يفعله بعض العامة من أنه يأخذ بيدها اليسرى ويلويها على عنقها، ثم يبرك على قوائمها الثلاث رجلٌ ويمسك بها حتى لا تتحرك أبدًا، فهذا خلاف السُّنة، السُّنة أنك تضع الرجل على الرقبة ثم تدع القوائم تتحرك؛ لأن ذلك أيسر لها وأشدُّ فراغًا أو تفريغًا للدم.
* وأحيانًا تجد الأسرة كاملة تجلس على هذه البهيمة، مثل الخروف، الأم والأب، والأولاد والبنات، الجميع جالس عليه من أجل أن هذا يمسك يدًا، وهذا يمسك رجلا، وهذا يمسك شعرًا، لا بد الجميع يضع يدًا فيمسك بطرف حتى إنه قد يموت قبل أن يُذبح، تكاد عيونه تخرج من العصر، أو من الخوف، أو من الضغط عليه، هذا غلط. فالمفروض كما كان النبي ﷺ يفعل حينما كان ﷺ يضع قدمه على صفحة العنق ويذبح،
* وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن صبر البهائم وهو: أن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت. ففي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ نهى أن تصبر البهائم”
وفيهما أيضا عن ابن عمر: أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله ﷺ لعن من فعل هذا”.
وخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ: أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضًا”، والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام.
وفي المسند للإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن الرمية: أن ترمى الدابة ثم تؤكل” ولكن تذبح ثم ليرموا إن شاءوا وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.