الحمد لله ذي القوة والجبروت، والقهر والملكوت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده الحي الذي لا يموت، القوي العزيز ، يعز من يشاء ، ويذل من يشاء، لا منصور إلا من نصره الله، ولا عزيز إلا من أعزَّه الله ، ونصلى ونسلم على إمام المجاهدين، وقائد المنتصرين، وعلى آله وصحبه، و من سار على نهجه واتبع هداه إلى يوم الدين .. وبعد: فإن في الحياة الدنيا منذ بدء الخليقة وحتى الآن إلى يوم القيامة صراع يدور رحاه بين الحق والباطل ، والخير والشر ، والطيب والخبيث ، ويبحث الناس عن نصرة الحق وزوال الباطل ، والتعلق بالخير والبعد عن الشر ، وقد جعل المولى جل جلاله للانتصار أسس وقواعد وقوانين لا تتبدل ولا تتحول ..
أبرهة الأشرم بعد أن استأثر بحكم اليمن، أراد أن ينال رضا ملك الحبشة، فبعث إليه قائلا: سأبني كنيسة كبيرة تعلوها قبة مزركشة، يتحدث عنها العرب والعجم، وأسماها القليس لعلوها.
وكان هدف أبرهة أن يستقطب العرب للحج إلى هذه الكنيسة بدلا من الحج إلى بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فالعرب كانوا يقدسون الكعبة ويحجون إليها قبل الإسلام، ونحن نفرط بمسرى رسول الله!.
ولما دَنَّسَ العرب هذه الكنيسة استشاط أبرهة غضبا، وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة، فمذا جرى؟ محقه الله وسحق جيشه وشتت شمله ومزق جمعه، وتلك سُنة الله لمن أراد بيته بسوء، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ومهما طغى الطغاة، ومهما تكالبت قوى الشر والبغي والعدوان في محاربة الإسلام والمسلمين، وتدنيس المقدسات وقتل الأبرياء، فإن الغلبة لهذا الدين، وستبقى فلسطين وتبقى لبنان إن شاء الله تعالى.
قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126] التركيب في هذه الآية يفيد الحصر والقصر ، أي النصر بيد الله وحده، وليس في الكون جهة تستطيع أن تمنح النصر إلا الله..
وفي آية ثالثة: يقول الله جل جلاله:(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) آل عمران/١٣.
من هذه الآيات يتبين أن النصر من عند الله، من عند الله وحده، وليس في الكون جهة يمكن أن تمنح النصر إلا من الله ..
العنصر الثاني : من أسباب النصر والتمكين تحدث القرآن الكريم عن طرف من أسباب النصر وموجبات التمكين، منها:
١- تحقيق التوحيد وإخلاص العمل لله -جل في علاه- في الجهاد و غيره من أعمال الصالحات ؛ وذلك مستفاد من قوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي يبتغي بعمله وجه الله ، لا يريد به فخرًا ولا شهرةً، ولا رياءً ولا سمعة، وإنما يبتغي بذلك نصر الله جل وعلا ونصر دينه؛ وهذا الإخلاص -عباد الله- هو أعظم موجبات النصر والتمكين ..
الطاعة والعبادة وأهمها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة..
إقام الصلاة بالمحافظة عليها بأركانها وواجباتها وشروطها وأوقاتها كما أمر الله -تبارك وتعالى-؛ فإن الصلاة -يا معاشر المؤمنين- أعظم أسباب النصر وأعظم موجبات التمكين، والله يقول: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[البقرة:153]..
إيتاء الزكاة لمستحقيها كما أمر الله بذلك طيبةً بها النفوس؛ لتزكو بذلك -عباد الله- نفوس العباد، ولتُسد حاجة الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وليكون ذلك -عباد الله- سببًا لعز الأمة وتمكنها وثباتها وقوة لُحمتها؛ فإن في أداء الزكاة من دفع الشرور وتحقيق النصر وحصول التمكين ما لا يعلمه إلا الله جل في علاه.
وإن في الإيمان بالله واليوم الآخر ، ومناصرة الأنبياء والمرسلين ومناهجهم سبب من أسباب
وتأمل -رعاك الله- كيف أكَّد الله -سبحانه وتعالى- هذا الوعد بالنصر لمن نصره ونصر دينه بمؤكدات عديدات:
بالقسم المقدَّر بقوله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)، وتقديره والله لينصرن الله من ينصره.
وباللام والنون في قوله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ)؛ فهما للتوكيد.
وبختام الآية : (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي أن من لجأ إليه ولاذ بحماه نصره جل في علاه، قال الله -تعالى-: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران:160].
وتأمل -رعاك الله- في هذا الختم لهذا السياق المبارك بقوله -جل وعلا-: (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)؛ لهذا لا ييأس المؤمن ولايقنط إذا استبطأ النصر، فإن لله -تبارك وتعالى- عاقبة الأمور.
٣-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
والأمر بالمعروف هو ما أمر الله -تبارك وتعالى- به وما أمر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من فرائض الإسلام وواجبات الدين ورغائب الطاعات المتنوعات، إصلاحًا للعباد ونصحًا لهم وحفظًا لعزهم وتمكينهم؛ فإن ذلك إنما يكون لهم بطاعة الله ولزوم شرعه جل في علاه.
والنهي عن المنكر وهو ما نهى عنه الله ورسوله..
فإن المنكرات شرورٌ على الأمة وبلاءٌ عظيم وشرٌ مستطير، وفي النهي عنها والتحذير منها صيانة للأمة وحفظ لها من عواقبها الوخيمة ونهاياتها الأليمة ومآلاتها المؤسفة..
٤- البعد عن المعاصي والذنوب..
لنعلم يا إخوة الإسلام أن خطر وضرر ذنوبنا أشد علينا من عدونا، ولا ينصرنا الله إلا بطاعتنا له وعصيان عدونا له، فإذا شاركتنا عدونا في معصيته لله سلّطه الله علينا بسبب ذنوبنا (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : 165]..
ومن هنا لا يَتِمُّ النَّصْرُ الإِلَهِي، إِلَّا بِالتَّعَافِي مِنْ جِرَاحَاتِ الذنوب وشرم المَعَاصِي! ، فإن نصرنا الله في أنفسنا وبيوتنا نصرنا الله على أعدائنا
هذه بعض أسباب النصر الإيمانية ، بخلاف الأسباب المادية التي لا غنى عنها لمن يطلب الرفعة والانتصار على الأعداء ؛
لذلك أمر الله المؤمنين بتحصيل القوة المادية بجميع معانيها وأنواعها بقدر الاستطاعة، قال الله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]، فالقوة إذا مطلب شرعي، وما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة ، ولا يفل الحديد إلا الحديد، والإٍسلام ينهى عن الضعف والمهانة، وموالاة الأعداء والتبعية لهم، ويأمر بتحصيل جميع أسباب القوة المادية والمعنوية بقدر الإمكان، فهذا الإعداد يشمل جميع أنواع القوة الإيمانية والعلمية ، والسياسية والعسكرية والاقتصادية ، والتخطيط الإعداد المسبق ، والأخذ بجميع أسباب القوة على قدر الوسع والطاقة ..
إذًا فهناك قوتان، قوة رباط الخيل والرمي اللتان تماثلهما في هذا الزمن الأسلحة والمدرعات والدبابات والقذائف والطائرات ..
وعندما أخذ سلفنا الصالح بأسباب النصر وفق منهج القرآن الكريم نشروا الإسلام في البلاد والأمصار ؛ حتى فتحوا نصف الكرة الأرضية في نحو نصف قرن من الزمان بالإسلام ، واستمروا على هذا الحال أعواما وقرونا عدة ..
وصدق القائل:
مَلَكْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا الْقُرُونَا
وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا
وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ
فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلاَ نَسِينَا
فَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى
مَضَى بِالْمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَ
وَأَصْبَحَ لَا يُرَى فِي الرَّكْبِ
قَوْمِي وَقَدْ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنِينَ
وَآلَمَنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرٍّ سُؤَالُ
الدَّهْرِ أَيْنَ الْمُسْلِمُونَ؟!..
العنصر الثالث : من صور النصر في العصر الحاضر ..
معركة السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣م العاشر من رمضان ١٣٦٣هـ عبـر الجيش المصري قناة السويس ، وحطم خط بارليف ، وألحق الهزيمة بالقوات الصهيونية، في يوم من الأيام الخالدة التي سطرها التاريخ في أنصع صفحاته بأحرف من نور؛ ففي هذا اليوم وقف التاريخ يسجل مواقف أبطال حرب أكتوبر الذين تدفقوا كالسيل العرم يستردوا أراضيهم، ويستعيدوا كرامتهم ومجدهم؛ فهم الذين دافعوا عن أرضهم وكافحوا في سبيل تطهيرها وإعزازها ، فضربوا بدمائهم المثل، وحفظوا لأنفسهم ذكراً حسناً لا ينقطع، وأثراً مجيداً لا يمحى. فبعد أن احتل اليهود سيناء الحبيبة والجولان والضفة الغربية والقدس وغزة في 5 يونيو 1967م أخذوا يتغنون بأسطورة جيشهم الذي لا يقهر، لكن مصر نجحت في أعادة بناء جيشها وجهزته بالعتاد وخيرة جنود الأرض، وبالتخطيط الجيد مع أشقائها العرب وبعض الدول الإسلامية ، وبإرادة صلبة قوية وإيمان قوي عظيم، وبخطة دقيقة محكمة فاجأت إسرائيل والعالم كله الساعة الثانية بعد الظهر، وانطلقت أكثر من 220 طائرة تدك خط بارليف الحصين ومطارات العدو ومراكز سيطرته، وفي الوقت نفسه سقطت أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة فوهة مدفعية وتعالت صيحات: الله أكبر، وتم عبور القناة واقتحام حصون العدو وتحطيمها واندحر العدو وهُزِم شر هزيمة، وتحررت أرض سيناء المباركة نتيجة لهذه الحرب المجيدة، وعادت العزة والكرامة للمستضعفين والذلة والمهانة للأعداء واضحة منذ هذا اليوم المهيب على مدى عقود من الزمان ذكرى انتصار النور على الظلام، والحق على الباطل، والتوحيد على الشرك، والطهارة والنقاء على الفحش والبغاء ..
وختاما : يعد هذا الانتصار مفخرةً مُشرقة في تاريخنا، ومجدا رائعا من أمجادنا، وسيظل أحداثه ومواقفه ، محطات فياضة بالعبر والعظات، يتوارثها الأجيال لما فيها من عزة ونصر وتمكين لعباد الله المؤمنين، وتحقيق وعد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]..
وأن هذا النصر منهج للمؤمن بالعودة للكبير المتعال ، حتى يتحقق لنا الانتصار على الأعداء ، وبشارة عما سيحدث في آخر الزمان من النصر الكامل على الصهاينة الملاعين ، يوم أن تحقق العبودية الكاملة لله ينطق الحجر والشجر كرامة لعباد الله المؤمنين… فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، قَالَ : ” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَر، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ:
وهذا دليل صحيح صريح أن الغلبة في عاقبة الأمر لعباد الله المؤمنين ، وأن هذا الانتصار الكامل سيسبقه عودة إلى الإسلام مصدر قوة المسلمين وعزتهم ، وتمسكهم بدينهم سبب ظهورهم ونصرهم ، وتمكين الله لهم واستخلافهم في الأرض من بعد عدوهم ..
نسأل الله عزّ وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه سبحانه القوي العزيز أن يوقظ الأمة الإسلامية من غفلتها وسباتها العميق ، وأن يكتب لأمة الإسلام أمة محمد عليه الصلاة والسلام العز والتمكين والنصر على الأعداء …
اللهم انصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، و انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في فلسطين ولبنان وفي كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينا وحافظًا ومؤيدا، اللهم احفظهم يا ربنا بما تحفظ به عبادك الصالحين.
واحمِ حوزةَ الدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
واحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين..
اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.