«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ الله» أو عوامل النصر في الإسلام
إعداد الشيخ/ أحمد عزت حسن
خطبة الجمعة غرة رببع الثاني ١٤٤٦هــ الموافق ٤ من أكتوبر ٢٠٢٤م
الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
فإن من تأمل القرآن الكريم -الذي أنزله الله تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين-، يجد فيه بيانًا شافيًا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته، ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها إلى عاملين أساسيين، وهما: الإيمان الصادق بالله ورسوله، والجهاد الصادق في سبيله.
ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل، والقيام بأوامره وترك نواهيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله-ﷺ، كما يتضمن أيضًا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة، ولجهاد من خرج عن الحق حتى يرجع إليه،
قال الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” [محمد:٧] وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه والجهاد لمن خالفه، ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه: “وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ” [الحج:٤٠-٤١]
وقال تعالى: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ” [الروم:٤٧]
ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله، المصدق بأخباره، المنتهي عن نواهيه، المحكم لشريعته،
أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق: فهو أيضًا من موجبات الإيمان، ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضع كثيرة من كتابه، كذلك رسوله ﷺ أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه ومسيس الحاجة إليه؛ لأن أكثر الخلق لا يردعه عن باطله مجرد الوعد والوعيد، بل لابد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل، ومتى توافر هذان العاملان الأساسيان وهما الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة كان النصر حليفها، وكتب الله لها التمكين في الأرض والاستخلاف فيها، وعد الله الذي لا يخلف وسنته التي لا تبدل.
وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين -ﷺ- فما
١- أسباب ذلك النصر؟
٢- وما السنن الإلهية للنصر؟
٣- وما عوائقه؟
أولًا: هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى النّصر، بيانها فيما يأتي:
١- الإيمان وقوّة العقيدة:
فهو المُقوِّم والسّبب الأوّل للنّصر، فقد ذكره الله -تعالى- قبل الاستخلاف، وهو مُقدّمٌ عليه، لقولهِ -تعالى-: (وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)؛ ولذلك ربط الله -تعالى- بين الإيمان والنّصر؛ فهو الذي يولِّد عند الإنسان الثِّقة بخالقه، والاعتزاز به، وهو الذي يُعزِّز الجانب المعنويّ في تحقيق النَّصر، ويُحفّز الطاقات. العبادة: تُعدُّ العبادة أحد أسباب النّصر؛ لأنَّها تُقوِّي الصِّلة بين العبد وخالقه، وتُعينهُ على التذلُلِ له، والعبادةُ تشمل جوانب الحياة كُلها، وكُلّ عملٍ يقوم به الإنسان مخلصاً فيه لله.
٢- القيادةُ الحكيمة وحسن التّدبير: لذلك اهتم الإسلام بالقيادة، وجعلها من ضروريات الحياة، كما قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)، ويجبُ على القائد التحلّي بصفاتٍ مُعيّنة تؤهلهُ للقيادة؛ كالإرادة القويّة، والقُدرة على تحمّل المسؤولية، وانظر -مثلًا- إلى غزوة بدر وقارن بين المسلمين بقيادة النبي ﷺ، والمشركين بقيادة أبي جهل:
خرج المسلمون وهم على رأيٍ واحدٍ تحت قيادةٍ واحدةٍ رحيمةٍ يقصدون هدفًا واحدًا وهو اغتنام العير، فلما أفلتت تغير الموقف فلم يَشِذ عن إجماعهم واحد
• فساروا إلى هدفٍ عظيم وهو إظهار دينهم الحق
• وفي سبيل هذا الهدف هانت التضحية ورخُصت النفس وأصبحوا بين حسنيين إما النصر أو الشهادة
أما المشركون
فقد خرجوا مفككين لا تربطهم قيادة واحدة ولا يجمعهم رأي واحد فاختلفوا على أنفسهم من قبل الخروج، وظهر التفكك مرة أخرى في صفوفهم قبل المعركة حتى تشاتم زعماؤهم فلم يدخلوا المعركة إلا والنفوس مشحونة بالضغينة، وقلوبهم شتى وقيادتهم فوضى فكانوا تحت قيادة بغير زعيم يرجع إليه الأمر واجب له الطاعة،
وإذا فرضنا أن أبا جهل كان هو القائد فقد كانت قيادة هوجاء مستكبرة عنيفة يفرض رأيه بالعنف والتسلط على من خالفه ولا يأخذ برأي ناصح أو مشير ، ولا يوقر كبيرًا ولا يرحم صغيرًا ، ولا يفكر في عواقب ما يرى ،
وهذا عكس قيادة النبي ﷺ الرحيمة المحببة إلى القلوب الذي يشاور في الأمر ويأخذ برأي الناصح إذا كان صوابًا ويسوّي نفسه بأصحابه ويردهم إلى الصواب فيما يخطئون ويتواضع لهم حتى أنه يمكن أحد الجنود من نفسه ليأخذ بحقه
وفي هذه الغزوة عرف المسلمون أن النصر من عند الله وليس بالعدد والعدة، فلا يصلح لأمةٍ بعيدةٍ عن ربها وبعيدة عن دينها أن تنتصر “وما النصر إلا من عند الله” الأنفال ١٠
وانظر كيف يمكن لعدد مثل ٣١٣ أن يغلبوا ألفًا
هذا العدد القليل معه سبعون جملًا مقابل سبعمائة مع جيش الشرك أي عشر ما مع الكفار
هذا العدد القليل معه معه فرسان مقابل مقابل مائة فرس أي نسبة ٢% لا تذكر
هذا العدد القليل خرج بسلاح المسافر أي السيف والرمح أما العدد الكبير ذي الأضعاف فقد خرج بسلاح الجيوش
فبكل المقاييس العسكرية والبشرية لا يمكن أن ينتصر هذا العدد القليل، ولكن المسلمون لا يقاتلون بالعدد ولا بالعدة بل بتوفيق الله وتأييده لهم والذي يمدهم بجندٍ من عنده ليثبتهم
٣- الإعداد:
سواءً من حيث الجانب الماديّ أو المعنويّ، لِقولهِ -تعالى-: (وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرينَ مِن دونِهِم لا تَعلَمونَهُمُ اللَّـهُ يَعلَمُهُم وَما تُنفِقوا مِن شَيءٍ في سَبيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيكُم وَأَنتُم لا تُظلَمونَ)، وهذا الإعداد قيّدهُ الله -تعالى- بالاستطاعة، وأن يكون عامّاً يشمل كُلّ ما يُتقوّى به على العدو، وأن يكون هذا الإعداد لردع الأعداء وإخافتهم، فيخاف العدو مواجهة المُسلمين ويحذر منهم.
٤- الشورى:
وهو مبدأ قرّره النبيّ -ﷺ- في مُشاورتهِ لأصحابه في مُختلف المعارك والغزوات. ومنها غزوة بدر
فقد رأى النبي ﷺ إفلات قافلة قريش منهم فتشاور مع المسلمين وأخذ رأيهم في ذلك الموقف فقام أبو بكر وعمر فقالا وأحسنا،
وقام سعد بن معاذ وقال: يا رسول الله امض لما أراك الله وإني أقول عن الأنصار: “صِل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك ما شئت وما أخذت أحبّ إلينا مما تركت، وما نكره أن تلقى بنا عدونا ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك ، فسِرْ على بركة الله”
ثم مضى النبي ﷺ حتى وصل أول ماء بدر، وكان الحُباب بن المنذر عالمًا بالمكان أي خبيرًا استراتيجيًا بالمكان فسأل الرسول عن سر اختيار هذا المكان أهو الوحي فما علينا إلا السمع والطاعة وليس لنا أن نتقدم أو نتأخر، أم أنه مجرد اختيار فللرأي فيه مجال وللفكر تصور، فقال النبي بل الرأي وليس ثمة وحي فهنا تظهر شجاعة الأفراد أمام القائد الذي يُبدي من سعة الصدر ما يعطي به الفرصة ويفتح المجال لأخذ وسماع الرأي الآخر، وهنا تبدوا لنا صورتان للنبي ﷺ
– الصورة الأولى يطلب الرأي والمشورة
– وفي الصورة الثانية يقبلها من أصحابه
فأشار عليهم – الحُباب – بأن يستحوذوا على الماء فيكونون في أقرب مكان للعدو ثم يجمعون كل هذه الأمواه في بئرٍ واحدٍ يكون تحت سيطرتهم فيملكون زمام السيطرة على الماء الذي هو عصب المعركة فيشربون ولا يشرب القوم ، فقال النبي ﷺ: “لقد أشرت بالرأي”،
وكان قبول النبي ﷺ لرأي الحُباب دافعًا وتشجيعًا للآخرين
* فقد أشار سعد بن معاذ ببناء عريشٍ يكون بمثابة غرفة عمليات يتابع من خلاله النبي ﷺ أحداث المعركة فقبل النبي ﷺ، وقام يسوّي الصفوف ويجهز رجاله.
٥- الصّبر:
لِقولهِ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقد ربط الله -تعالى- في كثيرٍ من الآيات بين الصبر والنصر.
٦- الثبات:
لِقولهِ -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَروا زَحفًا فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدبارَ . وَمَن يُوَلِّهِم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفًا لِقِتالٍ أَو مُتَحَيِّزًا إِلى فِئَةٍ فَقَد باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّـهِ وَمَأواهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصيرُ)، وهو أحد العوامل المعنويّة المهمّة في النصر.
٧- التأييد الألهي:
وهذا التأييد لا يكون إلّا للمؤمنين الذين يأخُذون بأسباب النّصر؛ كالتخطيط، والإعداد، فقد أيّد الله -تعالى- الصّحابة الكرام في غزوة بدر بإنزال المطر، وإنامتهم -أي جعلهم ينامون-؛ حتى تطمئن نفوسهم، وكذلك أيّدهم بالملائكة، والسَّكينة. الثِّقة بالله -تعالى-: والتوكُّل عليه، واللجوء إليه بالدعاء، مع الأخذ بأسباب النّصر، إضافةً إلى الإيمان التّام بأنّ النّصر من عند الله -تعالى- وحده، لِقولهِ -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ . وَمَا جَعَلَهُ الله إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ)،
بالإضافة إلى ما ورد في سورة الأحزاب من صدق المؤمنين في توكُّلهم وإيمانهم بربهم في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا).
٨- تقوى الله -تعالى- والابتعاد عن المعاصي: بالإضافة إلى الاستعانة بالله دائمًا، والاستقامة على دين الله -تعالى-، وخاصةً المُجاهدين والدُّعاة، لِقولهِ -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، فينصُر الله -تعالى- من ينصُر دينه ونبيّه، ويستقيم على أمرهِما.
ثانيًا: السنن الإلهية للنصر
إنّ للنَّصر العديد من السُّنن الإلهيّة التي وضعها الله في الكوْن، فيما يأتي ذكرها:
* النّصر من الله -تعالى- وحده، وهذه القاعدة الأُولى من قواعد النّصر، وقد أضاف الله -تعالى- النَّصر إليه في الكثير من الآيات، كقولهِ -تعالى-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ)، وبِالمُقابل نفى الله -تعالى- النّصر عن غيره مما يُعبد من دونه، أو من أيِّ أحدٍ سواه؛ كتأييد الله -تعالى- لعباده المؤمنين في غزوة بدر، إشارةً منه إلى أنَّ النّصر منه ومن عنده وحده -عزّ وجل-
* النّصر وعدٌ إلهيّ لا يتحقّق إلّا بمشيئة الله -تعالى- وإراداته، وينبغي الإيمان بذلك واعتقاده، لِقولهِ -تعالى-: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وهذه المشيئة مُرتبطةٌ بِشروطٍ والتزاماتٍ من المُسلمين؛ حتى يتحقّق النّصر لهم، فيجبُ عليهم الوفاء بها؛ كالإيمان والتقوى، وكذلك نصرهم لدينه وشرعه، وغير ذلك من أسباب النّصر، وجاءت العديد من هذه الالتزمات صراحةً في قولهِ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ).
* النّصر له تضحياتٌ وثمنٌ، فالنصر لا يتحقّق من غير مُقابل؛ كالصبر، لِقولهِ -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ).
* الإيمان بأنّ الأسباب الماديّة وحدها لا تكفي لتحقيق النّصر، مع عدم التقليل من أهمية ذلك أيضًا.
أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد
ثالثًا: عوائق النصر
فإذا كان للنصر أسبابًا يجب الأخذ بها لتحقيقه، فإن هناك عوائقًا لهذا النصر يجب الحذر منها
فإنّ للنّصر العديد من العوائق التي تقف أمام تحقيقه، منها ما يأتي:
١- عدم تحقيق الأسباب المؤدّية إلى النّصر، وهي التي تمَّ ذكرها في فيما سبق.
٢- المعاصي والذّنوب، وهي من الأسباب الرئيسيّة المؤديّة للهزيمة، وقد ذكر الله -تعالى- في بعض الآيات السّبب من إهلاكه للأُمم السّابقة، كما ورد في قوله -تعالى-: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)، فالمعاصي والذنوب تؤدي إلى العذاب والهلاك.
٣- التنازُع والتّفرقة؛
ولذلك حثَّ الإسلام على الوحدة، والتَّعاون، والتَّماسك بين أفراد المُجتمع المُسلم، لِقولهِ -تعالى-: (وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا وَتَذهَبَ ريحُكُم).
٤- الاغترار بعدد الأعداء،
وقد ذكر الله -تعالى- بُطلان هذه الفكرة، وعالجها عند الصَّحابة الكرام في قوله -تعالى-: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
٥- البَطَر والرِّياء،
مما يُساعد على الاعتماد على النّفس، والقِوى الماديّة، مع تناسي أنّ النَّصر من عند الله -تعالى- وحده. انتشار النِّفاق والمُنافقون في صفوف المسلمين، وذلك من خلال إحباطهم وتثبيطهم للمؤمنين وعزائمهم.
٦- حُبُّ الدُّنيا، ومُخالفة الأوامر الشرعيّة، وظهر ذلك في غزوة أُحد عند مُخالفة الرُّماة لأمر النبيّ -ﷺ-، وكذلك يوم حُنين عندما أُعجب المؤمنين بكثرتهم، وقد ورد ذلك في قولهِ -تعالى-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ . ثُمَّ يَتُوبُ الله مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ والله غَفُورٌ رَحِيمٌ).
٧- عدم وُضوح الهويَّة الإسلاميّة،
فالنَّصر من الله -تعالى- يكون بتطبيق شرعه، ولا بُدَّ أن يكون ذلك واضحاً في الأُمّة.
٨- التَّرف والرُكون إلى الدُنيا، لِقولهِ -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وهذه النُقطة تقود إلى نقطةٍ أُخرى وهي ترك الجِهاد، نتيجةً للترف والانغماس في الدُنيا، والابتعاد عن الإعداد والأخذ بأسباب النّصر.