خطبة بعنوان (التفوق العلمي وأثره في تقدم الأمم) للدكتور مسعد الشايب

((التفوق العلمي وأثره في تقدم الأمم)) (مزيدة ومنقحة)

الجمعة الموافقة 21 من ذي القعدة 1442هـ الموافقة 2/7/2021م

الجمعة الموافقة 15 من ذي الحجة 1445هـ الموافقة 21/6/2024م

الجمعة الموافقة 24 من ربيع الأول 1446هـ الموافقة 27/9/2024م

===========================================

أولا: العناصر:

1. إعلاء الإسلام من شأن العلم والعلماء.

2. دعوة الإسلام لتعلم العلوم الكونية، وأدلة ذلك.

3. الخطبة الثانية: (التفوق العلمي وبعض آثاره الحسنة).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، هدانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، قال، وقوله الحق: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحانه سبحانه أعلى شأن العلم والعلماء، ورفعهم فوق الخلق والفضلاء، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي الأميّ الكريم، الذي علًم جميع العلماء والمتعلمين، فاللهم صلْ وسلمْ وباركْ عليه، وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأزواجه، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين، ثم أما بعد:

===========================================

(1) ((إعلاء الإسلام من شأن العلم والعلماء))

أيها الأخوة الأحباب: من محاسن شريعتنا الإسلامية الغراء؛ أنها جاءت معليةً من شأن العلم والعلماء، داعيةً أتباعها إلى الاهتمام بهما، والإعلاء من شأنهما، وذلك بطرقٍ متنوعة، وأساليب متعددة، يدرك تلك الحقيقة من تأمل في كتاب الله (عزّ وجلّ) وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، من هذه الطرق، وتلك الأساليب:

=====

ما كان في أول آيات قرآنية نزلت على قلب نبينا (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت أولُ آياتٍ من القرآن الكريم داعية إلى التعلم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:1ـ5].

فالقراءة وتعلمها، وإتقانها، وحبّها، والميل إليها، والمواظبة عليها؛ هي أولُ مفتاحٍ من مفاتيح العلم، فلا يوجد في العالم أجمع أميٌ عالم إلا أُميّا واحدًا علم جميع العلماء، وهو سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113]، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء……………..

=====

ما كان من قسم الحق سبحانه وتعالى بأدوات العلم والتعلم، فيقول: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، الحق تبارك وتعالى أقسم في تلك الآية بثلاثة أشياء من لوازم العلم والتعلم، فيقسم بالحرف (ن) أولا، وهو أحد الحروف الأبجدية التي لا بد من إتقانها في عملية التعلم، وفي تفسيره ثمانية أقوال ليس هنا مجالُ عرضها، ويقسم ثانيًا (بالقلم) وهو الأداة المعروفة لكتابة ما تعلمناه من الحروف، ويقسم ثالثًا بالشيء الذي نكتبه ونسطره، ونعبر به عن أفكارنا وتوجهاتنا إذا كان في مرضات الله ورسوله، وهذا هو المراد بكلمة: (وما يسطرون)، وكل ذلك إعلاء لشأن العلم والتعلم، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من جعل العلم طريقًا للإيمان، فيقول سبحانه وتعالى في تعداد من شهدوا له بالوحدانية: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18]، فبدأ تعالى بنفسه، وثنى بالملائكة، وثلث بأرباب العلم، وقال تعالى مادحًا العلماء من اليهود بعد أن ذكر العديد من أوصاف اليهود السيئة، ومبينًا أن العلماء منهم هم المؤمنون به (صلى الله عليه وسلم): {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:162]، ويقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر:28]، والخشية هي لبّ الإيمان وروحه، ويقول تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19]، فالعلم هو طريق الإيمان، وهذا إعلاء من شأنه، وشأن العلماء، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من إباحة الإسلام أكل صيد وذبيحة الجوارح المعلمة والمدربة على الصيد (كالصقور والكلاب) شريطة ألا تأكل منها، بينما حرم أكل صيد وذبيحة الجوارح الغير معلمة، الغير مدربة، فيقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة:4]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ…)(متفق عليه)، وهذا إعلاء لشأن العلم أيضًا، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من الإخبار بخضوع سادات الخلق الثلاثة: الأنبياء، والملائكة، والملوك للعلم والعلماء: أما الأنبياء وخضوعهم للعلم والعلماء: فيتمثل في قصة موسى والخضر (عليهما السلام)، حيث طلب موسى (عليه السلام) من الخضر(عليه السلام) أن يتبعه على أن يعلمه مما علم، قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام): {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66].

==

أما الملائكة وخضوعهم للعلم والعلماء: فيتمثل في إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) بسبب تعلمه الأسماء كلها، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ*وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:31ـ34].

==

أما الملوك وخضوعهم للعلم والعلماء: فيتمثل في قصة يوسف (عليه السلام) وخضوع ملك مصر له، قال تعالى على لسان ملك مصر: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ*قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ*وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:54ـ56]، وهذا إعلاء لشأن العلم والعلماء، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من نفي المساواة بين مَنْ يعلم ومَنْ لا يعلم، فيقول سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:9]، ولعل تفسير تلك الآية هو قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[المجادلة:11]، قال (صلى الله عليه وسلم): (…فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ…)(رواه الترمذي)، وفي رواية: (مِائَةُ عَامٍ)(رواها الترمذي)، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من مخاطبة الحق سبحانه وتعالى لنبينا (صلى الله عليه وسلم) آمرا إياه بالاستزادة من العلم، فيقول سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، فإذا كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) الذي شرح الله له صدره، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم فما بالك أنت أيها العبد الضعيف؟، أيضًا من طرق الشريعة الإسلامية في الإعلاء من شأن العلم، والعلماء:

=====

ما كان من نبينا (صلى الله عليه وسلم) حيث جعل تعليم الكتابة فداء لأسرى بدر ممن لا يجدون الفداء، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ…)(مسند أحمد).

===========================================

(2) ((دعوة الإسلام لتعلم العلوم الكونية، وأدلة ذلك))

===========================================

هذا العلم الذي أعلى الإسلام من شأنه لا يقتصر على العلوم الدينية وحسب كما يعتقد ويظن بل ويدعو لاعتقاد ذلك كثيرٌ ممن ينتسبون للإسلام، فالشريعة الإسلامية أعلت شأن كل علم نافع فيه خيرٌ ونفعٌ وصلاحٌ للبشرية، والأدلة على ذلك كثيرة ومتعددة، بعضها واضحٌ وصريحٌ، وأغلبها يحتاج إلى إعمال عقل وفكر، كالآتي:

=====

الأمر بأخذ الحظ والنصيب من الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، فالإسلام هو دين الوسطية، ومن وسطيته العمل للدنيا كما نحن مطالبون بالعمل للأخرة، والآية واضحة في أن العمل في الدنيا هو سبيل للدار الاخرة ونعيمها ومتعها بشرط حسنه وصلاحه، وبعده عن الفساد، ومن العمل للدنيا تعلم العلوم الكونية التي فيها نفع وخير وصلاح البشرية، كالطب، والهندسة، والزراعة، والاقتصاد، والعمارة، والسياسة…الخ.

=====

الدعوة إلى عمارة الأرض، قال تعالي على لسان نبيه صالح (عليه السلام): {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61]، أي: طلب منا عمارتها، واستخراج كنوزها وخيراتها، وإحياء مواتها، وهذا لن يتحقق بالعلم الديني فقط، ولن تتأتى لنا عمارة الأرض إلا بتعلم العلوم الكونية، والواقع يصدق ذلك، فبمقارنة بسيطة بين دنيا الناس اليوم، والعالم منذ مائتي عام مثلًا نجد فرقًا شاسعًا في عمارة الأرض أحدثته العلوم الكونية اليوم، وكلما زدنا فيها ومنها تعلمًا وعلمًا كلما زادت العمارة للأرض، وزاد النفع للبشرية جمعاء.

=====

الدعوة إلى حفظ الأبدان، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:195]، وقال تعالي: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)(رواه ابن ماجه)، وحفظ الأبدان مقدمٌ على حفظ الأديان كما هو معلومٌ من أمر الكليات الخمس، وحفظ الأبدان كما يتأتى بالعلم الديني، فهو لا يكمل إلا بالعلوم الكونية، فالأبدان تحتاج إلى علم يتابع صحتها، ويحفظ عليها قوتها، وفي حاجة لعلم يوفر لها غذائها وخصوصًا عند النوازل والمجاعات، وفي حاجة من يشيد لها مسكنها…الخ، وكل ذلك مرده إلى العلوم الكونية.

=====

ما تحدث عنه القرآن الكريم من الأعمال الكونية، والتي تستلزم تعلم العلوم الكونية، منها على سبيل المثال نموذج ذي القرنين الرجلِ الصالحِ الذي وجد قومًا بين سدين، فقالوا له: {يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}[الكهف:94]، فردّ عليهم ذو القرنين مستعينًا بالله، وداعيًا لهم إلى الإيجابية والعمل معه والتفاعل مع مشكلاتهم، فقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}[الكهف:95]، ثم قال لهم راسمًا خطة العمل مبينًا إتقانها وإحكامها: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}[الكهف:96]، فقد أمرهم بوضع قطع (زُبَرَ) الحديد والحطب والفحم بعضَها على بعضٍ حتى ساوى بين طرفي (الصدفين) الجبلين، ثم أمرهم بإشعال الحطب والفحم حتى صار الحديد نارًا، ثم أمرهم بإحضار النحاس المذاب (قِطْرًا) فقام بإفراغه وصبّه على الحديد المشتعل نارًا، فصار النحاس مكان الفحم والحطب بعد أن أكلتهما النار، ولزم النحاس الحديد كأنهما شيء واحد، ولذا يقول القرآن: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:97]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} يتسلقوه من فوقه لطوله وملاسته، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله لشدته ولصلابته، وذلك لإتقانه وإحكام صنعه، فقد كان ارتفاعه مائتي ذراع (100م تقريبًا عمارة مكونة من 30 دور تقريبًا)، وعرضه خمسون ذراعًا، والسير بحذائه فرسخ (5400 متر تقريبًا)، فهذا نموذج لفن العمارة والهندسة أحد العلوم الكونية.

==

وانظروا إلى تخطيط يوسف (عليه السلام) وإلى اقتصاده، وخطته السبعية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ*يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ*قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:45ـ49]، فيوسف (عليه السلام) قدم الحلول لتلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ستضرب مصر، معلمًا الجهاز الإداري والحكومات في العالم أجمع التخطيط للمستقبل، والاستعداد للكوارث والنوازل قبل وقوعها، وهذا نموذج للاقتصاد والسياسة أحد العلوم الكونية.

=====

ما تضمنه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من الإشارات العلمية للعلوم الكونية، وكشف عنها العلم الحديث فيما بعد، كأطوار خلق الإنسان، والعلاج بالحبة السوداء، والعلاج بالحجامة، والأمر بتغطية الآنية…الخ، وكالإشارة إلى أن مراكز الإحساس البشري في جلد الإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:56]، وكالإشارة إلى قلة (الأكسجين) كلما علونا في طبقات السماء في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[الأنعام:125]، وكالإشارة إلى الآليات الستة عشر لخروج الماء من جسد الإنسان، وعدم الاحتفاظ به مطلقًا، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[الحجر:22]، وكالإشارة إلى ظلام قاع المحيطات في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور:40].

=====

حث النبي (صلى الله عليه وسلم) وتشجيعه على تعلم بعض العلوم الكونية، فعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه)، أمرني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي). فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له، إذا كتب إليه. (رواه أبو داود)، وعن طلق بن علي (رضي الله عنه) قال: جئت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم فأخذت المسحاة (الفأس) فخلطت الطين، فكأنه أعجبه عملي فقال: (دَعُوا الْحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أَضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ)(رواه أحمد)، وفي رواية: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟. قال: (لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ, فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ)(سنن الدارقطني).

=====

إخباره (صلى الله عليه وسلم) أن المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، قال (صلى الله عليه وسلم): (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ…)(رواه مسلم)، ولا شك أن الأمة المتسلحة بالعلوم الكونية بجانب العلوم الدينية خيرٌ وأحبُّ إلى الله ممن اقتصرت على العلوم الدينية فقط، ولا شك أن تعلم العلوم الكونية داخلٌ في قوله (صلى الله عليه وسلم): (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ،)، ولاشك أن قوله (صلى الله عليه وسلم): (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ) دعوة للتفوق في العلوم الكونية، والتنافس مع الأمم الأخرى في تعلمها.

عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.

===========================================

(الخطبة الثانية)

((التفوق العلمي وبعض آثاره الحسنة))

===========================================

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

=====

أيها الأحبة الكرام: رأينا كيف دعا الإسلام إلى تعلم العلوم الكونية، ورأينا دعوته إلى التفوق فيها، ومما يدفعنا إلى هذا التفوق العلمي ما نلمسه من آثاره الحسنة على الأمم، بل والعالم أجمع، كالآتي:

=====

التفوق العلمي سببٌ من أسباب القضاء على المشكلات التي تواجه البشرية، وبالتالي زيادة الراحة والرفاهية، ولنأخذ علمًا واحدًا من العلوم الكونية ولنرى أثره على البشرية قديمًا وحديثًا ألا وهو علم الطب، فكلما زاد تطوره واكتشافاته كلما كان ذلك فيه راحةٌ وإسعادٌ للبشرية، وقد كانت البشرية قديمًا تحار في علاج الإنفلونزا، والجدري وبعض الأمراض البسيطة اليوم، وها قد أضحت البشرية بسبب علم الطب اليوم تستبدل الكبد المصاب بكبدٍ أخر، وتجري عمليات القلب المفتوح، وتقوم بزراعة الكلى، وتتجنب الأمراض المستقبلية بسبب علم الجينات والوراثة…الخ.

==

ولنضرب مثالًا على وطننا الحبيب مصر، فمن المعروف أن مصر تواجه نقصًا حادًا في المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، والزراعي، وبفضل التفوق العلمي استطاعت تحلية مياه البحر، واستطاعت تدوير المياه الغير صالحة للاستخدام حوالي أربع مرات، واستطاعت استنباط محاصيل زراعية لا تحتاج لمياه كثيرة، واستطاعت استخدام الأساليب الحديثة للري…الخ.

=====

التفوق العلمي من أسباب حسن استغلال الموارد والثروات للبلدان والأوطان، وحسن إدارتها، بالإضافة إلى زيادة الإنتاج، والناتج المحلي…الخ، ولنضرب مثالًا على ذلك بالدول الإفريقية المتعددة، فالكثير منها يملك ثروات طبيعية وموارد لا حصر لها، ومع ذلك يعيش أتباعها ورعاياها تحت خط الفقر والعوز والحاجة، وما ذلك إلا بسبب التأخر العلمي فضلًا عن تفشي الجهل، وانعدام التعليم من أساسه.

=====

التفوق العلمي والاهتمام بالعلم والعلماء، هو أهم أسباب تقدم الدول والأوطان، لما فيه من زيادة الإنتاج، والقضاء على المشكلات، وحسن استغلال وإدارة الموارد والثروات كما تقدم، فلولا التفوق العلمي للولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والدول الأوربية…الخ، واهتمامها بالعلم والعلماء، ما أصبحت هذه الدول في مصاف الدول المتقدمة بل لها المكانة الأولى بينها.

=====

التفوق العلمي سببٌ من أسباب الانبهار والاحترام، سواء أكان على مستوى الدول والمجتمعات، أم على مستوى الأفراد والأشخاص، ولذا رأينا الدول المتقدمة المهتمة بالعلم والعلماء تسارع إلى اختطاف كل نابغة من نوابغ العلوم الكونية، ومحاولة السيطرة عليه، وإغرائه بكل السبل ليكون من رعاياها، والانتفاع بخدماته على تراب أرضها.

=====

التفوق العلمي وما يترتب عليه من تقدم، والقضاء على المشاكل الاجتماعية، وحسن استغلال وإدارة الموارد…الخ من أسباب ملك الكلمة والحرية، ويقطع الهيمنة والتسلط واستغلال الثروات والموارد من جانب بعض الدول على الدول الضعيفة علميًا، والأمثلة كثيرة لا حصر لها، والواقع يصدق ذلك، ونظرة بسيطة لقارتنا الإفريقية وللعديد من دولها، بل ولبعض الدول الأسيوية، واللاتينية ندرك هذه الحقيقة.

===========================================

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به خاشعين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم،

اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.