خطبة بعنوان : العلم سبيل تقدم الأمم ورفعتها
adminaswan
22 سبتمبر، 2024
د/ محمد جاد قحيف
31 زيارة
بقلم د/ محمد جاد قحيف
من علماء الأزهر والأوقاف
الحمد لله أحاط بعلمه جميع الكائنات، وحوى سلطانه الأرض والسماوات، يحيي القلوب بنور العلم كما يحي الأرض بالمطر بعد الموات..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم الخفيات ، وبارئ البريات ، المطلع على السرائر والنيات ..
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه
وبعد: ففي هذه الأيام يستقبل أولادنا عاماً دراسياً جديدا ، يقضونه بين أروقة المدارس والمعاهد والجامعات؛ لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة،
على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجعهم على ذلك ويدفعهم أولياء أمورهم، والقائمون على تدريسهم؛ من مربين ومدرسين؛ الذي يقع عليهم العبء الأكبر في تربية الناشئة التربية الإسلامية الهادفة، التي تعود عليهم بالنفع في دنياهم وأخراهم، ولا يتم ذلك إلا بالتعاون الجاد بين البيت والمدرسة، وقيام كل منهما بما له وما عليه تُجاه أبناء المسلمين.
وفي عصرنا تفجرت ينابيع المعرفة والاكتشافات، وأورثت تلك العلوم والمعارف تفوقًا سياسيًا وصناعيًا رافقه نتاج فكري وأدبي غزير، نقلت البشر إلى حال من الرفاهية جديد، وسيدت تلك العلوم أربابها، ومكنتهم من بسط نفوذهم على كثير من البلاد احتلالاً واستعمارًا، وأدرك المغلوبين ما يدرك المهزوم عادة مما قرره أهل التاريخ والاجتماع، من أن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وعوائده وسائر أحواله، وكان الظهور لغيرنا بسبب ضعف المسلمين في هذا الزمان في أمور دينهم ودنياهم، وأصيب كثير من المسلمين في قناعاتهم وذواتهم..
العنصر الأول : دين الإسلام يدعو للاجتهاد وطلب العلم ..
لقد رغب الإسلام في طلب العلم، وحث علي الاجتهاد والتفوق العلمي، ولا أدل علي ذلك من أن أول قضية تناولها القرآن الكريم هي قضية العلم، وأول أمر سماوي نزل به الوحي هو الأمر بالقراءة التي هي مفتاح العلم ، وأهم أدواته ..
قال تعالى:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ كما سميت سورة كاملة في القرآن الكريم باسم “القلم”،
فأقسم الله تعالى بالقلم وهو من أدوات العلم ، والسطور والكتاب ، والصحف ، وذلك لبيانِ فضلِهِ وعُلُوِّ رُتْبَتِهِ وبدأها الحق بقوله : ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم:1]..
وأهل العلم هم أهل البصائر أنار الله بصيرتهم فهم يرون ما لا يراه الناس، وقد قال أهل العلم في زمان قارون: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].
وأهل العلم أيضا هم أهل الخشية من الله تعالى قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ (فاطر: 28)، وهم كذلك أهل الشهادة مع مولاهم والملائكة الكرام، قال الله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران:18].
ومن فضائلِ العلمِ وبركاتِهِ أنه لا مقارنة بين أهل العلم وفاقديه ..
قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]،
وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلم النَّافعَ، في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنما أنَا قاسِمٌ واللهُ يُعْطِي، ولن تزالَ هذه الأمةُ قائمةً على أمرِ اللهِ لا يَضُرُّهم مَن خالفهم، حتى يأتيَ أمرُ اللهِ” (صحيح البخاري )..
وطريق طلاب العلم هو طريق الجنة ونعيمها في الدنيا والآخرة ، ومع ذلك فإن مجالس العلم مظان السكينة والرحمة ونزول الملائكه ..
قال ﷺ: ” مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طريقًا إلى الجنَّةِ، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ، يَتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويَتدارسونَهُ بينَهُم، إلَّا حفَّتهمُ الملائِكَةُ، ونزَلت عليهمُ السَّكينةُ، وغشيتهمُ الرَّحمةُ، وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فيمن عندَهُ، ومن أبطأَ بِهِ عملُهُ لم يُسرِعْ بِهِ نسبُهُ ” (أخرجه ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ)..
قال الإمام أبو حامد الغزالي (رحمه الله): عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
“إنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى ، وَنُورُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ ، يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ ، وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَالْفِكْرَةُ فِيهِ تُعْدَلُ بِالصِّيَامِ ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ ، وَبِهِ يُطَاعُ وَيُعْبَدُ ، ويوحد ويمجد ، وَبِهِ يُعْمَلُ وَيُحْفَدُ ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَيُؤْجَرُ ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ ، وَيُعْرَفُ الْحَلالُ مِنَ الْحَرَامِ ، العلم إِمَامُ الْعَمَلِ ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ ” . إحياء علوم الدين .
العِلْمُ يَجْلُو الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهِ *** كَمَا يُجلِّي سوادَ الظُّلْمَةِ القَمَرُ
فَلولا العِلْمُ ما سَعِدَتْ نُفُوسٌ *** ولا عُرِفَ الحَلالُ ولا الحَرامُ..
ويكفي العلم شرفـًا أن الله عزّ وجل لم يؤمر نبيه ﷺ بطلب الاستزادة من شيءٍ سِوى العلم، فقد قال -عزّ من قائل-: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه /١١٤.
علي أننا نؤكد أن التفوق العلمي الذي رغب فيه الإسلام ليس مقتصرًا على التفوق في ميدان العلم الشرعي فحسب، وإنما يشمل كل علم ينتفع الناس في شئون دينهم، وشئون دنياهم؛ ولذلك فقد جاء قول الله تعالى : ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ في معرض الحديث عن العلوم التجريبية التي تخدم الأغراض الدنيوية ، كالعلوم الكونية، والإنسانية ، والكيميائية ، والبيولوجية ، والجلوجية، والفسيولجية ، والسكيولجية .. ؛ حيث يقول سبحانه ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.
منذ اليوم الأول لوجود الإنسان وعلى مرّ الأزمان، تفرع العلم وتشعب وانقسم وتعدد، إلا أنه يمكن إدراج العلم تحت قسمين رئيسين هما: علم الشريعة والدين، وعلم الطبيعة والتجريب، وتجاذَب هذين العلمين البشرُ على مر العصور، فيأخذون من هذا ويأخذون من ذاك، ويشتغلون بهما أو بأحدهما، وفي العصور الماضيات كانت علوم الشرائع والأديان هي المقدمات لدى الأمم، وأهلها من الأحبار والعلماء هم خواص الملوك وجلساؤهم، وهم أهل الرأي والمشورة فيهم، وبقدر قرب الولاة والعلماء يكون قرب الأمة من شريعتها، وبقدر تباعدهم يكون بعد الأمة عن شريعتها، وقد تجلّى هذا التقارب والتمازج في القرون الأولى من عمر أمة الإسلام، فهديت ورشدت وتبعت تلك النهضة الدينية نهضة دنيوية، تطورت على إثر ذلك علوم تجريبية كثيرة، ويكاد يكون هذا الأمر مضطردًا؛ إذ كل نهضة دينية راشدة في تاريخ الإسلام تعقبها نهضة دنيوية..
وإن كل ميدان من ميادين الحياة له ارتباط وثيق بالدين، ولا انفصال بين الدين والحياة، وإننا في حياتنا نحتاج إلى التاجر والمزارع والطبيب والمهندس والمدير ، وكل هؤلاء يحتاجون إلى العلم والعلماء، وإن الناس إذا استغنوا عن العلماء ورثة الأنبياء أو خرجوا عن طاعتهم، لم يفسد دينهم فحسب، بل يفسد دينهم ودنياهم على حد سواء..
إن التفوق العلمي في شتي المجالات من أهم عوامل بناء الحضارات واستمرارها ولله در القائل: بِقُوَّةِ الْعِلْمِ تَقْوَى شَوْكَةُ الأُمَمِ *** فَالْحُكْمُ فِي الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ..
ومن هنا يعتبر العلم أساساً متينا في بناء الدول وبدونه كيف تُبنى الدول وتتقدم ؟ .
لقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يجوبون الأرض شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا لطلب العلم ، ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ..
أورد الإمام الذهبي عن هشام بن عمار قال : “باع أبي بيتا له بعشرين دينارا، وجهزني للحج. فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها. فأتيته، وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم. فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث: سل عن ما معك؟ فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا؟ فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام احمله. فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين ..
وعن صالح بن محمد الحافظ: سمعت هشام بن عمار، يقول: دخلت على مالك، فقلت له: حدثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا. بل حدثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لم ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير ذنب ولا جرم، لا أجعلك في حل، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا. فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث، فضحك مالك رضي الله عنه” ( سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي)..
العنصر الثاني : تقدير الإسلام لأهل العلم والعلماء..
إن للعلماء في الإسلام مكانة عليا ، ومنزلة سميا، والعلماء شامة في جبين الدهر ، ودرة على وجه التاريخ ..
قال تعالى:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾المجادلة /١١. والعلماء في الإسلام كمثل المصابيح التي يُهتدى بها في ظلام الدجى، ومثل الناس في هذه الدنيا ومثل العالم الذي يبيِّن للناس طريق الله -تعالى- وطريق النجاة، كمثل أناس كانوا يسيرون في ليلة شديدة الظلام في وادٍ فيه سباع وهوام، فلا يدري الواحد منهم من أين يؤتى؟ ثم جاءهم من يحمل مصباحًا أضاء لهم الطريق فاتبعوه حتى أخرجهم من هذا الوادي.(ملتقى الخطباء).
ويقول النبي ﷺ: “الدُّنيا مَلعونةٌ، مَلعونٌ ما فيها ؛ إلَّا ذِكْرُ اللهِ و ما والاهُ، و عالِمًا و مُتعلِّمًا” (أخرجه المنذري بصيغة التصحيح)..
وقد بين نبينا ﷺ أن أهل العلم هو ميراث الأنبياء في إرشاد الناس، وهدايتهم، والأخذ بناصيتهم إلى طريق الحق والنور، والتقدم والرقي،
وَالْمَالُ مِيرَاثُ الْمُلُوكِ وَالأَغْنِيَاءِ..
قال ﷺ : (إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ) ..
وعن صفوان بن عسالٍ رضي الله تعالى عنه قال:
” أتيتُ النبيَّ و هو في المسجدِ مُتَّكيءٌ على بُرْدٍ له أحمرَ، فقلتُ له: يا رسولَ اللهِ ! إني جئتُ أَطلبُ العلمَ، فقال: مرحبًا بطالبِ العلمِ، إنَّ طالبَ العلمِ تحفُّه الملائكةُ وتُظلُّه بأجنحَتِها، ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدُّنيا”.(أخرجه المنذري بصيغة التصحيح).
وَعَنْ عَلَيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: “كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهِ مَنْ لا يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ إِذَا نُسِبَ إِلَيْه، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ”.
وعنه رضي الله تعالى عنه قال :
ما الفضل إلا لأهل العلم أنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وضد كل امرئ ما كان يجهله
والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ففز بعلمٍ تعش حيَّاً به أبداً
الناس موتى وأهل العلم أحياءُ
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: “يوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء”.
وعن الدرداء رضي الله عنه قال:”كن عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالثة فتهلك”..
إخوة الإسلام بالعلماء صلاح الدنيا؛ لأنه لا انفصال بين الدين والدنيا.. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- : «الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس».
وعنه رضي الله عنه قال:
“لا شَيْءَ يَعْدِلُ الْعِلْمَ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ تَصِحُّ نِيَّتُهُ؟! قَالَ: أَنْ يَنْوِيَ بِهِ رَفْعَ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَرَفْعَ الْجَهْلِ عَنْ غَيْرِه”..
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” لَمَوْتُ أَلْفِ عَابِدٍ قَائِمٍ اللَّيْلَ صَائِمٍ النَّهَارَ أَهْوَنُ مِنْ مَوْتِ الْعَاقِلِ الْبَصِيرِ بِحَلالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ”
وقال كميل بن زيادٍ:« أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالكوفة ..
وقال يا كميل إن هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها للعلم احفظ عني ما أقول ، الناسُ أصناف ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ
يا كميل العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق .. العلم حاكم والمال محكوم عليه ،
بيا كميل مات خزان المال والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة »(تاريخ دمشق لابن عساكر)..
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ” خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها “.
والأرض تحيا إذا مـا عاش عالمهـا *** متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلف ..
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لإِبْلِيسَ: يَا سَيِّدَنَا مَا لَنَا نَرَاكَ تَفْرَحُ بِمَوْتِ الْعَالِمِ مَا لا تَفْرَحُ بِمَوْتِ الْعَابِدِ؟ فَقَالَ: انْطَلِقُوا، فَانْطَلَقُوا إِلَى عَابِدٍ قَائِمٍ يُصَلِّي، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ، فَانْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي جَوْفِ بَيْضَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَالَ: أَتَرَوْنَهُ؟ كَفَرَ فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى عَالِمٍ فِي حَلْقَةٍ، يُضَاحِكُ أَصْحَابَهُ وَيُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: أَنَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ، فَقَالَ:سَلْ، فَقَالَ: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي جَوْفِ بَيْضَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: يَقُولُ لِذَلِكَ إِذَا أَرَادَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَتَرَوْنَ ذَلِكَ؟ لا يَعْدُو نَفْسَهُ، وَهَذَا يُفْسِدُ عَلَيَّ عَالَمًا كَثِيرًا ] (يوسف بن عبد البر القرطبي / جامع بيان العلم وفضله) ..
ومن هنا يجب أن يعرف للعالم أو المعلم العامل قدره، وأن يوقر لله ولما يحمله من علم ، والحذر كل الحذر من التهوين من شأنهم لدى العامة فقد حوى صدره علم الشريعة، وقلبًا ملئ خشية وإيمانًا، وكهلاً أفنى عمره في العلم بالله وآياته وأحكامه لهو حقيق بالتوقير والإجلال..
العنصر الثالث : النمور الآسيوية نموذج يحتذى..
قصة واحدة من أكبر التجارب الاقتصادية الناجحة في التاريخ..
لقد قامت دولٌ من عثرتها على أعمدة العلم والتخطيط، ورصد الميزانيات الكبيرة لنهضة التعليم ؛ فكان لها الشأن الأكبر بين دول العالم، ومن هذه النماذج المبهجة اقتصاديا وعلميا ما يطلق عليه النمور الآسيوية الأربعة’ مصطلح اقتصادي أطلق على اقتصادات كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ.. شهدت اقتصادات تلك الدول في الفترة ما بين أوائل الستينيات والتسعينيات، قفزة اقتصادية وعمليات تصنيع سريعة وحققت معدلات نمو عالية بشكل استثنائي تجاوزت 7% سنويا.
مع حلول أوائل القرن الحادي والعشرين، خرجت تلك الاقتصادات من حيز الدول النامية إلى الدول المتقدمة ذات الاقتصادات عالية الدخل، وتخصصوا في مجالات تنافسية. فأصبحت هونغ كونغ وسنغافورة من المراكز المالية الرائدة في العالم، في حين أصبحت كوريا الجنوبية وتايوان من رواد تصنيع المكونات والأجهزة الإلكترونية. لذلك تعد تجربتهم الاقتصادية الناجحة بمثابة نماذج يحتذى بها للعديد من دول أشبال النمور، وهم إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند.
وتعتبر هذه البلاد من بين البلدان الأكثر ربحية والأكثر إنتاجية في العالم…
ولاحقاً بدأت هذه البلدان بتصدير كل شيء تقريباً، بما في ذلك المنسوجات ولعب الأطفال، والمنتجات البلاستيكية، والتكنولوجيا الشخصية.
واليوم أصبحت الدولتان الصغيرتان جداً من حيث المساحة اثنين من المراكز المالية الأكثر نفوذاً في العالم..(ويكيبيديا).
بينما هناك دولٌ كاملة ولديها وفرةٌ متكاثرةٌ في المال ، ولكنها فقدت بريقها العالمي ؛ بسبب الإهمال للتعليم والانجراف نحو مجالاتٍ أخرى..
ما أحوجنا إلي أن نأخذ بأسباب التفوق العلمي في مختلف المجالات؛ فإننا إذا تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا، وعلى كل منا أن يسعي لأعلي درجات التفوق في مجاله عالمـًا، أو باحثـًا، أو صانعـًا، أو حرفيـًا، حتي يسهم في تقدم وطنه ورقيه، وعلى طلاب العلم أن ينفروا فيما ينفع البلاد والعباد، فتنفر فرقة لدراسة الطب، وأخرى لدراسة الهندسة أو العلوم ، وثالثة للعمل بالزراعة، ورابعة للعمل في الصناعة، وخامسة للاشتغال بالتجارة، وهكذا في سائر الفنون والحرف والصناعات..
إن حاجة الناس إلى العلماء وإلى علم الشريعة كحاجة الظمآن إلى الماء، والغريق إلى الهواء، خاصة في زمن اضطراب الأهواء..
بهذا الفهم تقدم المسلمون الأوائل في شتى العلوم والمعارف النافعة للناس، وظلت الحضارة الإسلامية سيدة الحضارات أكثر من ألف عام عشرة قرون من الزمان ، فأسسوا أول مدرسة لتعليم الطب في بلاد الأندلس ، وأسسوا أول مرصد فلكي في أشبيلية، وأول من صنعوا ساعة لمقياس الزمن ..
ولمع في سماء العلم أسماء عمالقة عظام أمثال ابن سينا ، والفاربي وجابر بن حيان ،والرازي، وغيرهم ..
وتفوقوا في علوم الطب ، والرياضيات ، والهندسة ، والجبر ، والفيزياء ، والكيمياء ، وأسس الأوروبيون نهضتهم الحديثة على أساس من هذه العلوم ..
مما جعل علماء الغرب المنصفين يعترف بهذا الفضل ، فيقولُ: ليوبولد وايس: لسنَا نبالغُ إذ قلنَا إنّ العصرَ العلميَّ الحديثَ الذي نعيشُ فيهِ، لم يُدشّنْ في مدنِ أوربة، ولكن في المراكزِ الإسلاميةِ في دمشقٍ وبغدادٍ والقاهرةِ وقرطبة، نحن مدينونَ للمسلمينَ بكلِّ محامدِ حضارتِنَا في العلمِ والفنِّ والصناعةِ، وحسبِ المسلمينَ أنّهُم كانُوا مثالًا للكمالِ البشرِي، بينمَا كنَّا مثالًا للهمجيةِ.
هذا قليلٌ مِن كثيرٍ مِن نماذجِ العلماءِ الباحثينَ الإسلاميينَ، وكذلك شهاداتِ الغربيينَ المنصفةِ في هذا الشأنِ.(موسوعة الحضارة الإسلامية)..
وختاماً:
يا إخوة الإسلام تعلموا العلم وهذبوا به أخلاقكم، وقوِّموا به أفعالكم وأقوالكم ..
العلم شجر والعمل ثمر ، العمل تابع والعلم متبوع..
قال على -رضي الله عنه-: يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من عمل بما علم، فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يتعلمون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم..
روى عبد الله بن وهب أن الخضِر قال لموسى -عليهما السلام-: يا ابن عمران، تعلَّم العلم لتعمل به، ولا تتعلمه لتحدِّثَ به، فيكون عليك بُوره، ولغيرك نوره. وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: أخوَفُ ما أخاف إذا وقفتُ بين يدي الله أن يقول: قد علمتَ، فماذا عملتَ؟..
اللهم حبب إلينا إلايمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، واللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما نَافِعًا، وَعَمَلًا صَالِحًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَأَعِنَّا عَلَيْهِ.. وانصر المستضعفين في كل مكان واحقن دماء المسلمين واحفظنا واحفظ مصرنا وسائر بلاد المسلمين ..