خطبة بعنوان : وقفة مع حديث النبي ﷺ الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ

بقلم د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

الحمد لله الولي المتين ، القاهر الظاهر الملك الحق المبين، لا يخفى على سمعه خفي الأنين ، ولا يغرب عن بصره حركات الجنين ، ذل لكبريائه وعظمته جبابرة السلاطين، وقضى القضاء بحكمته وهو أحكم الحاكمين ..

وبعد:

فلقد أوصانا النبي ﷺ بما ينفعنا في دنيانا وأخرانا ،

والوصية منهج رباني ونبوي حكيم..

قال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131]. والوصيةُ نوعٌ من الكلام الحكيم ، يخرجُ من القلبِ ليصلَ إلى القلبِ..

حديثُ الروحِ للأرواح يسري *** وتدركهُ القلوبُ بلا عَنـاءِ …

بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها..

فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب يخشاها ..

وتأتي من بعد وصايا القرآنِ الكريم وصايا النبي الحبيب، وصايا من لا ينطِقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٍ يُوحَى ..ومن وصايا النبي ﷺ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : ﴿الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ﴾..

أخرجه الإمام مسلم..

العنصر الأول  : إمتلاك الأمة لأسباب القوة الإيمانية والمادية ..

هذا الحديث من جوامع الكلم التي أوتيها الرسول ﷺ ، وهو نصيحة غالية ودعوة صريحة للأمة ،أفرادا وجماعات أن يتملكوا أسباب القوة التي يحبها الله ورسوله ، القوة في كل شيء مادية ومعنوية ، وفي جميع معانيها المحبوبة لكل إنسان . والله سبحانه وتعالى لايحب للمؤمنين أن يكونوا في الجانب الضعيف ، ولا أن يكونوا من المتقاعسين الذين يضعفون عن مجابهة التحديات أو يجبنون عن مقاومة الأعداء .

وهو وصية جامعة مانعة من الرسول عليه الصلاة والسلام لأمته..

ففيه يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ «المؤمنَ القويَّ» يعني في إيمانِه، «خَيرٌ وأَحبُّ إِلى اللهِ عزَّ وجلَّ منَ المُؤمنِ الضَّعيفِ» وهو الَّذي في إيمانِه ضَعفٌ، «وَفي كُلٍّ خيرٌ» أي: في كلٍّ واحدٍ مِن القويِّ والضَّعيفِ خَيرٌ؛ لاشتراكِهما في الإيمانِ، والقُوَّةُ المحمودةُ تَحتمِل وُجوهًا عديدةً؛ فمنها القُوَّة في الطَّاعةِ؛ فيكونُ المؤمنُ أكثرَ عَملًا، وأطولَ قيامًا، وأكثرَ صِيامًا وجهادًا وحجًّا.

ففي كلٍّ منَ القويّ والضعيف من المؤمنين خيرٌ لاشتراكهما في الإيمانِ، وقد يكون المؤمِن ضعيفًا في بدَنه قويًّا في إيمانه وماله، وقد يكون نحيلَ الجِسم ولكنّه قويّ الفِكر والقلَم، وإلى هذا تشير الكلمة النبويّة “وفي كلٍّ خير”.

ينطلِق كثيرٌ منَ الناس -في مفهومِ القوة والضعفِ- من منظورٍ مادّي واعتباراتٍ أرضيّة، فهذا يقدِّر القوةَ والضعف بحسَب إقبالِ الدنيا وإدبارها، وآخرُ يقدِّر القوّةَ بممارسةِ الجبَروت والقهرِ والبغيِ والطغيان، وثالث يظنّ القوةَ لمن كان له جاهٌ أو حَظوة من سلطان، ورابعٌ يركَن في قوّته إلى ماله أو ولدِه أو مَنصبِه، وخامِسٌ يستمدّ قوّتَه من إجادةِ فنون المكرِ والكيد والخِداع، والقدرةِ على التلوّن حسَب المواقف والأحوال..

«احرصْ على ما ينفعُكَ» يعني اجتهد في تحصيله ومباشرته، فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم؛ إما جهلًا منكم وإما تهاونًا، لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه.

وهذا حديث عظيم ينبغي أن نجعله نبراسًا لنا في عملنا الديني والدنيوي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احرص على ما ينفعك»، أي: على كل شيء ينفعك، سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدِّمْ منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «واستعن بالله»: ما أروع هذه الكلمة بعد قوله: «احرص على ما ينفعك»؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد ويحرص، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله – عزَّ وجلَّ – ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصًا على النافع وفعلًا له، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله، ولهذا قال: « احرصْ على ما ينفعك واستعنْ باللهِ»، أي: لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير، وفي الحديث: «لِيَسْأَلْ أحدُكم ربَّه حاجتَه كُلَّها، حتى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إذ انْقَطَعَ»أخرجه الترمذي بسند حسن..

يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، حتى ولو أردت أن تتوضأ أو تصلى أو تذهب يمينًا أو شمالًا أو تضع شيئًا

ثم قال: « ولا تعجز »، يعني استمر في العمل ولا تعجز، وتتأخر، وتقول: إن المدى طويل والشغل كثير. فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز..

فمَنْ عَمِل بتلك الوصيَّةِ وقام بها على وَجْهِها الأكمَلِ، ثمَّ أصابَتْهُ بعْدَ ذلك مُصيبةٌ، فلا يَقُلْ: «لوْ أنِّي فَعَلْتُ كان كذا وكذا»؛ فإنَّ هذا القولَ غيرُ سَديدٍ، ولكنْ يَقولُ مُستَسْلِمًا وراضيًا، ومُؤمِّلًا الخَيرَ: «قَدَّر اللهُ»، أي: وَقَعَ ذلكَ بمُقتَضى قَضائِه وعلى وَفْقِ قَدَرِه، «وما شاءَ فَعَلَ»؛ فإنَّه فعَّالٌ لِما يُريدُ، ولا رادَّ لقَضائِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمِه.

وبعْدَ أنْ نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن قَولِ كلمةِ الشَّرطِ «لَوْ» في مِثلِ هذا المَوضِعِ، نَبَّهَ على أنَّها «تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ» مِن مُنازَعةِ القَدَرِ، والتَّأسُّفِ على ما فاتَ؛ لأنَّ فيها الاعتراضَ على القَدَرِ، والتَّحسُّرَ مِن وُقوعِه، كأنْ يقولَ الإنسانُ حِين تَنزِلُ به مُصيبةٌ: لوْ فَعَل كذا ما أصابه المرَضُ! فالمسْلمُ مُطالَبٌ بالتَّسليمِ للقَدَرِ، فما أرادَه اللهُ عزَّ وجلَّ واقعٌ لا مَحالةَ؛ إذْ قَضاءُ اللهِ وقَدَرُه لا يَتخلَّفُ، فما دامَ الإنسانُ قدِ اجتهَدَ في العملِ، وأخَذَ بالأسبابِ، مُستعينًا باللهِ، وطلَبَ الخَيرَ منه سُبحانه؛ فلا عليه بعْدَها إلَّا أن يُفَوِّضَ أمْرَه كلَّه للهِ، ولْيَعلَمْ أنَّ اختيارَ اللهِ عزَّ وجلَّ هو الخَيرُ، حتَّى وإنْ كان ظاهِرُ ما وَقَع له مَكروهًا، ولا يَستطيعُ أحدٌ مِن الخَلقِ دَفْعَ قَدَرِ الخالِقِ عزَّ وجلَّ وتَغييرَه دُونَ إذْنٍ مِنَ اللهِ، وإنِ اجتَمَعَتْ لذلك الدُّنيا بما فيها..

والإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أُمِر ببذله، وأخلفت الأمور؛ فحينئذ يفوض الأمر إلى الله؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، ولهذا قال: «إنْ أصابَك شيءٌ»، يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله – عزَّ وجلَّ – «فلا تقلْ لو أني فعلتُ لكان كذا كَذا».

لقد بيَّنَ لنا الحكمة من ذلك، حيث قال: «فإنَّ لو تفتحُ عمل الشيطانِ»، أي تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلتُ لكان كذا. فلا تقل هكذا، والأمر انتهى، ولا يمكن أن يتغير عما وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت.

ولهذا قال: « ولكن قلْ: قدَرُ اللهِ»، أي هذا قدَرُ اللهِ، أي تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله – عزَّ وجلَّ – فعله ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107]، لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل – عزَّ وجلَّ – ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]، فبيَّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيءٍ كره الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيرًا له، كما قال تعالى:﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، ولقد جرت حوادث كثيرة تدل على هذه الآية، من ذلك: قبل عدة سنوات أقلعت طائرة من إحدى البلاد متجهة إلى مطار جدة، وفيها ركاب كثيرون، يزيدون عن ثلاثمائة راكب، وكان أحد الركاب الذين سجلوا في هذه الطائرة في قاعة الانتظار، فغلبته عيناه حتى نام، وأعلن عن إقلاع الطائرة، وذهب الركاب وركبوا، فإذا بالرجل يستيقظ بعد أن أغلق الباب، فندم ندامة شديدة؛ كيف فاتته الطائرة؟ ثم إن الله قدر بحكمته أن تحترق الطائرة وركابها، فسبحان الله! كيف نجا هذا الرجل؟ كره أنه فاتته الطائرة، ولكن كان ذلك خيرًا له..

♦♦♦

العنصر الثاني : مواطن القوة في الإسلام ..

١- الإيمان والعقيدة ..

المسلم بطبعه قوي، قوي بإيمانه بالله -سبحانه وتعالى-، قوي في كل شيء من أفعال الخير والبر والمعروف، همته عالية في أمر دينه ودنياه؛ لأن عموم الحديث يدل على تلك الصفات في المؤمن، وأعظم قوة يتحلى بها المؤمن قوة عقيدته بالله -سبحانه وتعالى- أن يكون قويا في توحيده وعبادته لله -جل وعلا-، لا يشرك به ،شيئًا يدعوه وحده، ويستغيث به ويتوكل عليه، ويفوض إليه أموره في جميع أحواله، ويتجنب كل مظاهر الشرك صغيرة كانت أو كبيرة، لا يعبد إلا الله ولا يستغيث ولا يستعين إلا بالله -جل جلاله-، لا يرائي المخلوقين؛ لأنه بقوة إيمانه يحتسب الأجر عند الله -سبحانه وتعالى- في كل ما يفعله، ويصل إلى مقام الإحسان

قال بعض السلف: “من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء”.

والمؤمن الذي يستمد قوته من عقيدته الصافية ، وإيمانه بالله الحق ومنهجه الرباني يعيش على أرض صلبة ؛ لذلك فقوة العقيدة والإيمان تعطي المؤمن الثبات في مواجهة الباطل وإن علا يوما ؛ لأن مصدر قوته أنه مع الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتزحزح..

وإن القوة الحقيقية تَحدُث عندما تتعلق القلوب بالقوى المتين، فقوة الله فوق كل شيء ..

قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58).

وقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66].

وعِندما يَنصُرُ المُسلِمُ دِينَ اللهِ وعبادَ اللهِ المُؤمنين فَليَبشِرِ بِوعدِ اللهِ: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].

وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]..

وللأسف الشديد أضحت أمتنا تطلب المدد والقوة من أعدائها الذين وضحت أهدافهم في عصرنا للعيان، وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر ..

إن الإيمان يدفع المؤمن إلى التضحية والصبر والمصابرة وتقديم النفس والنفيس في سبيله ،

وحينما تتمكن العقيدة من القلوب فهي معين لا ينضب للنشاط المتواصل الذي لا ينقطع والعمل الدؤوب الذي لا يفتر .

وإن الأمة في حاجة إلى المؤمن القوي في عقيدته، وفي حاجة إلى شباب أقوياء في عقيدتهم، إذا تكلم الواحد منهم كان قويًا واثقًا، وإن عمل كان قويًا ثابتًا، وإذا ناقش كان قويًا واضحًا، وإذا فكر كان قويًا مطمئنًا، لا يعرف التردد، ولا تميله الرياح، ولا تخيفه التهديدات، يأخذ تعاليم دينه بقوة، وينقلها إلى غيره بقوة، ويتحرك ويدعو في مجتمعه بقوة، لا وهن معها ولا ضعف..

وقد أمر الله بها بني إسرائيل فقال -عز وجل-: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، وقوله -جل وعز-: (يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]،أي بجد وحرص واجتهاد.

وأمر بها موسى عليه السلام ، فقال: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145].

٢-غرس معاني الأمل وذم اليأس والقنوط..

غرس معاني الأمل وذم اليأس والقنوط والتعلق بالماضي ، فاستعادة الأحزان والتحسر على ما فات، والتعلق بالماضي، وتكرار التمني بـ (ليت) والتحسر في الزفرات بـ (لو) فليس من خلق المؤمن القوي؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس، والوساوس، فهو الوسواس الخناس. فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل..

إن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح. يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها ،

هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.

هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانبٌ آخر يتمثل في ثبات الخطى. حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونأى بنفسه عن مسايرتهم

٣- ضبط النفس والتحكم في شهواتها

القوة في ضبط النفس البشرية والتحكم في شهواتها ..

القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة ، ومحاولة التحكم بالنفس من الانسياق وراء الشهوات والفتن والمغريات ، نريد قوة المؤمن تظهر في التعفف والترفع عن سوء الخصال وعن خوارم المروءة، المطلوب من المؤمن هو القوة مع علو همة، وعدم الوقوع في المنكرات والفواحش والمعاصي، وهنا تظهر حقيقة قوته من ضعفه، لاشك أن الشهوات لها ضغط على النفس أيًا كانت هذه الشهوات، فهنا تظهر القوة من عدمها، وهذا لا يعني العصمة، فإنه لا عصمة إلا لأنبياء الله ورسله، ولكن هذه القوة تجعل المؤمن لا ينساق وراء شهواته بل تجعله يبادر بالتوبة، ويرجع إلى ما كان عليه من قبل وأفضل .

فالبُعْدُ عن الشَهَواتِ بِأنْواعِهَا، وَعن المُنكَرَاتِ بِأشْكَالِهَا مِن تَبَرُّجٍ وَسُفُورٍ، وَرَقْصٍ وَغِنَاءٍ وَلَهْوٍ وَفِسْقٍ، يزيد من قوة العبد قال عز وجل:(يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].

وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.

واعلموا أنه من انهزم في الميدان الصغير سيخذلنا في الميدان الكبير، ومن خارت قواه أمام الشهوات فسيخذلنا في الجبهات، ومن هزم في ميدان “حيَّ على الصلاة” فسيُهزم قطعًا في ميدان “حي على الكفاح”.

نريد أن يمتلئ المجتمع بالنفوس القوية التي تتعالى على شهواتها، وتنتصر على رغباتها، وتتحول إلى نفوس مجندة لخدمة هذا الدين..

وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.

اسمعوا -أيها الشباب- إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ، وذلك حينما عبر عبد الرحمن الداخل البحر أول قدومه على الأندلس، أهديت له جارية بارعة الجمال -وهذه كانت حلالاً له بحكم الجواري في ذلك الوقت- لكنه -رحمه الله- نظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغلت عنها بما أَهُمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عما أَهُمُّ به ظلمت همتي، ألا فلا حاجة لي بها. ثم ردها إلى صاحبها.

٤-القوة العسكرية ..

لا ريب أن من أهم مواطن القوة القوة العسكرية ، فهي تحفظ الدين والأرض والعرض ، وترهب الأعداء ، فلا يقفون في وجه الدعوة إلى الإسلام . وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويحق الحق ويبطل الباطل.

وقد أمرنا –سبحانه- بإعداد العدة، والأخذ بأسباب القوة، كائنة ما كانت، معنوية كانت أم مادية ..

قال تعالى:(وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:60].

وفى الحديث:

“ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ”.

أخرجه الإمام مسلم.

قالَ الشيخُ السَّعدِيُّ -رحمِهُ اللهُ- ما مفادُهُ: “أَعِدُّوا لأعدَائِكم السَّاعِينَ فِي هَلاكِكُم وإبْطَالِ دِينِكُم كُلَّ مَا تَقدِرونَ عليهِ مِن القُوَّةِ العَقلَيةِ والبَدَنِيِّةِ، وأنواعِ الأَسلِحَةِ مِمَّا يُعينُ على قِتَالِهم، من الآلاتِ وَالمَدَافِعِ والرَّشَاشاتِ، والطَّيارَاتِ الجَوِيَّةِ، والمَرَاكِبِ البَرِيَّةِ والبَحرِيَّةِ، وتَعَلُّمِ الرَّمْيِ، والشَّجَاعَةِ والتَّدبِيرِ”.

٥- العزم والأخذ بالأسباب

يُوصي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المسْلمَ بقولِه: «احْرِصْ على ما يَنفَعُكَ» يعني: بالأخذِ بالأسبابِ، ومع الأخذِ بالأسبابِ اعتمِدْ على مُسبِّبِ الأسبابِ، وهو اللهُ سُبحانه وتَعالَى؛ ولهذا قال بعْدَ ذلك: «واستَعِنْ باللهِ»؛ لأنَّ الإنسانَ إذا أخَذَ بالأسبابِ ولم يَحصُلْ له عَوْنٌ وتَوفيقٌ مِن اللهِ تَعالَى، فلنْ يَحصُلَ ما يُريدُه، فمُجرَّدُ الأخذِ بالأسبابِ لا يَكْفي، بلْ يُحتاجُ إلى شَيءٍ وَراءَه، وهو تَوفيقُ اللهِ وإعانتُه على حُصولِ ذلك الشَّيءِ؛ فإنَّه لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، والمرادُ بالأعمالِ النَّافعةِ: ما يَعودُ على الإنسانِ بخَيْرَيِ الدُّنيا والآخِرةِ مِن العِباداتِ والأعمالِ الصَّالحةِ ونَحوِ ذلك.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((استعن بالله ولا تعجز)). صورة واضحة من صور القوة ، قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مآربه وغاياته ..

ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة ترك الاجتهاد والعزيمة ، وعدم الأخذ بالأسباب فمن أهم نتائج ذلك العجز، والكسل، والجبن، والبخل، وقد استعاذ منها جميعاً النبي ﷺ في الصباح والمساء بقوله: ((اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ ؛ وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ)).. أخرجه الإمام البخاري ..

٦-قوة الثقة واليقين في الله

قوة اليقين، المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والغير: ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)).

ثقةٌ بالله واعتمادٌ عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله. ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [إبراهيم:12].

٧- قوّة الأخلاقِ: لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاق دون أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبعضُ المسلمين اليومَ جمَع من العلمِ فأوعَى، وخلاَ من الخُلُق الأوفى.. القوّةُ في الأخلاق دليلُ رسوخِ الإيمان ،

ومن مواطن سمو الأخلاق وانتشارها ؛ فالصبر قوة والرحمة قوة لأنها لا تكون إلا من ذوي النفوس الكبيرة، والعدل قوة لأن العادل لا يخشى بأس المتكبرين ولا يرجو نفعا من المظلومين والتواضع قوة، والحلم قوة، فالحليم لا يستفزه تطاول الناس لأنه أكبر من ذلك. وكل هذه القوى كانت متمثلة في شخص الرسول ﷺ فهو أشجع الناس وأكرم الناس وأحلم الناس وأعدل الناس.

٨- العلم و العمل

المطلوب من كل مؤمن يهمه أمر الإسلام أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل أولاً، ثم يكون جنديًا في سرية من سرايا هذا الدين، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الدعوة إليه، وليخلص كل مؤمن أن يعمل بجد ومثابرة؛ فإن الباطل يزحف، وسيله جارف، ولا يقابل ذلك إلا إيمان وعمل..

يقول بعض السلف: كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمل بها. ويقول بعض الحكماء: إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة فجربها واعمل بها؛ فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها.

ولا يشترط أن يكون الجميع نسخة واحدة في أعمال الخير ، فبلال غير أبي بكر، وخالد غير أبي ذر، وابن عباس غير ابن عمر، ومصعب غير ابن عوف، كانوا مهاجرين وأنصارًا، وكان فيهم أصحاب بيعة الرضوان، فيهم الولاة والحكام، وفيهم العسكريون والقادة، وفيهم أوعية العلم والفقه، لكن كلهم أبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وكلهم كان ثغرًا من ثغور الإسلام، فحفظه وصانه ..

♦♦♦

العنصر الثالث : .قوة الفرد أساس بنيان الأمة..

إن المؤمن القوي هو عماد الرسالات، وروح النهضات، ومحور الإصلاح، أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب القوي، وضَع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية، فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان، فلن تنجز مشروعًا إذا حُرمتَ الرجل الغيور..

سقطت دول تملك السلاحَ دون أقوياء الرجال، وبقيت مقاومة أقوياء الرجال تثخن في أعداء الله وهي في قلة من السلاح. ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه..

إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم..

واللهِ لَمْ يَظْهر أَعداءُ الإسلامِ علينا من اليَهود الصهاينة ومن وقف بجانبهم إلاَّ لِوَهَنٍ حَلَّ فِي صُفُوفِنا، وَأَثَرَةٍ طَغَت علينا، وَتَفَرَّقٍ بعدَ اجتماعٍ، وهذا سِرُّ تَداعِي الأُمَمِ علينا، قالَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ –صلى الله عليه وآله وسلم-: “يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ” قَالَوا: وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.

نعم، هَذا هُو مَبعثُ الوَهَنِ حَقِيقَةً، أنْ تَخلُدَ الأُمَّةُ لِدُنْيَاهَا، وتَتَعَلَّقَ بِشهواتِها، وتَرَفِهَا وَلَهْوِهَا فَتَكرَهُ المَوتَ وتُفَضِّلُ حَياةً ذَلِيلةً على مَوتٍ كَرِيمٍ.

أيُّها الاخوة الكرامُ: الأُمَّةُ القَوِيَّةُ والدَّولَةُ القَويَّةُ تُحفظُ مَهَابَتُها، ويُحسَبُ حِسَابُها، وتُقبلُ شُرُوطُهُا، ويُصانُ جَنَابُها، ولا يَقومُ حَقٌّ مَا لَم يُحَط بِقوَّةٍ تَحفَظُهُ وَتسنُدُهُ، وحينَ أمَرَ اللهُ بإعدادِ القُوَّةِ ليسَ حُبَّاً في الحربِ وإراقَةِ الدِّماءِ، إنَّما لِتَكُونَ سَبَبَاً فِي مَنعِ الحَربِ، واستِعدَادَاً عِند نُشُوبِها.

إن قوة البدن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة صارت محمودة، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومةً، وليس هذا فحسب، بل نريد القوة المتكاملة بجوار قوة الدين والنفس، نريد قوة البدن وصلابته، ونريد قوة العقل وحدّته، نطالب كل مسلم أن يتحول إلى مؤمن قوي يتكفل بنفسه، وينطلق إلى غيره، معتصمًا بالله، متوكلاً عليه، قويًا بإيمانه، معتزًا بإسلامه، لا ينهزم في الحروب النفسية التي تدير رحاها وسائل الإعلام دون سلاح، لا تكن سمَّاعًا لهم، كن واعيًا، كن واثقًا، كن حذرًا، لا تكن عاهة مستديمة في أمتك، عالة على مجتمعك..

القوة يا عباد الله بمفهومها الشامل هي ما يميز المؤمن ولذلك حتى قوة البدن هي داخلة في معنى القوة ، ولذلك إذا اعتنى الإنسان ببدنه وصحته بأسلوبه في طعامه وشرابه، وممارسته للرياضة، ونحو ذلك فإن ذلك ولا شك من مظاهر القوة.

وانظروا كم فتكت الأمراض بنا هذا العصر، وأقعدت الكثيرين من الشباب بسبب الفوضى والإسراف في المطعم والمشرب والمنام، فأصبحنا نعاني من ماذا؟ أصبحت أشهر الأمراض في مجتمعاتنا وللأسف الشديد هي أمراض السمنة وأمراض المفاصل، ونحو ذلك مما لا يليق بحال من الأحوال بالمؤمن القوي.

المؤمن القوي -أيها الكرام- هو يعتني ببدنه لأنه يعلم أن ذلك البدن هو أكبر عون له على طاعة الله -سبحانه وتعالى…

وتأملوا في قول الله -عز وجل-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:23- 26].

فسيدنا شعيب عليه السلام عجز عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءةَ موسى وشهامته حملته على أن يبادر -من غير أن ينتظر سؤالهما- بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما.

فأعجبَ بهذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما -وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص : 26] فتأمل قولها: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

رأته تلك الفتاة بفطرتها الأنثوية، رأته قويًّا استطاع أن يجود، وأن يعينهما على السقي من البئر، وأن يدفع عنهما جموع الناس، فلفت نظرها، وجاءت إلى أبيها وبأسلوب الحياء وطلبت أن يستأجره فما كان منه إلا أن قال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ) وليس أن أستأجرك وليس أن أستأجرك (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)[القصص: 27].

كانت القوة -أيها الإخوة- في هذا الموقف هي سبب لفت نظر تلك الفتاة، لكنها قوة ليست مبنية على الاعتداء، قوة مبنية على الأمانة (القوي الأمين)، والقوي الأمين هو ذات المعنى الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في المؤمن القوي.

وختاماً: هذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات. ووقفات ، لما فيه من وصايا وحكم نافعة ، وإن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى زرع القوة في أفرادها دينًا وعلمًا وخلقًا، تحتاج الأمة اليوم إلى المؤمنين الأقوياء، الذين يحملون في قلوبهم قوة نفسية تحملهم على معالي الأمور وتبعدهم عن سفسافها، قوة تجعل أحدهم كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو بيته ودينه وأمته ..

لقد كان من روائع أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم التي يستمد منها المسلم قوته بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة “رجل ذو همة يحي الله به أمة”

وقولهم “يا له من دين لو كان له رجال “

وقولهم “لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال ” ..

وغير ذلك من الأقوال والحكم المأثورة التي تبث في الفؤاد القوة والثبات والطمأنينة ..

ولقد كان النبي ﷺ- أقوى الناس عبادة، ما ترك الصلاة وقيام الليل وسائر العبادات ، ولو كان في حالٍ من الضعف ، وكان إذا فاته قيام الليل صلاّه من الغد..

ومن معالم القوة وغايتها القوة في مواجهة الأعداء ؛ وذلك لإرهابهم ودفع الاعتداء والظلم.. والقتال في سبيل الله من أهم مقاصده حماية الدين والأرض والعرض ؛ ولتكون كلمة الله هي العليا ..

لقد أمر الله المؤمنين بتحصيل القوة بجميع معانيها وأنواعها بقدر الاستطاعة ، وما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة ، ولا يفل الحديد إلا الحديد، والإٍسلام ينهى عن الضعف والمهانة، وموالاة الأعداء والتبعية لهم، ويأمر بتحصيل جميع أسباب القوة المادية والمعنوية بقدر الإمكان، فهذا الإعداد يشمل جميع أنواع القوة الإيمانية والعلمية ، والسياسية والعسكرية والاقتصادية ، والتخطيط الإعداد المسبق ، وقوة رباط الخيل والرمي اللتان تماثلهما في هذا الزمن الأسلحة والمدرعات والدبابات والقذائف والطائرات، ولقد عُطفت على كلمة “قوة”: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، فهذا العطف يقتضي المغايرة؛ فهناك قوة أخرى هي التي فقهها المجاهدون، ألا وهي قوة الله -جل وعلا-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول لوط -عليه السلام-: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:80]، قال -صلى الله عليه وسلم-: “رحم الله أخي لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد”..

ووالله لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيرًا ولتغير حالنا وحال أمتنا إلى أحسن حال..

فاللهمَّ انصر دينَكَ وكِتابَكَ وجُندَكَ وسُنَّةَ نَبِيَّكَ وعِبادَ الصَّالِحينَ..

اللهم انصر مَنْ نَصَرَ الدِّينَ واخذُل مَن خَذَلَ الدِّينَ، وَمن أرادَ بالإسلامِ والمُسلِمينَ سُوءاً فأشغِلهُ في نَفسِهِ يا ربَّ العالمينَ.

واللهم ارزقنا القوة في أبداننا، وارزقنا القوة في إيماننا، وارزقنا القوة في أخلاقنا، وارزقنا القوة في أفعالنا وفي جميع أحوالنا إنه سميع مجيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.