خطبة بعنوان : من وصايا النبي ﷺ لأمته للدكتور محمد جاد قحيف

بقلم د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأنوران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ، وبعد :

فالوصيةُ نوعٌ من الكلام الحكيم، ومعنى الحكيمُ من الإحكام، والحِكمةُ هي وضعُ الشيء المناسبِ في الموضعِ المناسِبِ، بالقدر المناسِبِ، وفي الوقتِ المناسِبِ ..

والوصيةُ بشكل عامٍ: نُصحٌ وارشادٌ، وتزكِيةٌ وإصلاحٌ، وحثٌ على اكتسابِ الفضائلِ وتركِ الرذائلِ، ودعوةٌ إلى مكارمِ الأخلاقِ وإلى حميِد الصفاتِ ،وأمرٌ بما ينفعُ المأمورَ في أمور دينهِ ودنياه.

والوصيةٌ في حقيقتها نصيحةُ خبير، ووصفةُ حكيم، وتوجيهُ عالم، لا يستغني عنه من أراد الخير والنجاةَ لنفسهِ ولمن يُحبُّ، إنها كلامٌ هامٌ وضروريٌ، يخرجُ من القلبِ ليصلَ إلى القلبِ..

حديثُ الروحِ للأرواح يسري *** وتدركهُ القلوبُ بلا عَنـاءِ …

بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها..

فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب يخشاها ..

العنصر الأول :  الوصية منهج رباني ونبوي حكيم..

الوصيةُ منهجٌ قرآنيٌ رباني أصيلٌ: تأمل قوله -تعالى-: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131].

وتأمل قوله جل جلاله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)[الشورى: 13], تأمل أكثر: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)[العنكبوت: 8], (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[مريم: 31].

وفي سورة الأنعام ختم المولى سبحانه الوصايا العشر بقوله ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ، تذكرون ، تتقون ..

وتأتي من بعد وصايا القرآنِ الكريم وصايا النبي الحبيب، وصايا من لا ينطِقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٍ يُوحَى، وصايا من جمع الله له الحكمةَ وفصل الخطاب، واختُصر لهُ الكلامُ اختصارا..

فَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال : وعَظَنَا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ ، قال : فقلْنَا : يا رسولَ اللهِ، كأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فماذا تَعْهَدُ إلينا ؟ فقال : أُوصِيكُمْ بتقوى اللهِ، والسَّمعِ والطاعةِ، وإنَّ عبدًا حبشيًّا ، فإنه مَنْ يَعِشْ منكم بعدي فسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِييْنَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بها، وعَضَّوا عليها بالنَّواجِذِ ،وإيَّاكُم ومُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فإِنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.أخرجه الإمام أبو داود وسنده صحيح..

في هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عمْرٍو السُّلَمِيُّ، وحُجْرُ بنُ حُجْرٍ: “أتَينا العِرْباضَ بنَ سارِيَةَ”، أي: جِئنا إليهِ، “وهو ممَّن نزَلَ فيهِ” هذه الآيَةُ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]، أي: لا أجِدُ ولا أملِكُ منَ المراكِبِ من الفَرَسِ والإبِلِ ونحوِها المعَدَّةِ للجِهادِ؛ لأُعطِيَه لكم لتُجاهِدوا عليها، قالوا: “فسَلَّمْنا”، أي: ألْقَيْنا عليهِ السَّلامَ، وقلنا: “أتَيْناك زائرينَ وعائدِينَ”؛ منَ العيادَةِ للمَريضِ، “ومُقتبِسِين”، أي: مُحصِّلينَ نورَ العِلمِ مِنكَ، فقال العِرْباضُ: “صلَّى بِنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ذاتَ يوْمٍ، وفي رواية

..صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنا، فَوَعَظَنا مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنها القُلوبُ، وذَرَفَتْ مِنها العُيونُ …(أخرجه الحاكم).

“فوَعَظنا موْعِظةً بلِيغَةً”، أي: حدَّثَنا وذكَّرَنا بقوْلٍ موجَزٍ وفيه مَعانٍ كثيرَةٌ، “ذرَفَتْ منها العُيونُ”، أي: سالَتْ منها الدُّموعُ، “ووجِلَتْ منها القُلوبُ”، أي: خافَت ورهِبَت.

قال: “فقال قائلٌ”؛ منَ الحاضِرين: “يا رسولَ اللهِ، كأَنَّ هذه موْعِظةُ مودِّعٍ”، أي: موعِظَةُ مُسافِرٍ عند الودَاعِ، “فماذا تَعْهَدُ إلَينا؟”، أي: بماذا تُوصِي إلينا؟ فقال: “أُوصِيكم بتَقْوى اللهِ”؛ وذلك بفِعلِ الواجِباتِ وترْكِ المحَرَّمات … الحديث..

ومعنى وعظنا: نصحنا، وذكرنا.

موعظة: تنويهًا للتعظيم، أي: موعظة جليلة.

وجلت: خافت.

منها: من أجلها.

ذرفت: سالت بالدموع.

كأنها موعظة مودع: فهموا ذلك من مبالغته صلى الله عليه وسلم في تخويفهم وتحذيرهم، فظنوا أن ذلك لقرب مفارقته لهم، فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول، والفعل..

جدير بالذكر أن الحديث النبوي الشريف يعد من آخر وصايا النبي ﷺ لأمته؛ فعندما نزل على النبي ﷺ قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } (النصر : 1 – 3 ) ، حينها أدرك دنوّ أجله ، وازداد يقينا بذلك حينما خيّره الله بين البقاء في الدنيا والانتقال للدار الآخره ، وتكاثرت الإرهاصات الدالّة على قرب لحوقه بربّه ، فأدركته الشفقة على أمته من بعده ، وأراد أن يعظهم موعظة نافعة ، ووصية جامعة ، تعطيهم منهاجا متكاملا للتعامل مع ما سيمرّ بهم من فتن ، وما قد يبتلون به من محن ، فتكون هذه الوصية لهم بمثابة طوق النجاة في بحر الحياة الخِضم .

وكان لهذه الموعظة العظيمة أكبر الأثر في تلك النفوس الكريمة والمعادن الأصيلة ، لقد استشعروا في هذه الوصية قرب فراق نبيهم للدنيا ؛ ولذلك ذرفت عيونهم ، وخفقت قلوبهم ، وأحسوا بعظم الموقف مما جعلهم يقولون : ” يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا “فأوصاهم بوصية جامعة ، مانعة، خالدة أبد الدهر ، يسمع صداها عبر العصور والأزمان …

العنصر الثاني : عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة..

لقد طلبوا منه وصية تكفيهم من بعده ، وتكفل لهم البقاء على الجادّة ، وصحة المسير ، فجاءتهم الوصية النبوية بتقوى الله ؛ فإنها جماع كل خير ، وملاك كل أمر ، وفيها الخير والبركة والسعادة والنجاة لمن أراد في الدنيا والآخرة ..فتقوى الله هي كنز البركات ، ومعدن الخيرات ، ومفتاح الرزق والخير والسعادة ، وهي عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَحَدُ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ مَرْضَاةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ؛ تَقُومُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ، وَتَحُلُّ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِهِ الرزق والْبَرَكَاتُ، وَتَتَنَزَّلُ مَعَهُ الْخَيْرَاتُ، وَتَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ، كَمَا أَنَّ بِغِيَابِهِ تُرْتَكَبُ الْمُنْكَرَاتُ، وَتُسْتَوْجَبُ الْعُقُوبَاتُ، وَتُنْتَزَعُ الرَّحَمَاتُ.

قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف:96].

وحَقِيقَةُ التَّقْوَى كَمَا عَرَّفَهَا طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ قَائِلًا: “أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنْ نُورِ اللهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ خَوْفَ عِقَابِ اللهِ”..

وقد عرفها الإمام الجنيد رحمه الله تعالى بقوله :

أن لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك ..

وَضَرَبَ لَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَثَلًا حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا التَّقْوَى؟ فَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ، أَوْ جَاوَزْتُهُ، أَوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: “ذَاكَ التَّقْوَى”(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ).

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا *** وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ *** ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ***

إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى ..

ومن التعريفات الجامعة الشهيرة للتقوى تعريف سيدنا الإمام علي رضي الله عنه: ” التقوى هي : الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل ..

والتقوى هي: وَصِيَّة اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى للأولين والآخرين ..

فهي وَصِيَّة جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَقْوَامِهِمْ، وَوَصِيَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمَّتِه، وَوَصِيَّةَ الصَّحَابَةِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَأَمَّا إِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؛ فَقَدْ قَالَ –سُبْحَانَهُ-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].

قال الإمام القرطبي رحمه الله : الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله؛ لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره..

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ؛ فَهِيَ وَصِيَّةُ نبي الله نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)[الشعراء:106].

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ نبي الله إبراهيم عليه السلام..

قال تعالى:﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ۖ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.

العنكبوت/١٦.

وَوَصِيَّةُ هُودٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ)[الشعراء:124]، وَوَصِيَّةُ صَالِحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)[الشعراء:142].

وهكذا دواليك كل الرسل والأنبياء اوصوا أقوامهم بهذه الوصية الجامعة لكل خلال الخير في الدنيا والآخرة ..

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، قَالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ”(رَوَاهُ الْحَاكِمُ).

وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَكْتُبُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ: “أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَازَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ زَادَهُ؛ فَلْيَكُنِ التَّقْوَى عِمَادَ عَمَلِكَ، وَجَلَاءَ قَلْبِكَ”(شُذُورُ الْأَمَالِي لِلْقَالِي).

والتقوى منهج حياة..

وهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله -تعالى- وحقوق عباده، جعلها دين الإسلام منهج حياة للمسلم في كل زمان ومكان ، وعلى أي حال .. ووصى بها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا ذر ومعاذَ بنَ جبل -رضي الله عنهما- فقال لكل واحد منهما: “اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”. (رواه الترمذي وهو حديث حسن).

اتق الله حيثما كنت يعني في أي زمان أو عصر كنت ، وفي أي مكان كنت ، في الريف أو في الحضر ، في الإقامة أو في السفر ، في الخلوة أو الجلوة في السلم أو الحرب ..

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “اتَّق الله حيثما كُنت” مراده في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وفي حديث عن أبي ذرٍّ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: “أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ” (رواه أحمد وهو حسن لغيره).

و”كان -صلى الله عليه وسلم- إذا بَعَثَ أميراً على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً”.. (رواه مسلم)..

غياب التقوى والخوف من الله في حياة كثير من الناس في عصرنا أدت إلى انتشار المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في جميع المجالات ..

ومن ذلك القصص الواقعية المريرة : وفاة زوج بمحكمة التجمع الخامس بعد أن عرف عدد القضايا التي رفعتها عليه زوجته وأولاده ..

المحامي كان حاضرا وقت الجلسة في القاعة ، بيحكي أنه لما تأكد الحاجب أن الزوج توفي وهو قاعد في الجلسة أمام زوجته وأولاده .. وأولاده جريوا عليه ويعيطوا ويصرخوا ويحضنوا فيه ويقلولوا اصحى يا بابا احنا مش عاوزين فلوس بس اصحى وكلمنا !! ..هكذا بالعامية ..

نادى القاضي على الزوجة و قالها بالعامية مبسوطة كده للأسف الدعوى انقضت بوفاة زوجك وسيتم شطب القضية..بيقول أن الزوجة قعدت تلطم وتصرخ أمام القاضي ، مش علي موت زوجها ، لكن على النفقات اللي كانت بتأخدها من الزوج بالتراضي كلها ضاعت بوفاته ..(فيتو).

وفي المقابل أزواج لا يتقون الله في نسائهم ، ويسيئون معاملتهم ؛ ويضربونهم على أتفه الأسباب ؛حتى يضطرونهم للإنفصال ، والتنازل عن حقوقهم التي شرعها الله لهم قال عليه الصلاة والسلام اتقوا الله في النساء فإنكم اخذتموهن بأمانة الله…

ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالتقوى ببيان حقوق الإمام التي كفلها الشرع، فقال : (.. السمع والطاعة – أي : للأمير – ، وإن تأمر عليكم عبد ) ، فالسمع والطاعة حقّان من حقوق الإمام الشرعي كما قال الله عزوجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( النساء : 59 ) ، وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : ( يا أيها الناس اتقوا الله ، واسمعوا وأطيعوا وأن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع ، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل ) رواه أحمد وأصله في البخاري ، وغيرها من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك ..

“والسَّمْعِ والطَّاعةِ”، أي: للأُمراءِ، “وإنْ عبْدًا حبشِيًّا”، أي: وإن كان هذا الأَميرُ أو الوالي عبْدًا حبَشِيًّا..الدرر السنية

لكن ثمت أمر ينبغي أن نؤكد عليه ، هو أن هذه الطاعة التي تلزم للإمام الشرعي مشروطة بأن تكون موافقة لأحكام الشرعية ، وليست مستقلة بنفسها ، فإذا تعارض أمره مع شرع الله ورسوله فلا تجب طاعته في ذلك ، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة في المعصية ، إنما الطاعة في المعروف ) رواه البخاري ومسلم .

وقد ذكر العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن تأمّر عليكم عبد ) أمران ، الأول: أن ذلك من باب الإخبار بالأمور الغيبية ، حين تُسند الولاية إلى غير أهلها ، وتوضع في غير موضعها ، فهنا يجب له السمع والطاعة درءا لحدوث الفتن ، والثاني : أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر جاء من باب ضرب المثل ..

العنصر الثالث : لزوم السنة والتمسك بها..

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف أمته من بعده ، وكيفية النجاة من هذا الاختلاف ، لقد قال : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) ، إنها إشارة إلى ما سيؤول إليه أمر الأمة من تفرّق يوهن قوتها ، وابتعاد عن الهدى والحق ، فوصف الداء وبيّن الدواء ، وأرشدها إلى التمسك بسنته ، وسنة خلفائه الراشدين من بعده ، الذين منّ الله عليهم بالهداية ومعرفة الحق ، والاستقامة على المنهاج النبوي ، حتى صار عصرهم أنموذجا رفيعا يُقتدى به .

فمن النعم العظيمة المرتبطة بنعمة الإسلام، نعمة الهداية إلى السنة، سنة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-

وليس المقصود بالسنة هنا الأمور المندوبة المستحبة التي تقابل الواجبة؛ كما اصطلح عليه الفقهاء، بل المقصود بالسنة هنا: طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته ومنهجه في العقيدة والعبادة، قوليةً كانت أو عملية، واجبةً كانت أو مندوبة.

قال ابن رجب: “والسلف قديماً لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض”[جامع العلوم والحكم 2/120].

فلفظ السنة الوارد في كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلام الصحابة والتابعين إذا كان في سياق المدح والاستحسان، فإنما يراد بها هذا المعنى الشرعي العام ، الشامل للأحكام الاعتقادية والعملية ، واجبة كانت أو مندوبة أو مباحة ..

وهذه بعض النصوص الحاثة على لزوم السنة، والمبينة لفضيلة ذلك.

فمن القرآن الكريم:

قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف: 156- 157]..

فجعل الله اتباع السنة سبيلاً للفوز برحمته التي وسعت كل شيء، وسبيلاً للفلاح، وقال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158].

واتباع سنة النبي محمد -ﷺ- هو سبيل الهداية التي يرضاها الله..

وقال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31]..

قال الحسن: “كان علامة حبه إياهم اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم –”[رواه الطبري].

فمحبة المؤمن لله ومحبة الله له علامتها: اتباع سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].

قال ابن كثير: “هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله”[3/483].

ولقد حذر تبارك وتعالى من مخالفة طريقة رسوله -صلى الله عليه وسلم – وسيرته ومنهجه، فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النــور: 63]..

قال ابن كثير: “أي -يخالفون- عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله كائناً من كان”[التفسير 3/318].

والمعنى:ليحذر وليخش من خالف شريعة النبي ﷺ ، وطريقته باطناً أو ظاهراً من أن تصيبه فتنة في قلبه من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبه عذاب أليم في الدنيا بقتل أو حد أو حبس، أو عذاب في الآخرة.

وأما الأحاديث:

فمن أشهرها وأصرحها حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- الذي معنا في المقال

فتأملوا هذا الحديث- عباد الله-: فقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم – بأن الذي ستطول به الحياة سيرى في الغالب اختلافاً كثيراً، ثم بين المخرج من هذا الاختلاف وهو التمسك بسنته -صلى الله عليه وسلم – وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده

“فعليكم بسنتي” “أي طريقتي وسيرتي القديمة التي أنا عليها، مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة”. اهـ

وقال ابن رجب: “السنة هي الطريق المسلوك فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقاد والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة”. اهـ

ثم بالغ صلى الله عليه وسلم في الحث على التزام السنة والتمسك بها، فقال: “تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ” أي الأضراس.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنفال: 20- 2..

وقوله عز وجل:(مَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النــور: 51-52]..

وقال سفيان: “لا يستقيم قول وعمل إلا بموافقة السنة” ا. هـ

وإن رأيتهم عملاً أو سمعتهم قولاً، فاسألوا هل هو موافق للسنة أم لا؟ هل فعله أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ هل هو على مثل ما كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ .

فإنه لا نجاة إلا بلزوم هذا المنهج والطريق، قال صلى الله عليه وسلم : “ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي”.

وما دمتم في الدنيا زمن المهلة والإعذار تذكروا أن طاعة الرسول هي أمنية أهل النار، قال الله عنهم: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا)[الأحزاب: 66-67].

فأنقذوا أنفسكم من النار بالعض بالنواجذ على سنة المصطفى المختار.ملتقي الخطباء..

وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم الله على التزام هديهم عندما قال : ( عضّوا عليها بالنواجذ ) ، والنواجذ هي آخر الأضراس ، فهي إذاً كناية عن شدة التمسّك وعدم الحيدة عن هذا الطريق .. إسلام ويب.

“وسُنَّةِ الخُلَفاءِ المَهديِّينَ الرَّاشِدينَ”، أي: الَّذين هَداهُم اللهُ وأرْشَدَهم إلى الحَقِّ، والمقصود بهم الخُلفاءُ الرَّاشِدون الأربعةُ: أبو بَكرٍ الصِّدِّيق، وعُمرُ بنُ الخَطَّاب، وعُثمانُ بنُ عفَّانَ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنهم أجمعين، “تمَسَّكوا بها”، أي: بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ، وأفْرَدَ لفظ (بها) مع أنَّها تعودُ على اثنَتَينِ؛ لأنَّهما كشيءٍ واحدٍ، “وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ”، أي: آخِرِ الأضْراسِ؛ يَعني بذلك الجِدَّ في لُزومِ السُّنَّةِ والتَّمسُّكِ به..

العنصر الرابع :الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع..

في هذا الحديث الشريف أمر النبي ﷺ أمته بالاتباع وحذرهم من الابتداع

فمِن أسبابِ التَّفرُّقِ: اي تفرق الأمة : الابتِداعُ وعَدمُ الاتِّباعِ

إنَّ مِن أعظَمِ ما فرَّق الأمَّةَ الإسلاميَّةَ وأوهَن جَسدَها: الابتِداعَ في دينِ اللهِ تعالى؛ لذلك نُهينا عن اتِّباعِ السُّبلِ، وأُمِرْنا باتِّباعِ الصِّراطِ المُستقيمِ، قال اللهُ تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .

ولقد عَنوَن الآجُرِّيُّ البابَ الأوَّلَ مِن كتابِه «الشَّريعة»: بابُ: ذِكرُ الأمرِ بلُزومِ الجماعةِ والنَّهيِ عن الفُرقةِ، بل الاتِّباعُ وتَركُ الابتِداعِ ، فهو يرى أنَّه بلُزومِ الجماعةِ يكونُ الاتِّباعُ، وأنَّ الفُرقةَ تكونُ بالابتِداعِ في دينِ اللهِ.

ولقد جاء الأمرُ الأكيدُ بطاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّحذيرِ مِن الإحداثِ في الدِّينِ الذي لا يكونُ إحداثًا إلَّا بتَركِ سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قال اللهُ سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ [النِّساء: 59] .

عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ قال: (طاعةُ اللهِ: اتِّباعُ كتابِه، وطاعةُ الرَّسولِ: اتِّباعُ سُنَّتِه) .

وقال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .

ولقد جاء الحُكمُ صريحًا فيمَن أحدَث في الدِّينِ، بعَدمِ قَبولِ عَملِه؛ فعن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أحدَث في أمرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ )) أخرجه الإمام البخاري.. أي: مردودٌ عليه غَيرُ مقبولٍ؛ لِما في هذا الإحداثِ مِن خَطرٍ بالِغٍ على الدِّينِ.

قال عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: (عليكم بالاستِقامةِ والاتِّباعِ، وإيَّاكم والبِدَعَ) .

والبدعة: وهي ما أحدث على خلاف أمر الشارع، ودليله الخاص، أو العام.

وقد بين هذا ابن حجر العسقلاني حيث قال: والمحدثات بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع: «بدعة» وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما… وحديث العرباض في المعنى قريب من حديث عائشة المشار إليه وهو من جوامع الكلم. يدل على أن المحدث يسمى بدعة، والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام.

قال الإمام الشافعي: «البدعة بدعتان: محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم»..

وقال ابن حجر العسقلاني: «قال ابن عبد السلام: في أواخر القواعد: البدعة خمسة أقسام فالواجبة كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم. والمحرمة: ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة. والمندوبة: كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع على التراويح وبناء المدارس والربط والكلام في التصوف المحمود وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله. والمباحة: كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن، وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأولى والله أعلم»..

لقد حذَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الإحداثِ في الدِّينِ، فقال: ((وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ )) .

“وإيَّاكم”، أي: احْذروا واجْتَنِبوا، “ومُحْدَثاتِ الأُمورِ”، أي: الأُمورِ الَّتي تَحدُثُ بعد ذلك وتُخالِفُ أصْلَ الدِّينِ؛ “فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ” في دِينِ اللهِ وشرْعِهِ، “بِدْعَةٌ”، أي: طَريقةٌ مخترَعةٌ في الدِّينِ، “وكلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ”، أي: موجِبَةٌ للضَّلالةِ والغِوايَةِ، ويَضِلُّ بها صاحِبُها.

(الدرر السنية)..

حذر من المحدثات وأعطانا قاعدة عامة نافعة وهي أن: “كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة..

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته: “أما بعد: فأحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي النبي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة”[أخرجه الإمام مسلم]..

واحذروا البدع، فإنه ما ابتدع قوم بدعة إلا أماتوا مكانها سنة..

وقد ظهر وشاع في زماننا هذا بدع متنوعة

صلاة الرغائب، صلاة الألفية ، والأدهى من ذلك وأمر تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله،كتحليل الخمر ، وتحريم الزينة المعتدلة المباحة ..

البدعة هي الفعل المخالف للسنة، سميت البدعة لأن قائلها ابتدعها من غير مقال إمام، وهي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون، ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي. وهي لغة إحداث شيء لم يكن موجودا من قبل، ومنها اشتقت كلمة الإبداع واصطلاحا في الإسلام، كما عرّفها الشاطبي قال: هي طريقة في الدّين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تعالى اهـ.

البدعة في الأحاديث النبوية

قال ابن رجب: فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة وأكد ذلك بقوله: كل بدعة ضلالة، والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة. وما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع؛ فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة هذه، وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة، ومن ذلك أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه وأقره علي واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في التراويح، انتهى ملخصا. ومعنى الحديث: فمن أدرك ذلك أي: زمن الاختلاف الكثير؛ فعليه بسنتي أي: فليلزم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها قاله القاري.

وقال الشوكاني في الفتح الرباني: إن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة، والذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب بحسب ما تقتضيه لغة العرب، فالسنة هي الطريقة فكأنه قال الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين …و الرأي عند عدم الدليل هو أيضا من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله ﷺ: بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: فبسنة رسول الله قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله أو كما قال. فمما حدث تدوين الحديث وقد أنكره عمر وأبو موسى الأشعري وغيرهما ورخص فيه الأكثرون، ثم تفسير القرآن وقد أنكره جماعة من التابعين كالشعبي، ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض، وأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة، وكذا اشتد إنكار أحمد على تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب. ومما حدث الخوض في المتشابهات والأغاليط في مسائل العقيدة، وقد اشتد إنكار السلف على ذلك، قال ابن حجر العسقلاني: وثبت عن مالك: أنه لم يكن في عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء -يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية- واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي ﷺ وأصحابه.

«عن سعيد بن المسيب قال قال أنس بن مالك قال لي رسول الله ﷺ: «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة». وفي الحديث قصة طويلة».

السنة الحسنة أو السيئة

السنة الحسنة في مفهوم الشرع الإسلامي هي المستحدث على غير مثال سابق، التي تكون موافقة للشرع ولا تخالفه، وفي صحيح مسلم في كتاب العلم: باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة حديث: «عن جرير بن عبد الله قال جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله ﷺ عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطئوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، قال ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله ﷺ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء»».أخرجه الإمام مسلم .

وختامًا: يعد حديث العرباض بن سارية السابق من أقوال النبي ﷺ البليغة الموجزة التي أوصى فيها بوصية جامعة مانعة فيها الخير لأمتنا في الدنيا والآخرة وفي كل العصور والأزمان…

ويستفاد منه:

١- المبالغة في الموعظة؛ لما في ذلك من ترقيق القلوب، فتكون أسرع إلى الإجابة.

٢- أنه ينبغي سؤال الواعظ الزيادة في الوعظ، والتخويف، والنصح.

٣- اعجاز نبوي فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما يقع بعده في أمته من كثرة الاختلاف، ووقع الأمر كذلك.

٤- الأمر بتقوى الله، والسمع، والطاعة، وفي هذه الوصية سعادة الدنيا والآخرة: أما التقوى فهي وصية الله للأولين والآخرين، وأما السمع والطاعة، فبهما تنتظم مصالح العباد في معاشهم، ويستطيعون إظهار دينهم، وطاعاتهم.

٥- لزوم السنة والتمسك بها ، والصبر على ما يصيب المتمسك من الشدائد والابتلاءات، وقد قيل: إن هذا هو المراد بعض النواجذ عليها.

٦-ليس كل ما هو جديد بدعة ،فما يخدم الدعوة في وسائل العلم الحديثة ليس بدعة ، بل هو من الواجبات ، مثل إنشاء مواقع للتفسير والحديث ، وتخريج الأحاديث النبوية ومعرفة الصحيح من الضعيف والموضوع على الإنترنت والمكتبة الشاملة وهكذا…

٧- التحذير من ابتداع الأمور التي ليس لها أصل في الشرع، أما ما كان مبنيًّا على قواعد الأصول، ومردودًا إليها، فليس ببدعة، ولا ضلالة. انتهى.

ومن أدار التوسع فليرجع إلى الشروح المطولة، “جامع العلوم والحكم”.. وشرح ابن دقيق العيد..

رزقنا الله وإياكم حسن الفهم ،وصدق الاتباع ..

اللهم أحينا جميعا على سنته ، وأمتنا على ملته ، واحشرنا في زمرته ، وارزقنا في الدنيا محبته وفي الآخرة شفاعته ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.