وبعد: ثمت ظاهرة بات المجتمع كله يشتكي منها ويعاني من ويلاتها ،
فأصبحنا نسمع عن انتشار حالات الانتحار بين البنات والشباب والأطفال بسبب هذه الظاهرة (السخرية والتنمر) ؛ وإن شئت قلت بسبب ضعف الوازع الإيماني والأخلاقي .. ويبحث الدعاة والمصلحون والمهتمين بنشأة الأجيال سبل علاجها لخطورتها، وتلقى تلك الظاهرة اهتماما غير عادي من المهتمين بعلاج مشكلات المجتمع ؛ حيث إن هذه المشكلة تعتبر سببا مهما ومؤثرا في العلاقات بين الناس لا سيما أن السخرية والتنمر يترك جرحا غائرا في القلب ، وأثرا بالغا في النفس ..
جِراحَاتُ السنانِ لها التئامُ
ولا يُلْتامُ ما جَرَحَ اللِّسانُ
جرْحُ السيفِ تدْمُلُه فيبرا
وجُرْحُ الدَّهرِ ما جَرَحَ اللِّسانُ ..
وأضحت هذه الظاهرة واضحة للعيان ، لدرجة أن العالم تعامل معها بإسم توصيفي جديد وسماه “ظاهرة التنمر”، كدلالة على تحول السلوك الإنساني لسلوك مشابه للسلوك النمر أو السلوك الحيواني في التعامل في الغابة، حيث لا بقاء لضعيف ولا احتكام إلا للغة القوة الوحشية دونما مراعاة لخلق قويم أو لسلوك فاضل ..
تعريف السخرية هي: الاحتقار والاستهانة بالناس، وذكر العيوب والنقائص على وجه يُضْحَك منه بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الحركة
تعريف التنمر :
” ذلك السلوك العدواني المتكرر الذي يهدف إلى إيذاء شخص آخر جسديا أو معنويا من قِبل شخص واحد أو عدة أشخاص وذلك بالقول أو الفعل للسيطرة على الضحية وإذلالها ونيل مكتسبات غير شرعية منها”.(البيان).
وهو شكل من أشكال الأذية الموجهة بغرض الإيذاء النفسي، والإساءة غالبا ما تكون لفظيًة، لكن أحيانًا قد يرافقها بعض التعرّض أو الاستعراض أو التهجُّم الجسدي، والموجه للإيذاء النفسي من فرد أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة أخرى غالبًا ما تكون ذات قدرات أضعف للدفاع عن نفسها. (ويكيبيديا).
والشارع الحكيم قد حرّم مساوئ الأخلاق، ورذائل الصفات، فحرم السخرية بالناس والاستهزاء بهم، وهمزهم ولمزهم لأي عيب فيهم خَلَّقِيا أو خُلُقِيا، وحقيقة السخرية، كل كلام أو فعل يظهر منه إهانة المسلم واحتقاره وإذلاله، وقد جاءت النصوص في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريم السخرية بالناس قال الله جلَّ وعلا مبينا ذلك واصفا بأن السخرية فسوق وظلم وعدوان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
وهذه”الآيةُ تنهَى عن الاستهزاءِ بالآخرينَ أو إهانتِهِم، كما تنهَى الآيةُ عن لمزِ الناسِ، بأنْ نقولَ لهُم ما يُهينُهُم، أو يُحقّرُهُم ويصغّرُهُم، وتنهَى أيضًا عن التنابزِ بالألقابِ، فلا يجوزُ مناداةُ الأشخاصِ بأسماءٍ، أو صفاتٍ سيئةٍ يكرهونَ سماعَهَا”.
(تفسير ابن كثير).
وقد توعد الله اللامزين بعباده المؤمنين خاصة بقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) [الهمزة: 1-4]..
كما أن السخرية وانتقاص الناس واحتقارهم من آمارات الكبر ..
قال ﷺ “…الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ”
أخرجه الإمام مسلم.
العنصر الأول . من أخلاق المنافقين السخرية بأهل الخير والصلاح ..
يكفي هذ الخلق قبحًا وسوءًا أنه من صفات المنافقين؛ فالمنافقون هم أكثر الناس سخرية بالرسل وأتباعهم، وبما جاءت به الرسل عليهم السلام من الحق والهدى، قال تعالى في وصفهم: (وَإذا لقوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة:14] وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه: (يَحْذرُ المُنَافِقونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تحْذرُونَ) [التوبة:64].
كما بيَّن الله جلَّ وعلا أن من أخلاق المنافقين السخرية بأهل الإيمان .
إذا جاء المتصدق بالشيء الكثير قالوا: هذا مرائي، وإن جاء بالقليل قالوا: الله غني عن صدقتك، سخريةً بالمحسن من مقل ومستكثر لما في القلوب من بغض الإسلام والعداوة لأهل الإسلام، وقال جلَّ وعلا عن المنافقين يوم بدر: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال: 49] لما رأى أعداء الله أهل الإسلام وتجردهم لله وقيامهم وجهادهم في سبيل الله، قالوا: ساخرين بهم: (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي: خدعهم الوعد بالجنة والوعيد بالنار، خدعهم إلى أن فعلوا ما فعلوا من جهاد في سبيل الله بالنفس والمال..
العنصر الثاني ..
صور السخرية والاستهزاء
تتعدد صور وأشكال الإيذاء والاستهزاء “التنمر” ما بين صور قديمة عصرية ، وصور قولية و فعلية أو هما معًا ..
١- السخرية والتنمر اللفظي ..
يستخدم المتنمرون لفظياً بعض الكلمات والعبارات المسيئة كالشتائم، أو التشبيهات والإيماءات، والألقاب المُهيِنة بغرض التقليل من شخص آخر دون وجه حق ؛ لإظهار القوة والسيطرة على الشخص المتنمر عليه، كما يستخدمون التنمر اللفظي للتقليل من شأن الآخرين وتحقيرهم، ويجب أخذ التنمر اللفظي بعين الاعتبار وعلى محمل الجد لما يترك من آثار نفسية كبيرة..وهو من أكثر أنواع التنمر انتشارًا؛ فالأغلبية العظمى من أفراد المجتمع تعرضوا له بصورة مباشرة أو غير مباشرة..
٢-السخرية و التنمر الجسدي ..
يعتبر التنمر الجسدي النوع الأكثر شيوعًا للتنمر، و أشدهم إيذاءا وينتج عنه آثار طويلة المدى؛ يتعمد فيه المتنمر بضرب الضحية بطريقة تسيء له مثل: عرقلته، أو شد شعره، الضرب على الوجه والرقبة، أو أي فعل بدني بغرض السخرية ، وغالبًا ما يستخدم المتنمرون التنمر الجسدي لإظهار القوة والسيطرة على أهدافهم من المتنمر عليهم ..
٣-السخرية و التنمر الإلكتروني ..
ينطوي هذا النوع من التنمر على إيذاء شخص ما عن طريق نشر عبارات مؤذية وأكاذيب وشائعات عبر رسائل البريد الإلكتروني ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي،
وهو ينتشر أكثر بين المراهقين ويأخذ إحدى صور التنمر عبر الإنترنت سواء في المحادثات الخاصة، أو خلال التعليقات المهينة .
وهو سلوك متكرر يهدف إلى إخافة أو استفزاز المستهدفين به أو تشويه سمعتهم و التشهير بهم. ومن بين الأمثلة على هذا النوع من التنمّر:
– نشر الأكاذيب أو نشر صور محرجة لشخص ما على وسائل التواصل الاجتماعي ..
– إرسال رسائل أو صور أو مقاطع فيديو مؤذية أو مسيئة أو تهديدات عبر منصات التواصل ..
– انتحال شخصية أحد ما وتوجيه رسائل دنيئة للآخرين باسمه أو من خلال حسابات وهمية..
وعلى الجانب الآخر السخرية من علماء الدين ، أو الأشخاص الملتزمين ، أو السخرية من حجاب المرأة المسلمة ، وعفتها وحيائها، ويعتبرون ذلك رمزا للتخلف والرجعية، وما أرادوا من ذلك إلا لتخرج المرأة عن عفافها وشرفها، فتكون لقمة سهلة لذئاب البشر المسعورة، وحتى يتحول هذا المجتمع المحافظ على دينه وقيمه وأخلاقه، إلى مجتمع وحشي يرزح تحت وطأة الإباحية والسّعار الجنسي، وتدمير الأسرة ومحاربة الفضيلة والعفة..
ويسخرون من أحكام الدين وأخلاقه، بدعوى أنها تقيد الحريات الفردية، فهم يريدون أن يعيشوا في هذه الدنيا كما يشاؤون ويشتهون، وكما تملى عليهم أهواؤهم وتميل إليه شهواتهم ..
قال تعالى ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ النساء/٢٧.
وللأسف هذا النوع لا تجد من يدافع عنه ، ولا تكاد تسمع عمن يقف بجانبهم إعلاميا..
٤-الايذاء والتنمر الجنسي..
يحدث التنمر الجنسي عند استهداف شخص معين جنسياً سواء بأفعال أو ألفاظ مهينة، ويشمل ذلك تبادل تعابير جنسية، وتعليقات فظة، وإيحاءات المبتذلة، ولمس غير المرغوب فيه، وعرض الجنس، والمواد الإباحية، قد يُدلي المتنمر جنسياً بتعليق فظ حول مظهر الزميل ، أو مدى جاذبيته أو تطوره الجنسي ، أو حتى نشاطه الجنسي.
في أغلب الحالات يفتح التنمر الجنسي الباب أمام الاعتداء الجنسي (الاغتصاب)، حيث تكون الفتيات غالباً أهدافًا للتنمر الجنسي من قبل الفتيان أو الفتيات الأخريات حتى، حيث يقوم الأولاد بلمسهن بشكل غير لائق، أو يقومون بإدلاء تعليقات مهينة حول مظهر إحدى صديقاتهن أو شكل جسدها .
(موضوع نت).
وفي فتح عمورية ، لما خرج ملك الروم ، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل ، بلغ الخبر إلى المعتصم ، فلما بلغه ذلك استعظمه ، وكبر لديه ، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت ، وهي أسيرة في أيدي الروم : وامعتصماه ! فأجابها وهو جالس على سريره : لبيك لبيك ! ونهض من ساعته ، وصاح في قصره : النفير النفير (التاريخ الكامل لابن الأثير).
٥- السخرية والتنمر الاجتماعي ..
وهذا النوع يمكن أن يحدث عند الذكور والإناث، إلّا أنّه أكثر شيوعاً لدى الإناث.
يهدف التنمر الاجتماعي إلى الإضرار بشخص ما من خلال الإضرار بسمعته، أو علاقاته مع الآخرين أو الإضرار بمكانته الاجتماعية، وقد يتم ذلك من خلال العديد من الأشكال والطرق؛ كنشر الشائعات للإضرار بسمعة شخص ما، و تشويه صورته ومكانته الاجتماعية ، أو تحريض الآخرين على تجاهل صديق مشترك أو استبعاده وتوجيه تهديدات له ..
وتعمد الإحراج لبعض الأشخاص للتندر و الضحك خلال التجمعات العائلية أو بين الأصدقاء ..
العنصر الثالث .
آثار السخرية والتنمر..
وللسخرية والتنمر أثرهما المدمر على الفرد والمجتمع ومن ذلك ما يلي:
*معصية الرحمن واستحقاق غضبه ؛ لأن السخرية من الناس تحمل تطاولا على سنن الله (عزوجل) في كونه وحكمته في خلقه، وهو أمر جد خطير على دين المرء ومروءته .
فمن الاستهزاء بالله تعالى: وَصْفُه بما لا يليق به سبحانه. كمن يصفه بالعجز والتقصير، والبخل، والظلم، وغير ذلك مما لا يليق بجلال الله وعظمته وفضله وعطائه، وكل هذا يوجب غضب الله ومقته ..
إن المجتمع الفاضل الذي يريده الإسلام مجتمع راق متماسك وكل فرد يعرف مكانته وكرامته،والمؤمنون فيه كالجسد الواحد:
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
لا شك أن التنمر والسخرية يدمران العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم، كما أنهما يزرعان بذور العداوة والبغضاء ويورثان الأحقاد -والضغائن بين الناس حيث يقول الحق سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ…. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ. كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ). أخرجه الإمام مسلم .
ومن وصايا الامام الشافعي رضي الله عنه ..
إذا شئتَ أن تحيا سليمًا عن الردى
وحظُّك مَوفورٌ وعِرضُك صَيِّنُ
لسانَك لا تذكُرْ به عورةَ امرئٍ
فكلُّك عَوراتٌ، وللناسِ ألْسُنُ
وعينَك إن أبدَتْ إليك مَعايِبًا
فصُنْها، وقل يا عينُ: للناسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَنِ اعتدى
وفارِقْ، ولكنْ بالتى هي أحسنُ ..
فالشخص المتنمر والساخر من خلق الله يغضب ربه، ويفقد وقاره عند الناس، ويُسقط عن نفسه صفة المروءة، كما أنه منتهك لكرامة المخلوق المكرم عند الله..
وهذا هو التكريم الحقيقي للإنسان ، فما يحدث من مشاهدة دماء الأبرياء أمام العالم ليؤكد على تساقط إدعاءات الغرب في احترامهم لحقوق الإنسان وكرامته التي طالما تغنى بها ..
آثار التنمر على الشخص نفسيا واجتماعيا
فقدان الثقة بالنفس.
فقدان التركيز وتراجع الأداء المستوى الدراسي. الخجل الاجتماعي والخوف من مواجهة المجتمعات الجديدة. حدوث مشاكل في الصحة النفسية مثل : الشعورُ بالاكتئابِ وقلةُ احترامِ الذاتِ، والإصابةُ بالتوحّدِ والانعزالِ عن المجتمعِ، كمَا أنَّ ضحايا التنمُّرِ معرّضونَ للانتحارِ بسببِ الاكتئابِ المزمنِ الذي ينتجُ عنهُ الأفكارُ الانتحاريةُ وإيذاءُ النفسِ.
فبوسع التنمّر عبر الإنترنت أن يصل إلى الضحية في أي مكان وفي أي لحظة، ويمكن أن يتسبب بأذى كبير، إذ يمكنه أن يصل بسرعة إلى جمهور واسع
**ومن آثار السخرية والاستهزاء “التنمر” الندم يوم القيامة ..
من آثار السخرية والاستهزاء “التنمر” الندم يوم القيامة ، ولكن حين لا ينفع الندم ..
ففي يوم القيامة ندم المتنمر على ما قدمت يداه يقول الحق سبحانه: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}، ويقول سبحانه في أهل النار يوم القيامة كما ذكر القرآن الكريم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾سورة المؤمنون
وختامًا يا أخا الإسلام فإياك أن تسخر من أحد، وإياك أن تحتقر أحدا، واعلم أن العبرة ليست بالأشكال والمظاهر والألقاب؛ فقد يكون الذي تسخر منه وتحتقره أحب إلى الله منك، وأعظم قدرا عند الله منك، وأقرب من الله منزلة منك…
ولعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار وسخرية خير عند الله وأحب إليه ممن تطاول على الناس فسخر منهم؛ ولنا العبرة فيما جاء عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قَالَ: “مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ” مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ” ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : ” مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ ” ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : “هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا ” ( أخرجه الإمام البخاري) ولما صعد عبد الله بن مسعود شجرة ضحك القوم من دقة ساقيه، فإذا بالنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يسأل ” مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ ” قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ : ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ ” (رواه الإمام أحمد وسنده صحيح).
وعن مالك بن دينار قال: احتبس علينا المطر بالبصرة فخرجنا يوماً بعد يوم نستسقي فلم نر أثراً لإجابة. فخرجت أنا وعطاء السليمي ، وثابت البناني، ومحمد بن واسع ،وحبيب الفارسي ،وصالح المرب، وآخرين ، حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة فاستسقينا، فلم نر أثراً لإجابة. وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى ، فلما أظلم الليل إذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك أنفد ما عندك؟ أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة. فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب فما خرجنا حتى خضنا الماء. ثم بادر يسعى. فقلت: ارفق بنا. قال: أنا مملوك علي فرض من طاعة مالكي الصغير. فدخل دار نحاس فلما أصبحنا أتيت النحاس فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة؟ قال: نعم عندي مائة غلام فجعل يخرج إلى واحداً بعد واحد وأنا أقول غير هذا. إلى أن قال: ما بقي عندي أحد فلما خرجنا إذا الأسود قائم في حجرة خربة فقلت: يعني هذا. قال: هذا غلام مشؤوم لا همة له إلا بالبكاء، فقلت: ولذلك أريده فدعاه ، وقال لي: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه. فاشتريته بعشرين ديناراً. فلما خرجنا قال: يا مولاي لماذا اشتريتني؟ قلت: لنخدمك نحن. قال: ولم ذاك؟ قلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى؟ قال: وقد اطلعت على ذلك فجعل يمشي حتى دخل مسجداً فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي سر كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين، أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة. فإذا هو ميت.(صفة الصفوة لابن الجوزي).
إنه لا يعلم قيمة العباد ومنزلتهم إلا الله جل في علاه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: “رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ” أخرجه الإمام مسلم .
«لَو أَقسَمَ عَلى اللهِ»، أي: عَلى فِعلِه سُبحانَه بأنْ حَلَفَ أنَّ اللهَ يَفعَلُ كَذا أو لا يَفعَلُه؛ «لأَبَرَّه»، أي: يُجِيبُ رَغبتَه ودُعاءَه، ولا يُخيِّبُ أمَلَه؛ لفَضلِه ومَنزلتِه عندَ اللهِ..
فاللهم استجب دعائنا ولا تخيب رجائنا ،و ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ،
واحفظ بلدنا من كل مكروه وسوء ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين في كل مكان يارب العالمين..