خطبة بعنوان : جبر الخواطر من أجل العبادات والقربات للدكتور محمد جاد قحيف

بقلم د/ محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

الحمد لله العزيز الجبَّار الحليم الغفَّار (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)[الرَّحْمَنِ١٥/١٤].

وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، الواحد القهَّار، يكور النهار على الليل، ويكور الليل على النهار ، وأشهد أن سيدنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه النبي المختار ، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصَحْبه الأخيار، ما تعاقَب الليل والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا..

ففي زماننا هذا تشتد الحاجة إلى عبادة جبر الخواطر ، ومواساة الناس والتخفيف عنهم ، وتطييب خاطرهم ، ورفع المعاناة عنهم ، فقد أضحى كثير من الخلق منكسرين متعبين ؛ نظرًا لفساد ذمم الناس واختلاف نواياهم ، ففي مجتمعاتنا اليتيم ، والمسكين ، والمريض ، والمحتاج ، والأرملة ، والمطلقة ، والمعلقة ، وكم من حزين بحاجة إلى من يجبر خاطره بكلمة حانية، تضمد جراحات قلبه، وكم من مظلوم بأمس الحاجة إلى من يقف معه في مظلمته، ويخفف عنه ألَمَ الظلم والقهر الذي يقطع قلبه، وكم مِن مُبتلى يتمنى أن يجد أخًا صادقًا يصبِّره في بلائه، ويقوِّيه ويشد أزره، ويذكره بجزاء الله العظيم له في بلائه إن صبر واحتسب الأجر، وكم من مهموم قد أثقلته الهموم ينتظر صديقًا، يفتح له باب الأمل، ويبشِّره بقرب الفرج، وكم مريض قد هدَّه المرض ينتظر زائرًا يواسيه ويخفِّف عنه آلامه.

فجبر الخواطر من أجل العبادات والقربات التي يتقرب بها الإنسان إلى الله طمعا في جنته ورضاه ..

♦♦♦

العنصر الأول : مفهوم جبر الخواطر ..

الجبر مأخوذ من الجبيرة التي توضع على العظام عندما يُكْسَر، حتى يلتئم ولا يؤلم ، وعكس الجبر: الكسر ..

والخاطر هو القلب أو النفس، فيُقال: أخذ على خاطره: يعني: حزن قلبه وتأثر ..

وجبر الخواطر خلق إسلامي عظيم يدل على سمو نفسٍ، وعظمة قلبٍ، وسلامة صدر، ورجاحة عقل، ويدل على كرامة أصل، وأصالة معدن وشهامة ورجولة نادرة ، فما أجمل هذه العبادة! وما أعظم أثرها! يقول الإمام سفيان الثوري: “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.

ومما يعطي هذا المصطلح جمالًا أن الجبر كلمة مأخوذة من أحد أسماء الله الحسنى وهو اسم الله “الجبار”.

و(الْجَبَّار) بمعنى القَّهارِ وهو الذي دانَ لهُ كلُّ شيءٍ، وخَضعَ له كلُّ شيءٍ، ولا يقعُ في هذا الكونِ شيءٌ إلا بمشيئتِه -سبحانه-؛ فما شَاءَ كانَ، وما لم يَشأْ لم يكنْ، فهو -أيضاً- بمعنى الرَّؤوفِ الجابرِ للقلوبِ المنكسرةِ؛ فيجبرُ الكسيرَ، ويغني الفقيرَ، ويُيِّسرُ على المعسرِ كلَّ عسيرٍ، ويُعيذُ من لاذَ بهِ ولجأَ إليهِ، ويُجيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا رفعَ يديهِ، كما ذكرَ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ- في نونيتِه:

كَذلكَ الجَبَّارُ في أَوْصافِهِ *** والجَبْرُ في أَوْصَافِه نَوْعَانِ

جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلُّ قَلْبٍ قد غَدَاَ *** ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ

والثَّاني جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذي *** لا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ..

وهذا الاسم بمعناه الأول الرائع يطمئن القلب، ويريح النفس؛ فهو سبحانه “الذي يجبر الفقر بالغنى، والمرض بالصحة، والخيبة والفشل بالتوفيق والأمل، والخوف والحزن بالأمن والاطمئنان، فهو جبار متصف بكثرة جبره حوائج الخلائق”. [تفسير أسماء الله للزجاج].

وانظر في العالَمِ كم جبرَ اللهُ -تعالى- من قلوبِ، وكم فرَّجَ من كُروبِ، وكم كشفَ من خُطوبِ، وكم أغاثَ من منكوبٍ ، ولو ترك بعضهم لبعض لضيقوا عليهم ، وأغلقوا عنهم منابع الخير..

وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لبعض الناس الحكمة ، وفهم النفسيات وطبائع البشر ، والنفس البشرية كالبحر، والنفوس تختلف باختلاف أصحابها، فما يصلح لهذه قد لا يصلح للأخرى، ولله در شبيب بن شيبة حينما قال: “لا تجالس أحدًا بغير طريقه، فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم، واللاهي بالفقه، والعي بالبيان آذيت جليسك” [آداب العشرة].

وقد جبر الله بخاطر نبيه ﷺ فأعطاه نهر الكوثَرُ وذلك ؛ لأن المشركين ومنهم العاص بن وائل السهمي كانوا يلقبون الرسول بالأبتر خاصة بعد وفاة ولده القاسم ..

يعني لا أولاد له وستنقطع دعوته بمجرد وفاته .. “والكوثَرُ نَهْرٌ في الجنَّةِ ، حافَّتاهُ من ذَهَبٍ ، ومَجراهُ على الدُّرِّ والياقوتِ ، تُربتُهُ أطيبُ مِنَ المسكِ ، وماؤُهُ أحلَى منَ العسلِ ، وأبيَضُ منَ الثَّلجِ “.أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح..

كما جبر الله بخاطر السيدة أم موسى عليها السلام وطيب نفسها ، وربط على قلبها وجبر بخاطرها ..

قال تعالى:﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّ مُوسَىٰٓ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى ٱلْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِىٓ ۖ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ﴾. القصص /٧.

والآية فيها أمرين ونهين وبشارتين ..

♦♦♦

العنصر الثاني :  الترغيب في جبر الخواطر وتفريج الكروب ..

أمر الإسلامُ بمراعاةِ الخواطرِ وجبرِها، وتطييبِ النُّفوسِ وعدمِ كسرِهَا، وجَعَلهَا -سبحانَه- عبادةً يُتقرَّبُ بها الخلقُ إليهِ، وصفةً يُحبُّها ويَرْتَضِيْها.

فقد جبر الله خاطر نبيه ﷺ ، فرعاه وآواه وهداه وأغناه ، وأمر بجبر خاطر اليتيم والمسكين ، ونهى عن قهرهم ونهرهم ..

قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} سورة الضحى9-10 ، وهذا أجمل تطييب للخاطر وأرقى صورة للتعامل قال ابن قدامه -رحمه الله-: “وكان من توجيهات ربنا -سبحانه وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فكما كنت يتيماً فقيرا يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فآواك الله ورعاك، فلا تقهر اليتيم، ولا تذله، بل: طيب خاطره، وأحسن إليه، وتلطف به، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك، فنهى الله عن نهر السائل وتقريعه، بل: أمر بالتلطف معه، وتطييب خاطره، حتى لا يذوق ذل النهر مع ذل السؤال”. (تفسير ابن كثير ) .

فربُّنا -سبحانَه- جَبَرَ خواطرَ عبادِه وطيِّبَ نفوسَهم، وتفرَّدَ بالكمالِ في ذلكَ، فكمْ مِنْ ضالٍ هداهُ، وفقيرٍ جَبَرهُ فأغنَاه، وضعيفٍ قوَّاهُ، ومظلومٍ أجابَ دعاءَه، ومحتاجٍ فرَّجَ همَّه ويسَّر أمرَه وأمضَاه، ومريضٍ شفَاهُ، ومبتلىً عافَاهُ، ومُضطَّرٍ أنجَاهُ، ومستغيثٍ ملهوفٍ أغاثَه وأعطَاهُ، وداعٍ لبَّى دُعاءَه، وسائلٍ أعطاهُ ما يتمنَّاهُ، ومكروبٍ فَرَّجَ عنْه وأزالَ كربَه وهدَاه، وحزينٍ واسَاه، ومهمومٍ مغمومٍ أزالَ همَّه وغمَّه وملأَ قلبَه فرحًا وسرورًا!، فلهُ الحمدُ والشكر -سبحانَه- على فضلِه وعظيمِ جودِه وكرمِه.

ومن هنا يجب علينا أن لا ننسى صاحب الحاجة والمسكين ، الذي انكسر قلبه ، وذلت نفسه ، وضاق صدره ، ما أجمل أن نجعل له من مالنا نصيب ، ومن طعامنا ولو الشيء القليل ،ومن دعائنا ما نستطيع، بذلك نجبر كسرهم ، ونطيب قلوبهم ولا نشعرهم بالنقص، قال أحمد بن عبد الحميد الحارثي: “ما رأيت أحسن خلقاً من الحسين اللؤلؤي، كان يكسو ممالكيه كما يكسو نفسه”. سير أعلام النبلاء (10/544).

لقد كان النبي ﷺ يحض أصحابه على جبر الخواطر ، ويجبر خاطرهم خاصة ، الضعفاء واليتامي ، والمكلومين ..

فقد كان النبي ﷺ (( يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم)) أخرجه الطبراني وسنده صحيح.

؛ لذلك جعله النبي ﷺ من أحب الأعمال إلى الله: عن عبدالله بن عمر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دينا ، أو تطرد عنه جوعًا..)) [صحيح الترغيب والترهيب].

وأكد على حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ، فمن جبر جبر ، ومن ستر ستر ، ومن فرج عن غيره فرج الله همه ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه ؛ بسبب جبر الخواطر وتفريج الكروب فقال صلى الله عليه وسلم : ((من نفَّسَ عن مسلمٍ كُربةً مِن كُربِ الدُّنيا نفَّسَ اللَّهُ عنهُ كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ ، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ في الدُّنيا يسَّرَ اللَّهُ عليهِ في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سترَهُ اللَّهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه)) [متفق عليه]..

والكربة: هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الهم والغم، فمن استطاع أن يكشف عن أخيه كَرْبَه، ويرفع عنه غمه، فقد وفق بذلك إلى أفضل الأعمال ..

فإن نفست عن مؤمن كربة ألَا تجبر بذلك خاطره؟ وإن يسرت له ما تعسر من شؤونه ألا تجبر بذلك خاطره؟ وإن سترت عيبه وحفظت سره ألَا تطمئن قلبه وتهدِّئ من روعه وتجبره؟ .

وجبر النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَارْزُقْنِي وَارْفَعْنِي ) .

أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح ..

وعندما جاء فقراء المهاجرين مكسوري الخاطر وقالوا : يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: “أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ ..» رواه مسلم.

ومما جاء في السنة النبوية الشريفة أيضاً عن جبر النبي ﷺ لخوطر الفقراء والبسطاء..

حديث سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كَانَتِ الأَمَةُ مِن إِمَاءِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النبيِّ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيثُ شَاءَتْ”. أخرجه الإمام البخاري .

وإليكم هذه القصة المؤثرة التي تأخذ بالعقول والقلوب.. وهذه القصة للصحابي زاهر بن حرام رضوان الله تعالى عليه أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صححه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية في الجزء الأول حديث رقم (204) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ” . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ ؟ ” فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا وَاللهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ: ” لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ ” ) .

♦♦♦

العنصر الثالث : صور من جبر الخواطر

من صور جبر الخواطر :

سدُّ حاجاتِ الفقراءِ والمساكينِ والأراملِ والأيتامِ والمعسرينَ وغيرِهم، مِمَّنْ يعانُونَ المرارةَ ببذلِ المالِ لهم، وقضاءِ حوائجِهم، والسَّعيِ في تيسيرِ أمورِهم.

ومنها : الكلمةُ الطيبةُ يَتَكلَّمُ بها العبدُ؛ فتكونُ سببًا في إزالةِ الهمِّ والحزنِ والآلامِ، وإدخالِ الفرحِ والسرورِ والسكينةِ والاطمئنانِ على أخيهِ المسلمِ.

ومنها: اعتياد الابتسامةِ والبشاشةِ على القريبِ والبعيدِ ،والتهنئةُ، والمصافحةُ والمعانقةُ، والمشاركةُ في سرور وفرح، أو في بكاء وترح، وهيَ سببٌ عظيمٌ في تأليفِ القلوبِ ،وإزالةِ الشحناءِ عن الصدورِ ، وجابرةٌ لخواطرِ الضعفاءِ والفقراءِ وأصحابِ الحاجاتِ.

ومنها: تعزيةُ أهلِ الميِّتِ عندَ فَقْدِ ميِّتهِم ، وتَسليتُهم ومواساتُهم وتخفيفُ مصابهِم .

ومواساةُ مَنْ حَصَلَتْ لهُ مصيبةٌ في نفسِه مِنْ مرضٍ أو بلاءٍ في جسدِه، أو في مالِه بفقدِه، أو فَقَدَ أحدًا من أهلِه أو أقاربِه بسببِ موتٍ أو حادثةٍ، أو غيرِ ذلكَ من الابتلاءاتِ.

ومنها: السعيُ في قضاءِ حوائجِ الناسِ، وتفريجُ الكروبِ وتيسيرُ الأمور..

ومنها: شراءُ غرضٍ من بائعٍ فقير أو متجوُّلٍ في حَرِّ الشمسِ، يسيرُ على قدميهِ باحثًا عن رزقِه؛ مساعدةً له وجبرًا لخاطرٍه.

ومنها: قبولُ اعتذارِ المخطئِ، والصَّفْحُ عنه ومسامحتُه ..

ومنها: البحثُ عن أصحابِ الحاجاتِ وبذلُ المالِ والمساعدةُ لهم؛ تأليفًا لقلوبِهم، وتطييبًا لنفوسِهم، وجبرًا لكسرِ حرمانِه..

فمن يجبر خاطر المستضعفين في فلسطين، الذين يعانون المرار ، ويتحملون ما لا يتحمله الجبال صباح مساء أمام مريء ومسمع من العالم أجمع ، ويقف بجانبهم بما يستطيع ؟!.

اللهم احقن دمائهم ودماء جميع المسلمين في كل مكان يا رب العالمين..

هذه بعضُ صورِ جبرِ الخواطرِ وهناك الكثيرُ غيرُها، فاحرصوا على هذا الخلق العظيم..

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل جعفر أمهلهم ثلاثاً، ثم ذهب إلى أهل بيته يعزيهم، فذهب إلى أسماء بنت عميس ،وكان عليه الصلاة والسلام يمسح على رءوس أطفاله اليتامى، ويطمئنهم ويطمئن أمهم.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ :

« إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ ».

أخرجه الإمام البيهقي وسنده حسن..

وجد أمهم تبكي وتخاف عليهم العيلة، أي: الفقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئناً لهذه الأرملة آنذاك ( أتخشين العيلة عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ل عبد الله بن جعفر دعوة بقيت له طيلة حياته، قال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم بارك لـ عبد الله بن جعفر في صفقة يمينه ) فكان لا يبيع ولا يشتري شيئاً إلا ربح فيه، حتى التراب، فجعل الله له الربح ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليوصل كل من ابتلي، وليعز كل مصاب، وليعد كل مريض، شرعت عيادات المرضى، وشرعت التعازي في الجنائز، وشرع الرفق بالأيتام والحنو عليهم، وشرعت الشفقة على الأرامل؛ شرع كل ذلك تخفيفاً للجراح التي يبتلى بها العباد، وقد أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا كله في جاهليته قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام ..

أخرج ابن حبان في صحيحة عَنْ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ “كان له إبن صغير وكان يجلس مع أبيه في المسجد وكان من شدة حبه لولده يتابعه ببصره ” ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ذَاتَ يَوْمٍ : أَتُحِبُّهُ يَا فُلاَنُ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ الله أَحَبَّكَ الله كَمَا أُحَبَّهُ” يقول له يارسول الله ربنا يحبك كما أحب إبني كأنه يقول له أن أحبه حبا لم يخطر علي قلب بشر ” فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم ،” فقده النبي في المسجد فقال النبي أين فلان ” فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ الله مَاتَ ابْنُهُ ” فحزن الرجل علي فراقه ووجد في نفسه فاعتزل في بيته فأراد النبي أن يجبر خاطره فَعَزَّاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا فُلاَنُ أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ أَنْ تُمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ أَوْ لاَ تَأْتِىَ غَدًا بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلاَّ وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ فَفَتَحَهُ لَكَ ». قَالَ فَقَالَ : يَا نَبِىَّ اللَّهِ لاَ بَلْ يَسْبِقُنِى إِلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَحَبُّ إِلَىَّ قَالَ :

« فَذَاكَ لَكَ » فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ الله أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِكُلِّنَا ؟ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : بَلْ لِكُلِّكُمْ ) جبر خاطر من أصيب بمصيبة ..

من أهم صور جبر الخواطر أيضاً جبر خاطر المُصاب، اسمعوا إلى سيدنا جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضيَ اللهُ عنهُما- وهو يذكرُ كيفَ جبرَ بقلبِه النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لمَّا لاحظَ عليه الحُزنَ والانكسارَ، يقولُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِي: “يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟”، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: “أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟”، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ-: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ”؛ فيا اللهَ، هل تتصوروا حالَ جابرٍ، بعدَ هذا الخبرِ الجَابرِ؟.

جبر خاطر المريض ..

بعبادته والتزام آدب الإسلام في عيادة المريض ، وبث روح الأمل للمريض في الشفاء ، وفي رحمة الله ، وكذلك الدعاء..

قل للمريضِ: شفاكَ اللهُ وعافاك ، وأعانَك وكتبَ لكَ الأجرَ وأثابكَ، وأبشرْ؛ فقد وعدَ اللهُ -تعالى- الصَّابرينَ أجراً بغيرِ حسابٍ، وإنما هي ساعاتٌ وأيامٌ ثُمَّ مردُّنا جميعا إلى يومِ الحسابِ، ثُمَّ الجزاءُ والعَطاءُ والجنَّةُ .

والمريض في معية الله ، وصحبته ، ففي (صحيح الإمام مسلم) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله -عز وجل- يقول يومَ القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب كيف أعودك وأنتَ رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مَرِضَ فلم تعده، أما علمتَ أنك لو عدتَه لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتُكَ فلم تطعمني؟ قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استستقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيتَه وجدتَ ذلك عندي؟”.

جبر خاطر الفقير ..

قل للفقيرِ: انظرْ إلى أمسِك فقدْ ذهبَ بما فيه من خيرٍ وشرٍّ، وفي الغدِ رزقٌ سيأتيكَ سواءٌ كنتَ في برٍّ أو في بحرٍ، وليسَ بينكَ وبينَ الغنيِ إلا يومُك هذا، فاصبر.. وادعُ له: رزقكَ اللهُ -تعالى- من واسعِ فضلِه..

♦♦♦

العنصر الرابع : أثر جبر الخواطر في النفوس..

لجبر الخواطر في حياة الإنسان أثر لا ينسى مهما اختلفت الأحوال وتغير الزمان ، وجبر الخواطر يمكننا العثور عليه دائمًا في شتى الأمور، وإن لم يذكر صراحةً نستدل عليه من أثره ، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها، فالكلمة الطيبة والموقف الطيب يكونُ سبباً في مداوة القلوب ، و نهايةِ الآلامِ ..وكما أن جبر الخواطر له أثرٌ طيب في النفوس، فإن كسر الخواطر قد يحدث أثرًا سيئًا في نفس الإنسان، فرُبَّ كلمة قيلت من شخص كانت سببًا في تدمير سعادة آخرين، فالكلمة قد تجبر وقد تجرح، الكلمة تصل إلى القلب ويحللها العقل، وربما يستمر التأثير حتى يصل إلى جميع الجوارح، فكم من مبدع قتلت إبداعه كلمات المثبِّطين، وكم من مريض تحطمت معنوياته بسبب عبارات بعض الزائرين، وكم من مجتهد في عمله أصبح متكاسلًا بسبب كسر خاطره وعدم تقدير جهده من المسؤولين، ولكن ينبغي على المسلم أن يحرص على ألا تفتَّ عزمه إساءة الآخرين، أو تجاهل الغافلين، وأن يمضي قُدمًا في همة عالية، كعلو الجبال الراسية، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

وكثير من لحظات الحياة تمر وتنقضي وتمسح من الذاكرة وتنمحي ، ولا يبقى في الذاكرة ولا يثبت في جدرانها إلا أسماء أولئك الذين وقفوا معك وأنجدوك وجبروا خاطرك وأسعفوك ..

لا شك أن كل واحد منا يحمل في فكره ويدخر في ذاكرته اسم شخص سجل أمامه موقفاً أو ردَّ عنه سوءاً بفعل أو قول أو رسالة مثبتة أو كلمة مشجعة جبرت خاطره وأثلجت فؤاده. .. فهو لا ينساها له كما لم ينس النبي -عليه الصلاة والسلام- موقف المطعم بن عدي ، عندما وقف المطعم ضد رغبة صناديد قريش ، حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزيناً أسيفاً ، فهذا الموقف لاينسى في حياة النبي ﷺ..

ولا شك أن كل إنسان منا قد حُفر في ذاكرته أشخاص كان لهم الدور الفاعل والعمل الدؤوب بمواقف سطرت وحفظت، سواء بالقول أو الفعل أو رسالة أو فكرة أو كلمة خير، جبرت نفوسًا، وأثلجت صدورًا، فهذه المواقف تحفظ ولا تنسى، كما لم ينسَ النبي عليه الصلاة والسلام موقف المطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزينًا أسيفًا، فقال يوم أسر أسرى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا، وكلمني في هؤلاء النَّتْنَى لأجبته فيهم)) [صحيح البخاري].

وكما لم ينس الإمام أحمد أبا الهيثم فكان يدعو له في كل صلاة: اللهم اغفر لأبي الهيثم. .. اللهم ارحم أبا الهيثم. .. قال ابن الإمام له: من يكون أبو الهيثم حتى تدعو له في كل صلاة، قال: رجل لما مُدت يدي إلى العقاب وأُخرجت للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني ؟ قلـت: لا. قال أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين.

وجبر الخواطر يعني فيما يعنيه تثبيت الآخر ورفع همته وتهوين مصيبته وإقالة عثرته والأخذ بيده حتى يقف على قدمه ..

وختاماً:

يا إخوة الإسلام إنَّ جَبْرَ الخواطِر خُلقٌ عظيمٌ ، وسجيَّةٌ تَدلُّ على سموِّ نفسِ صاحبِهَا، ورجاحةِ عقلِه وسلامةِ صدرِه، وإنَّ أفضلَ الناسِ جبرًا لخواطرِ إخوانِهم ورأفةً ورفقًا بهم ، وتجاوزًا عن هفواتِهم والتماسَ الأعذارِ لأخطائِهم والسعيَ في حوائِجهم وحُبِّ الخيرِ لهم، وأشدَّهم حرصًا على إدخالِ السرورِ عليهم؛ هم أصحابُ القلوبِ الرحيمةِ والنفوسِ الطيبةِ الزَّكيةِ، وهؤلاءِ همْ أسعدُ الناسِ قلبًا ، والفائزونَ برحمةِ ربِّهم ورضوانِه وجنَّتِه، يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ: “مَنْ سارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخواطرِ أَدْرَكَهُ اللهُ في جَوفِ المخاطرِ”.

جبر الخواطر مالك إذا لم يكن عندكَ مالٌ تعينُ به على نوائبِ الأيامِ:

لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ *** فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ ..

وليكن لأهلك من جبر القلوب نصيب ، الوالدين والزوجة والأبناء، والإخوة والأخوات ..

اللهم إنك ترى مكانَنا وتسمعُ كلامَنا وتعلمُ سرَّنا وعلانيتَنا، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمرِنا، نسألُك مسألةَ المساكينِ، ندعوك دعاء الخاشع المذنب الذليل ، دعاءَ من خشعتْ لك رقابُهم، وذَلتِ لك أجسادُهم، وفاضتْ لك عيونُهم، ورغمتْ لك أنوفُهم ، اللهم أصلحْ فسادَ قلوبِنا، اللهم اجبر كسرنا وارحمْ ضعفَنا، وحَسِّنْ أخلاقَنا..

اللهم أرنا في الصهاينة عجائب قدرتك ، وكن للمستضعفين عونا وسندا ونصيرا وظهيرا ، واحفظ بلدنا مصر وسائر بلاد المسلمين أجمعين ، يارب العالمين ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.