وبعد : فالعبادات في الإسلام ليست طقوسا أو شعائر مجردة من المعنى والمضمون، بل إن كل عبادة تحمل في جوهرها قيمة أخلاقية مطلوب أن تنعكس على سلوك المسلم المؤدي لهذه العبادة ؛ ليحيا بها المجتمع المسلم..
والعبادة علاقة بينك وبين ربك، أما السلوك فهو علاقة بينك وبين الناس. ولابد أن تنعكس العلاقة بينك وبين ربك على العلاقة بينك وبين أفراد المجتمع، فتحسنها وتهذبها، وإلا فما علاقة أن الصلاة – مثلا – تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما في قوله تبارك وتعالى: ] إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ العنكبوت: 45 ؟!!
كما أن العبادة، وإن كانت هي علاقة بينك وبين ربك، إلا أن السلوك يتجلى فيها أيضا. ففي الصلاة، أنت مأمور في أداء الصلاة في جماعة، لكي تحتك بالناس وتتفاعل معهم. والمرأة مأمورة بعدم الخروج للمسجد متعطرة متبرجة حتى لا تفتن الرجال. وفي الزكاة، إذا أعطيت المحتاج مالا ثم مننت عليه، فقد أبطلت صدقتك. وفي الحج، أنت مأمور بضبط الأخلاق أثناء الزحام. وهكذا، ففي كل عبادة، يتجلى مظهر من مظاهر السلوك، الذي يجب أن تتحلى به وتلتزم به.
وبهذا يتبين أن العبادات تؤسس لترسيخ القيم النبيلة فيما بين أفراد المجتمع.
والأخلاق ليست سلوكيات مجردة فرضتها الأعراف والتقاليد أو فرضها الواقع لحاجته إليها، بل هي عبادة لله في دين الإسلام يترتب عليها الأجر والمثوبة والجزاء والحساب والجنة والنار، بل تعتبر علامة على كمال الإيمان عند الفرد المسلم، عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا وخيارُكم خيارُكم لأهلِه “.
أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح.
لقد حَثَّ الإسلامُ على التخلُّقِ بالأخلاقِ الحَسنةِ، ورفَع شأنَها، وبيَّن أهميتَها ومكانتَها العُظمى، وأيضًا حثَّ على العِشرةِ الطيِّبةِ للأهلِ ومُعاملتِهم بالمعروفِ .(الدرر السنية).
ويوم القيامة تظهر أهمية الأخلاق، ودرجة صاحبها العالية ومنزلته عند ربه..
فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ “. أخرجه أبو داود وسنده صحيح..
وحسن الأخلاق أثقل ما في ميزان المؤمن من أجر وثواب في ذلك اليوم الذي يحتاج فيه الإنسان إلى حسنة واحدة تكون سبباً لنجاته؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: “ما من شيءٍ أثقلُ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ من خُلقٍ حسنٍ وإنَّ اللهَ يُبغضُ الفاحشَ البذيءَ”. أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح.
و ضمن النبي ﷺ أعلى منزلة في الجنة لأصحاب الأخلاق الحسنة قال عليه الصلاة والسلام : “أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا ، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا ، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه.”. أخرجه أبو داود وسنده صحيح..
العنصر الأول ..
معاني حسن الخلق
حُسْنُ الْخُلُقِ هو كل معنى جميل ، وسوء الْخُلُقِ هو كل معنى قبيح ..
ومن معاني حُسْن الخُلُقِ: التحلي بالْفَضَائِلِ، والتخلي من الرَّذَائِلِ.
وقال الماوردي في تعريف حسن الخلق، ووصف حَسَنِ الخُلق: أن يكون سهل العريكة، ليِّن الجانب، طليق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة(أدب الدنيا والدين).
وفي وصية جامعة مانعة، للحبيب محمدٍ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
وقال السعدي: حُسْنُ الْخُلُقِ: احتمال الجنايات، والعفو عن الزلات، ومقابلة السيئات بالحسنات، وقد جمع الله ذلك في آية واحدة وهي قوله: ﴿ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199] .
أَلا إِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ وَإِنْ نَمَتْ
فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا تَفُوقُ عَلَى الْكُلِّ
وَقَارٌ بِلا كِبْرٍ وَصَفْحٌ بِلا أَذَى
وَجُودٌ بِلا مَنٍّ وَحِلْمٌ بِلا ذُلِّ
وقد قيل: الدينُ كلُّه خلقٌ، فمن زاد عليك في الخُلُق؛ فقد زاد عليك في الدِّين ..
والمرء بالأخلاق يسمو ذِكرُهُ***وبها يُفضَّل في الورى ويُوقّرُ
لا يسمي الكريم كريمًا حتى تستوي عنده صدقةُ السرِّ وصدقةُ العلانية، ولا العفيف عفيفًا حتى يعفَّ في حالة الأمن كما يعف في حالة الخوف، ولا الصادق صادقًا حتى يصدق في أفعاله صدقه في أقواله، ولا الرحيم رحيمًا حتى يبكي قلبُه قبل أن تبكي عيناه، ولا المتواضعَ متواضعًا حتى يكون رأيُّه في نفسه أقلَّ من رأي الناس فيه.
صَلَاحُ أَمْرِكَ لِلأَخْلاَقِ مَرْجِعُهُ
فَقَوِّمِ النَّفْسَ بِالأَخْلَاقِ تَسْتَقِمِ
وَالنَّفْسُ مِنْ خَيْرِهَا فِي خَيْرِ عَافِيَةٍ
وَالنَّفْسُ مِنْ شَرِّهَا فِي مَرْتَعٍ وَخِمِ
ويقول: تسألونني ما اﻷخلاق؟ أقول: هي الدمعة التي تترقرق في عين الرحيم كلما رأت منظرًا من مناظر البؤس، أو منظرًا من مناظر الشقاء .
إن معظم بلاد العالم الإسلامي اليوم ما دخلها الإسلام إلا بأخلاق القرآن!
فَبِذِي الأَخْلاقِ قُدْنَا أُمَمًا
وَتَحَدَّيْنَا بِهَا أَعْدَى الأَعَادِي
عُدْ إِلَيْهَا رَافِعَ الرَّأْسِ وَقُلْ
هَذِهِ قَافِلَتِي وَالزَّادُ زَادِي
إنَّ حياتنا اليوم حربٌ لا ينتصر فيها إلاَّ الأخلاق…
وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
وليس بعامرٍ بنيان قومٍ
إذا أخلاقُهم كانت خرابا
الإسلام محجوب بأهله، والمسلمون في جُملتهم اليوم كدابَّةٍ على رأس بئرٍ عذبة، لا هي شَرِبتْ ولا تركت الناس يستسْقون ويشربون.
وما أدقَّ وصف الشاعر لحالنا! حين قال:
بَحَثْتُ عَن الأَدْيَانِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا
وَجُبْتُ بِلادَ اللهِ غَرْبًا وَمَشْرِقَا
فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلامِ أَدْعَى لأُلْفَةٍ
ولا مِثْلَ أَهْلِيهِ أَشَدَّ تَفَرُّقَا (الألوكة)..
أيها المسلمون : لقد حدَّد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم الغايةَ الأولى من بعثته، والمنهاج المبين في دعوته بقوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» .أخرجه الإمام البيهقي وسنده صحيح..
قال الداعية الشيخ محمد الغزالي: “كأن الرسالة التي خطتْ مجراها في تاريخ الحياة، وبذلَ صاحبُها جهدًا كبيرًا في مدِّ شعاعها وجمعِ النّاس حولَها، لا تنشدُ أكثرَ من تدعيم فضائلهم، وإنارةِ آفاق الكمالِ أمامَ أعينهم، حتى يسعوا إليها على بصيرة” (خلق المسلم).
العنصر الثاني . أقسام الأخلاق البشرية..
أوَّلًا: أقسامُ الأخلاقِ .
تَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: أخلاقٌ فِطريَّةٌ، وأخلاقٌ مُكتَسَبةٌ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (فإن قُلتَ: هَل يُمكِنُ أن يَقَعَ الخُلُقُ كَسْبيًّا، أو هو أمرٌ خارِجٌ عنِ الكَسبِ؟
قُلتُ: يُمكِنُ أن يَقَعَ كَسبيًّا بالتَّخَلُّقِ والتَّكَلُّفِ حتَّى يَصيرَ له سَجيَّةً ومَلَكةً).
واستَدَلَّ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأشَجِّ عَبدِ القَيسِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((إنَّ فيك خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلمُ والأناةُ، قال: يا رَسولَ اللهِ، أنا أتَخَلَّقُ بهما أم اللهُ جَبَلني عليهما؟ قال: بل اللَّهُ جَبَلك عليهما، قال: الحَمدُ للَّهِ الذي جَبَلني على خَلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورَسولُه)) .
قال: (فدَلَّ على أنَّ منَ الخُلُقِ ما هو طَبيعةٌ وجِبلَّةٌ، وما هو مُكتَسَبٌ. وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في دُعاءِ الاستِفتاحِ: ((اللَّهمَّ اهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عنِّي سَيِّئها لا يَصرِفُ عنِّي سَيِّئَها إلَّا أنتَ)) ، فذَكَرُ الكَسبَ والقَدَرَ. واللهُ أعلمُ) .
(إنَّنا نَجِدُ مَثَلًا الخَوفَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ الطَّمَعَ الفِطريَّ عِندَ بَعضِ النَّاسِ أشَدَّ منه عِندَ فريقٍ آخَرَ، ونَجِدُ فريقًا منَ النَّاسِ مَفطورًا على سُرعةِ الغَضَبِ، بَينَما نَجِدُ فريقًا آخَرَ مَفطورًا على نِسبةٍ ما منَ الحِلمِ والأناةِ وبُطءِ الغَضَبِ.
هذه المُتَفاوِتاتُ نُلاحِظُها حتَّى في الأطفالِ الصِّغارِ الذينَ لم تُؤَثِّرِ البيئةُ في تَكوينِهمُ النَّفسيِّ بَعدُ.
وقد جاءَ في أقوالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُثبِتُ هذا التَّفاوُتَ الفِطريَّ في الطِّباعِ الخُلُقيَّةِ وغَيرِها:
منها ما رَواه الإمامان البُخاريُّ ومُسلِمٌ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((النَّاسُ مَعادِنُ كمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خيارُهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا)) .
ومنها: ما رَواه الإمام أحمَدُ في مُسنَدِه بإسنادٍ صَحيحٍ عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ من قَبضةٍ قَبَضَها من جَميعِ الأرضِ، فجاءَ بَنو آدَمَ على قَدرِ الأرضِ؛ جاءَ منهمُ الأبيَضُ والأحمَرُ والأسوَدُ وبَينَ ذلك، والخَبيثُ والطَّيِّبُ والسَّهلُ والحَزْنُ وبَينَ ذلك)) .
وفي قَولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “النَّاسُ مَعادِنُ”دَليلٌ على فُروقِ الهِباتِ الفِطريَّةِ الخِلقيَّةِ، وفيه يُثبِتُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ خيارَ النَّاسِ في التَّكوينِ الفِطريِّ هم أكرَمُهم خُلقًا، وهذا التَّكوينُ الخُلُقيُّ يُرافِقُ الإنسانَ ويُصاحِبُه في كُلِّ أحوالِه. فإذا نَظَرْنا إلى مَجموعةٍ منَ النَّاسِ غَيرِ مُتَعلِّمةٍ ولا مُهَذَّبةٍ، أو في وسَطِ مُجتَمَعٍ جاهليٍّ، فإنَّه لا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم أحاسِنُهم أخلاقًا، فهم خَيَرُهم مَعدِنًا، وأفضَلُهم سُلوكًا اجتماعيًّا، ثمَّ إذا نَقَلْنا هذه المَجموعةَ كُلَّها فعلَّمْناها وهَذَّبْناها وأنقَذْناها من جاهليَّتِها، ثمَّ نَظَرْنا إليها بَعدَ ذلك نَظرةً عامَّةً لنَرى من هو أفضَلُهم، فلا بُدَّ أن يَمتازَ في نَظَرِنا من بَينِهم من كان قدِ امتازَ سابقًا؛ لأنَّ العِلمَ والتَّهذيبَ والإيمانَ تَمُدُّ من كان ذا خُلُقٍ حَسَنٍ في أصلِ فِطرَتِه، فتَزيدُه حُسنَ خُلُقٍ واستِقامةَ سُلوكٍ)(موسوعة الأخلاق. الدرر السنية)..
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أحِبُّ مكارِمَ الأخلاقِ جَهدي
وأكرَهُ أن أعيبَ وأن أُعابا
وأصفَحُ عن سِبابِ النَّاسِ حِلمًا
وشرُّ النَّاسِ مَن يهوى السِّبابا ..
ومن هابَ الرِّجال تهيبوهُ · ومنْ حقرَ الرِّجال فلن يهابا.. ديوان الإمام الشافعي..
العنصر الثالث ..
الواقع التطبيقي والافتراضي للأخلاق..
المتأمل في واقع الحياة يجد انفصاما شخصيا في حياة المسلمين ، فرق بين الاعتقاد والواقع الأخلاقي،
ويجد اختلاف حال بعض الناس في الواقع الافتراضي عن حالهم في الواقع الاجتماعي الحقيقي، فوسائل التواصل الاجتماعي أضحت معنا في جميع حركاتنا وسكناتنا، من يتصفحها ويشاهدها ويتابعها يلمس ذلك تمامًا، فتجد أناسًا همهم في الصباح والمساء إرسال ما يصل إليهم من أدعية وأذكار وآيات وأحاديث لأصدقائهم ومحبيهم، وهذا شيء طيب ،وعمل دعوي فيه نوع من التذكير، ولكن ما إنْ تلقى هذا الرجل في الواقع الحقيقي لوجدت أخلاقه مختلفة تمامًا عما يرسله صباح مساء ، في تعاملاته وأخلاقه ، وربما لا يلقي على أخيه المسلم السلام ، ولا يزوره إذا مرض ، وربما لا يشيع جنازته !! ..
لا ريب أن أخلاق كثير من الشباب على مواقع التواصل في واد ، و الواقع الحقيقي في واد آخر تمامًا!!. وصنف آخر نجدهم في المساجد في الصفوف الأولى ، وفي مواقع التواصل صفحاتهم مليئة بالآيات والأحاديث والمواعظ، وما إنْ تخالف مصلحتهم مصلحة الشرع في قضية أو حكم شرعي حتى يقدموا مصلحتهم وهوى أنفسهم على حكم الشرع. وبعيدًا عن التطبيق للأخلاق في الواقع نجد مسألة أخرى وقع فيها الناس بمواقع التواصل وهي الحوار في مسائل خلافية عقدية أو فقهية أو في مسائل الواقع المعاصر ، فينتقل الحوار من الحوار الهادئ إلى الحوار الغاضب، حتى يصل الأمر بالمتحاورين إلى الشتم والسب ، أو الحظر من الصفحة ، أو التكفير العلني مما يزيد البغضاء والشحناء فيما بين الناس..
إن واقعنا يبعث على الأسى، إننا نعيش أزمة أخلاق في العالم الافتراضي والحقيقي. (الجزيرة نت).
ومما لا شك فيه أن حضارات الأمم تبني بالأخلاق والقيم وأن انهيارها مرتبط بالانحلال والانحراف عن منهج الله الواحد الأحد.
يقول ابن خلدون: “إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في بلاد الأندلس وأدى فيما أدى إلى ضياعها”.
وأدرك هذه الحقيقة أيضًا أحد كتاب النصارى واسمه “كوندي” حيث قال: “العرب هووا “تخلفوا وتراجعوا” عن ركب الحضارة عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات”، وصدق الله العظيم القائل: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)[الإسراء:16].
إن من أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس هو العامل الأخلاقي، وسقوط الأندلس بدأت معالمه ومظاهره قبل سقوط غرناطة بوقت مبكر، و ذلك بعد أن قام على أنقاض الدولة الأموية بالأندلس العديد من الدويلات الإسلامية المتناحرة المتنازعة ..
فضلا عن الخلاعة والمجون حيث كان شرب الخمور والاستغراق في الملذات والإكثار من الجواري والنساء كان ذلك قاسمًا مشتركًا بين كثير من ملوك الطوائف، وغرقوا في مستنقع الفواحش والرذيلة، ويبدو هذا جليًّا لكل من طالع أخبارهم ..
فما أشبه الليلة بالبارحة ، فحالنا في هذه الأيام من جهة استعلاء عدونا علينا ، وتمكنه منا إنما هو منا ، ” أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير .” آل عمران/١٦٥. فقد بعدنا وبعدنا جداً عن ديننا ، وانتشرت رذائل الأخلاق بيننا ، وتشبهنا بل ووالينا أعداءنا ، وتفرقنا شذر مذر ، ويوم أن نعود إلى ديننا سيعود لنا عزنا
وختامًا : يا أمة الإسلام جميعنا يعلم قيمة الأخلاق وأهميتها في هذا الدين ولكن عند التطبيق نجد كثيرًا من الناس يتناسون ذلك..
جميعنا يعلم أن الأخلاق في الإسلام تتبوأ أعظم المواقع.. ويكفي أن صاحب الخلق الحسن قدوته النبي ﷺ صاحب الخلق العظيم ..
قال تعالى:﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم/٤]..
قصة إسلام والدة أبو هريرة رضي الله عنه..
من أروع القصص دعاء النبي ﷺ لوالدة صاحبه أبو هريرة رغم سبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
كانت والدة أبي هريرة -رضي الله عنه- مُشرِكةً، فقام بدعوتها إلى الإسلام ومحاولة تحبيبها فيه، فقامت بسبِّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فحزن أبو هريرة جداً من سباب رسول الله وغضب له، فذهب إليه يبكي ويقول: يا رسول الله، إنَّ أمي قامت بسبِّك، فادعُ الله لها أن يهدِيَها للإسلام وهذه القصة بتمامها ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :”كنْتُ أَدْعُو أُمِّي إلى الإسْلَامِ وَهي مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فأسْمعتْنِي في رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ما أَكْرَهُ، فأتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إلى الإسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا اليومَ فأسْمعتْنِي فِيكَ ما أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إلى البَابِ، فَإِذَا هو مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقالَتْ: مَكَانَكَ يا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ المَاءِ، قالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عن خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ البَابَ، ثُمَّ قالَتْ: يا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قالَ: فَرَجَعْتُ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فأتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الفَرَحِ. قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ؛ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وَقالَ خَيْرًا، قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إلى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إلَيْنَا، قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إلى عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إلَيْهِمِ المُؤْمِنِينَ، فَما خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بي وَلَا يَرَانِي إلَّا أَحَبَّنِي”. أخرجه الإمام مسلم
يعدُّ تصرُّف النبي ﷺ وتصرف الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- مع أمِّه حين سبَّت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصرُّفاً نابعاً من حُسن الخلق والأدب في التَّعامل كبار السن ومع الوالدين؛ حيث لم يغضب النبي ﷺ لنفسه وراعى نفسية هذه المرأة وراعى صاحبه الذي غضب لرسول الله ، ولكنَّ غضبه لم يجعله يسيء الأدب مع والدته، بل ذهب وطلب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لها..
يا أمة الحبيب محمد عودوا إلى أخلاق الإسلام وأخلاق نبيكم، فهي دين وعبادة، وبها النجاة يوم القيامة، ولا تنفع كثرة العبادات والطاعات من دون أخلاق حسنة وسلوكيات طيبة وحب وتراحم يملأ القلوب.
وهل من عودة يا أمة الإسلام لأخلاق القرآن والسنة والسلف الصالح؟ هل من يقظة يا شباب الإسلام! ترشد إلى المثُل العليا، وتُبعد عن سفاسف الأخلاق ومساوئ الأعمال؟ لتكن مواقع التواصل الاجتماعي مثالًا لأخلاق رفيعة فيما بيننا نحفظ فيها الود وإنْ اختلفنا ولا نُشهِر بالآخرين في مسائل خلافية لا ينتهي جدلها في كل موسم تأتي به. ولتكن أخلاقنا في الواقع الافتراضي والواقع الحقيقي مثالًا واحدًا للمحبة والتسامح والتطبيق العملي للإسلام والخلق الحسن..
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وكن للمستضعفين في كل مكان معين ، واحفظ مصر وسائر بلاد المسلمين ..