خطبة بعنوان : كيف يحبك الله ؟! “الأسباب والعلامات” للدكتور محمد جاد قحيف

كيف يحبك الله ؟! ..”الأسباب والعلامات”

الدكتور محمد جاد قحيف

من علماء الأزهر والأوقاف

الحمد لله الذي خلق الخلق فأبدعه ، وسن الدين وشرعه ، وقدر الرزق ووسعه ، لا معز لمن وضعه ، ولا مذل لمن رفعه ، ولا إله إلا هو ولا شريك معه .. وبعد :

فيا أخا الإسلام ما هو شعورك لو قيل لك أن عالمًا من كبار العلماء يثني عليك خيرًا ويصرح بحبه لك؟

بل ما هو شعورك لو علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبك؟

وأعظم من ذلك: ما هو شعورك لو تبين لك أن ربنا -جل في علاه- يقول عنك: “إني أحب فلانًا”؟

محبة الله تعالى للعبد غاية المنى، ونعمة عظمى..بل هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات ..

عن عبد الواحد بن زيد -رحمه الله- قال: “خرجت إلى ناحية الخريبة، فإذا رجل أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأُقعِد، وإذا هو يزحف، وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه، فرأيته يُحرك شفتيه يناجي ربه ، فدنوت منه لأسمع ما أقول، فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم إنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ،ونشرت عظمي بالمناشير، ما ازددت لك إلا حبًا، فاصنع بي ما شئت”..ملتقى الخطباء..

العنصر الأول ♦♦♦.

طرق حب الرحمن للعبد..

أيها الأحبة الفضلاء إن الله تعالى يُحب من خلقه عباده الأتقياء الأنقياء ، أهل الإيمان والوفاء ، وقد أرشدنا الله -سبحانه وتعالى- ورسوله ﷺ إلى الطرق المجلبة لحب الرحمن للعبد ومنها:

١-التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ..

فمما يحبه الله -تعالى- التقرب إليه بالفرائض والنوافل، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ اللهَ -تعالى- قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّه”..

ومن هنا فإن أهم الأعمال التي تَجْلِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَكَ: أَصْلُها الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَقْوَى إِيمَانًا وَأَكْثَرَ عَمَلًا صَالِحَاً ازْدَادَ مَحَبَّةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى..

٢- الإكثار من ذكره :

ومما يحبه الله الإكثار من ذكره –تعالى-، فمن أحب الله -تعالى- أكثر ذكره، ومن أعظم ما يُذكر الله -تعالى- به تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه ،فإذا اجتمع قوم يذكرون الله ويتلون كتابه كان ذلك علامةً على محبتهم لله ومحبة الله -تعالى- لهم، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ, وحفّتهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده”.

٣- التوكل والاعتماد على الله:

ومما يحبه الله التوكل والاعتماد على الله في كل الأمور والأحوال ؛ فإن ذلك سبب لحب الله للعبد ..

قال تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]..

فيا أخي لا تعتمد على حولك و قوتك، ولا جِدِّك ولا اجتهادك، لا تعتمد على واسطتك أو قرابتك، اعتمد على الله ،ووكله شأنك كله، فذلك علامة على محبتك لله وسبب لمحبته لك..

٤-حسن الخُلق:

حسن الخُلق سبب من أسباب محبة الله -تعالى- للعبد..

عن أسامة بن شَريك -رضي الله عنه-: كُنَّا جلوسًا عندَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كأنَّما على رؤوسِنا الطَّيرُ ما يتكلَّمُ منَّا مُتكلِّمٌ، إذ جاءه ناسٌ فقالوا: مَن أحبُّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ تعالى؟ قال: “أحسَنُهم أخلاقًا” أخرجه الحافظ المنذري بصيغة التصحيح..

كما أن حسن الخلق سبب لحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرب من مجلسه في الآخرة..

عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إنَّ أحَبَّكم إليَّ وأقرَبَكم منِّي في الآخرةِ أحاسِنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا، المُتشدِّقونَ المُتفيهقونَ الثَّرثارونَ”أخرجه الترمذي وسنده صحيح..

٥- العدل والسماحة في المعاملات ..

السُّهولَةُ واللِّينُ في مُعاملَةِ النَّاسِ في جميعِ نواحِي الحياةِ مِن محاسِنِ الأخْلاقِ الَّتي حثَّتْ عليها الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ، وأثنَتْ على فاعِلِها ؛ فممن يحبهم الله -تعالى- الذين جاء ذكرهم في الحديث: “إنَّ اللهَ يحبُّ سمحَ البيعِ، سمحَ الشراءِ، سمحَ القضاءِ”.

أخرجه الحاكم وسنده صحيح..

فيكون العبد متسامحًا هينًا لينًا في بيعه وشرائه، لا يتشدد ، ولا يخادع ولا يهضم حق البائع أو المشتري ، كما يكون سمحًا في قضاء الدين، متجاوزًا عن المعسرين..

كما أن الله -تعالى- يحب العادل من عباده (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42].

فيعدل في كل شؤونه، مع أهله أو عماله، في بيعه وشرائه، في وظيفته وأحواله، في كل حال، فالعدل خير كله ..

٦- الصبر والتحمل:

الصبر ياإخوة الإسلام خُلق عظيم من أخلاق هذا الدين، وطريق الوصول إلى حب الله ومرضاته ، والصابرون من عباده ممن يحبهم الله جل في علاه..

قال تعالى:

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].

الصابرون على ما يُقَدِّرُهُ الله -تعالى- من تصاريف الحياة،الصابرون على أقدار الله المؤلمة،الصابرون على داعي المعصية إذا هتف، فيقدمون محبوب الله -تعالى- على محبوب النفس ..

وضياع هذا الخلق أحدث كثيرا من المشكلات منها ما نشاهده في حياتنا من حوادث الطرق ، أو حوادث السير ناتجة عن قلة الصبر، والتعجب ،وعدم احتمال أخطاء الآخرين ..

٧-التقوى والإحسان:

وممن يحبهم الله -تعالى-: عباده المتقين

قال تعالى ﴿بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ آل عمران/٧٦.

والتقوى تعني : مراقبة الله ظاهرا وباطنا وكمالها الإحسان والله سبحانه يحب عباده المحسنين..

قال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].

الإحسان في كل شيء ، إحسان إلى النفس، إحسان للزوجة والولد، إحسان للناس كافة، إحسان حتى للبهائم..

روى الإمام مسلم في صحيحه عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- أنه قال: ثنتانِ حفظتُهما عن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. قال: “إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شيٍء. فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ. وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبحَ. وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه. وليُرِحْ ذبيحتَه”.

٨-وممن يحبهم الله -تعالى- المتطهرين، سواء كانت طهارتهم حسية من الأقذار والأوساخ أو كانت طهارتهم معنوية ، من الذنوب والمعاصي..

قال جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) .. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس تحقيقًا لهذا المعنى، يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: “ما مسستُ بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألْينَ مِن كفِّ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، ولا شممتُ رائحةً قطُّ أطيبَ من ريحِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم.. الشفا بتعريف حقوق المصطفى القاضي عياض..

٩-الجهاد في سبيل الله :

ومن الأسباب المهمة لحب الله للعبد القتال في سبيل الله ، مع وحدة الصف ، وحسن التخطيط ، دفاعا عن الدين والعرض والوطن ، فممن يحبهم الله -تعالى- المجاهدون في سبيل الله قال جل جلاله:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4].. قال مطرف بن عبدالله -رحمه الله-: “كان يَبلُغُني عن أبي ذرٍّ حديثٌ كنتُ أشتهي لقاءَه، فلقيتُه فقلتُ: يا أبا ذرٍّ، كان يَبلغُني عنك حديثٌ وكنتُ أشتهي لقاءَك، قال: للهِ أبوك، قد لقيتَني فهاتِ، قلتُ: حديثٌ بلغني أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حدَّثك، قال: إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يحِبُّ ثلاثةً ويبغِضُ ثلاثةً، قال: فما أخالني أكذبُ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, قال: فقلتُ: فمن هؤلاء الثلاثةُ الَّذين يُحبُّهم اللهُ -عزَّ وجلَّ-؟ فذكر منهم : رجلٌ غزا في سبيلِ اللهِ صابرًا محتسبًا فقاتل حتَّى قُتِل، وأنتم تجِدونه عندكم في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ثمَّ تلا: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)”

..ملتقى الخطباء.. والحديث أخرجه الترمذي وسنده صحيح..

وفي المقابل لا يحب الله الفساد والمفسدين ولا الخيانة و الخائنين ..

♦♦♦

العنصر الثاني ♦♦♦.

منفعة الناس وقضاء حوائجهم ترفع منزلة العبد عند الله..

إن منفعة الناس وقضاء حوائجهم والتيسير على المعسرين ، وتفريج الكربات عن المسلمين ، من أعظم الطاعات وأجلّ القربات عند الله، التي ترفع منزلة العبد عند الله وهو سببٌ لنيل محبته -سبحانه وتعالى-، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، … ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له؛ ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ). أورده الحافظ المنذري بصيغة التصحيح . عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ..

والأجر في نفع المسلمين عظيم فقد جاء في صحيح الإمام مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».. زاد ابن أبي الدنيا بسند حسن لغيره: «ومَنْ مَشى مَعَ مَظْلومٍ حتى يُثْبِتَ له حقَّه؛ ثَبَّتَ الله قدمَيْهِ على الصِّراطِ يومَ تزولُ الأقْدامُ». وفي حديث آخر: «وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، لَو شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجَاءً» أخرجه الطبراني وسنده حسن..

أولئك الذين يتفننون في نفع الناس وجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم..

يتفننون في إسعادهم.. يسعون بكل شيء لكشف كروبهم.. يضحون بما عندهم لقضاء حوائجهم.. يؤثرونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..

هؤلاء هم أحب الناس إلى الله والنصف الثاني في الحديث شرح للجزء الأول فيه..

وكان سلف الأمة يهتمون كثيرا بهذا الباب العظيم من أبواب الخير، فهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك، فعلم هؤلاء الفقراء أنه هو الذي كان يتصدق عليهم..

ما أجمل مجتمع المسلمين وهو ينفع بعضه بعضا ويسعى كل فرد فيه إلى نفع إخوانه.. تعلو وجوه الناس فيه الابتسامة.. وتنطلق فيه أساريرهم لبعضهم.. فإن كان أحدهم في مجال البيع والشراء وجدته ناصحاً لأخيه لا يغشه ولا يُغالي بالثمن.. وإن كان في مجال التعليم وجدته حريصاً على طلابه أو جماعته يعلمهم ويرشدهم ويستفرغ وسعه في ذلك.. وإن كان في وظيفته وجدته منجزاً لأعمالهم متهللاً في تعامله وناصحاً لهم سعيداً مبتسماً لكل مراجع يأتيه لحاجته.. وإن كان ذا صنعة وجدته جادا فيها متقناً لها حريصاً على تجويد عمله يراقب الله في ذلك…المهم أن يكون دافعه وهمه نفع الناس وقضاء حوائجهم وإن تقاضى على عمله أجرة..

إنها مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة جعلها الله لمن يقدم النفع لعباده مهما قل.! من الابتسامة حتى أكبر نفع تتخيله العقول وتصل إليه الفهوم..

وليحذر من جعل الله قضاء حوائج الناس عنده أن يمل أو يكل؛ فقد حذر من ذلك رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بقوله: «إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعِمًا يُقِرُّهَا عِنْدَهُمْ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ فَإِذَا مَلَّوُهُمْ نَقَلَهَا مِنْ عِنْدَهِمْ إِلَى غَيْرِهِمْ». رواه الطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما وفيه مقال..

ومن صفات المؤمن النافع أن حياته كلها خير ومنافع للغير ، العبادة والطاعة ، ومكارم الأخلاق وحسن السلوك والصفات ، والصدقة والإنفاق والصلة ، وإصلاح المجتمع.

فالمؤمن نافع في قوله وفعله ، وصفاته ، له ولجميع من حوله .

يحكى أن رجلاً يسمى ابن جدعان وهذه القصة واقعية.. يقول: خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سماناً يكاد أن يُفجَر الربيع الحليب من ثديها، كلما اقترب ابن الناقة من أمه دَرّت وانفجر الحليب منها من كثرة البركة والخير، فنظرت إلى ناقة من نياقي وابنها خلفها وتذكرت جارًا لي له بُنيَّات سبع، فقير الحال، فقلتُ والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري، والله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران:92].. وأحب مالي إلي هذه الناقة، يقول: أخذت هذه الناقة وابنها وطرقت الباب على جاري وقلت خذها هدية مني لك.. يقول: فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها وينتظر وليدها يكبر ليبيعه وجاءه منها خيرٌ عظيم !!

فلما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء والكلأ، يقول شددنا الرحال نبحث عن الماء في الدحول، والدحول: هي حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية لها فتحات فوق الأرض يعرفها البدو، يقول: فدخلت إلى هذا الدحل لأُحضر الماء حتى نشرب ـ وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون ـ فتهت تحت الدحل ولم أعرف الخروج !

وانتظر أبناؤه يومًا ويومين وثلاثة حتى يئسوا وقالوا: لعل ثعبانًا لدغه ومات.. لعله تاه تحت الأرض وهلك.. وكانوا والعياذ بالله ينتظرون هلاكه طمعًا في تقسيم المال والحلال، فذهبوا إلى البيت وقسموا الميراث فقام أوسطهم وقال: أتذكرون ناقة أبي التي أعطاها لجاره، إن جارنا هذا لا يستحقها، فلنأخذ بعيرًا أجربًا فنعطيه الجار ونسحب منه الناقة وابنها، فذهبوا إلى المسكين وقرعوا عليه الدار وقالوا: أخرج الناقة.. قال: إن أباكم أهداها لي.. أتعشى وأتغدى من لبنها، فاللبن يُغني عن الطعام والشراب كما يُخبر النبي، فقالوا: أعد لنا الناقة خيرٌ لك، وخذ هذا الجمل مكانها وإلا سنسحبها الآن عنوة، ولن نعطك منها شيئًا !

قال: أشكوكم إلى أبيكم.. قالوا: اشكِ إليه فإنه قد مات !!

قال: مات.. كيف مات؟ ولما لا أدري؟

قالوا: دخل دِحلاً في الصحراء ولم يخرج، قال: اذهبوا بي إلى هذا الدحل ثم خذوا الناقة وافعلوا ما شئتم ولا أريد جملكم، فلما ذهبوا به وراء المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي ذهب وأحضر حبلاً وأشعل شعلةً ثم ربطه خارج الدحل فنزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى مكان يحبوا فيه وآخر يتدحرج.. ويشم رائحة الرطوبة تقترب، وإذا به يسمع أنينًا وأخذ يزحف ناحية الأنين في الظلام ويتلمس الأرض، ووقعت يده على طين ثم على الرجل فوضع يده فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع من الضياع، فقام وجره وربط عينيه ثم أخرجه معه خارج الدحل وأعطاه التمر وسقاه وحمله على ظهره وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد، وأولاده لا يعلمون، قال: أخبرني بالله عليك كيف بقيت أسبوعًا تحت الأرض وأنت لم تمت !!

قال: سأحدثك حديثاً عجيباً، لما دخلت الدُحل وتشعبت بي الطرق فقلت آوي إلى الماء الذي وصلت إليه وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء لا يكفي..

يقول: وبعد ثلاثة أيام وقد أخذ الجوع مني كل مأخذ، وبينما أنا مستلقٍ على قفاي سلمت أمري إلى الله وإذا بي أحس بلبن يتدفق على لساني فاعتدلت فإذا بإناء في الظلام لا أراه يقترب من فمي فأرتوي ثم يذهب، فأخذ يأتيني في الظلام كل يوم ثلاث مرات، ولكن منذ يومين انقطع.. لا أدري ما سبب انقطاعه؟ يقول: فقلت له لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت ! ظن أولادك أنك مت جائوا إلي فسحبوا الناقة التي كان يسقيك الله منها.. والمسلم في ظل صدقته، وكما قال: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)!

فجمع أولاده وقال لهم: أخسئوا.. لقد قسمت مالي نصفين، نصفه لي، ونصفه لجاري وهبته حسبة لوجه الله !..

قصص وعبر للقطان

♦♦♦

العنصر الثالث ♦♦♦..

علامات حب الله للعبد

١ـ التوفيق للطاعة وبغض المعاصي والشهوات..

وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ لَكَ تَوْفِيقُكَ لِلطَّاعَاتِ، وَحَجْبُكَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ بِأنْوَاعِهَا، قَالَ اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: “وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ”..

فحِمَايَتُكَ مِنَ فِتْنَةِ الدُّنْيَا ومِنَ الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ، مِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ -تَعَالَى- لَك اسْتَمِعُوا إلى الحَدِيثِ العَجِيبِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ” أخرجه الترمذي وسنده صحيح ..

وَمَعْنَاهُ أنَّ اللهَ إذَا أَحَبَّ عَبْداً حَفِظَهُ مِنْ غُرُورِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهُ بِهَا وَينْسى مَصِيرَهُ، كَحَالِ مَنْ يَمْنَعُ المَاءَ عَنْ السَّقِيمِ المَرِيضِ إذَا كَانَ يَضُرُّهُ شُرْبُ المَاءِ.

يا أخا الإسلام تَأمَّلْ حَالَ مَنْ تَثْقُلُ عليهِمُ الطَّاعَاتُ ولو كَانَتْ لِدَقَائِقَ مَعْدُودَاتٍ، وَتَسْهُلُ عليهِمُ المُحَرَّمَاتُ وَلو اسْتَنْزَفَتْ مِنْهُمُ الطَّاقَاتِ والأَوقَاتِ وَالأَمْوَالِ أليسَ هَذَا حِرْمَانَاً وَصَدَّاً مِن الشَّيطَانِ لِهؤلاءِ؟ حَقَّاً لَقَدْ: (كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46]..

٢ـ اتباع سنة نبيه ﷺ:

وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ لَكَ أَنْ تَتَّبِعَ سُنَّةَ نَبِيِّكَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، لِقَوْلِهِ -تَعَالَى- :(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمَ)[آل عمران:31]..

٣-وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ لَكَ: أَنْ تُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَتُعَادِيَ أَعْدَاءَهُ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[المائدة:54]، وَفي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الصَّحِيحِ أَنَّ اللهَ -تَعَالى- قَالَ: “وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ”.

٤-القبول في الأرض :

مِنْ عَلَامَاتِ حُبِّ اللَّهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ: القبول في الأرض وحُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، قَاَل تَعَالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم:96]؛ أَيْ: مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ..

روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيُحِبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إن اللهَ يحبُ فلانًا فأحبُّوه ، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ”..

إن الحرص على الأعمال الصالحة وفعل الخير ينال المسلم بسببه حب الله ، وإذا أحبه الله وضع له القبول في الأرض ، فأحبه الناس ، وإن أفعال الخير تقوّي أواصر العلاقات بين الناس، كالصدقة والزكاة، والتي تعد من أبواب الخير التي أمرنا بها الاسلام وحثنا على فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ، والتي في تشريعها حكم عظيمة، منها : طهارة القلوب قلب الغني من البخل ، والشح ، ونظرة الاستعلاء ، قلب الفقير من الحقد والحسد ، والنظرة الدونية ، ويعلم الغني أنه فقير لله ، وأن للفقير حق عليه، فيشعر به ويواسيه، مما يجعل المجتمع قويًا ، خاليًا من الفقر والأمراض ، المجتمعية .

وتتحصل محبة الناس بالأخذ بأسبابها ، من عمل الخير لهم ، ومساعدتهم فيحببهم الله فيه.

وعمل الخير والمعروف له أثر عجيب وكبير جداً في نفس الإنسان ، الذي يتم فعل المعروف له.

ومن أروع ما نسب إلى إمامنا الشافعي (رحمه الله)

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، فطالما استعبد الإنسان إحسان ..

وختامًا: يا عِبَادَ اللهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ حبّ اللَّهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ، فحب الله للعبد غاية الغايات ، وأمنية الأمنيات ، وَمَنْ نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ -تَعَالَى- صَارَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[يونس: 62-64]..

واحْرِصْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ أَنْ تَأتِيَ بِأَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَكَ، وَأَنْ تُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ لِنَيْلِها. فَإِنَّ مَنْ نَالَهَا طَابَ عَيْشُهُ وَارْتَاحَ ْقَلْبُهُ، وَفَازَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْزًا عَظِيمًا. وَمِنَ الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ الْمَأْثُورِ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ)..

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَوَالِدِينَا مِنْ أَحْبَابِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا أسْبَابَ سَخَطِهِ وَمَعَاصِيهِ ،

اللهم اجعلنا من أنفع عبادك للناس ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ..

وانصر عبادك المستضعفين واحقن دماء المسلمين في كل مكان يا رب العالمين..

واللهُمَّ ارزُقنَا حبك والعمل الذي يبلغنا حبك ، وحبَّ نَبِيِّكَ واتِّبَاعَهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، احشُرنَا اللهم في زُمرتِهِ وارزقنَا شَفَاعتَهُ وأوردْنَا حَوضَهُ واسقِنَا مِنْ يَدِهِ شَرْبَةً لا نَظمَأُ بَعْدَها أَبَدَاً..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.