الحمد لله أحكم الأحكام وشرع الشرائع على خير نظام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قامت على وحدانيته البراهين والحجج، وما جعل علينا في الدين من حرج ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله مفدى القلوب والمهج..صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ :
فعندما أراد النبي ﷺ الهجرة إلى المدينة، التقى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بما يربو على سبعين من الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وكان لقاءً عظيمًا بايعهم فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على نصرة دين الله ونصرة رسوله –صلى الله عليه وسلم- بالنفس والمال، وكان من بينهم فتى صالح هادئ ،
لا يتعدى عمره سبعة عشر عامًا، يقول عنه عبد الله بن كعب: كان شابًّا سمحًا جميلاً، من أفضل شباب قومه..
أتدرون من ذلك الشاب الفاضل؟! إنه معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
وإننا نعيش في هذه اللقاء مشاهد من حياة هذا الشاب الذي بمجرد أن لامست يدُه يدَ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بيعة العقبة الثانية أحبه بكل كيانه ، ثم صحبه ولازمه ﷺ ، بقلبٍ يتوقد إيمانا، وعقل يشعُّ نورا، لازم الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ فحفظ القرآن ، وفَقِه العلم، فكان أعلم الأمة بالحلال والحرام ، وبحسبه ذلك شرفا وفخرا ..
العنصر الأول ..
منزلة سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه ..
حظي من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-بمنزلة عليا ومكانة سميا ، و محبةٍ كبيرة حلفَ عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فكان من الأسماء التي لمعت في سماء الدعوة في المدينة المنورة ، وحظي برعاية تجلتّ بقرب واختصاص؛ إنه معاذ بن جبل -رضي الله عنه-..
وكان -رضي الله عنه- قوي الصلة بربه، حسن النية، يريد بجهاده وعلمه هدفا واحدًا هو رضا الله ، وعلى اثره ينال العبد الجنة، ويجار من النار ..
وكان رضي الله عنه ينظر لمجالس العلم والفقه ، وصحبة الصالحين على أنها زيادة في الإيمان ، وطلبا للرضا والرضوان..
عن الأسود بن هلال قال: كنا نمشي مع معاذ بن جبل فقال: اجلسوا فهيا بنا نؤمن ساعة..
وكان معاذ من أنشط طلاب العلم ملازمًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعقل مفكر، وقلب واع يفهم ويحفظ ويتدبر، حريصًا على سماع العلم والفتوى، حتى أصبح من علماء الصحابة في زمن قليل.
فقد لمس رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في معاذ ذلك العقل الراجح، وذلك العلم والفقه، وأن الله قد وفقه للأخذ عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: “معاذ بن جبل أعلم أمتي بالحلال والحرام”. وهذه شهادة له بالأهلية للفتوى، وكذا وثقه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كإمام من أئمة القراءة والأخذ للقرآن عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول -عليه الصلاة والسلام-: “خذوا القرآن عن أربعة: ابن أم عبد -يعني ابن مسعود- ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة”. فكان فيمن أشرفوا على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق –رضي الله اعنه-.
وهكذا بدأ معاذ حياته في الإسلام ببيعة على نصرة الله ورسوله، وفداء الدين بالدم والمال، ثم ثنى بالعلم والتفقه، وفي هذا درس لمن أراد خطوات الطريق، ومعرفة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم -وبخاصة الداعية- أنه لابد من إحياء القلوب وإثارة الحمية والولاء لهذا الدين، ولكن لا تكفي مجرد الحماسة والحمية والاستعداد للتضحية، بل لابد من البصيرة والعلم، والداعية ليس مجرد شخصية حماسية، بل هو كذلك شخصية علمية متزنة ذات فقه وبصيرة.
ومن هنا تظهر البراعة النبوية في التعليم وتحفيز الذهن؛ فها هو معاذ -رضي الله عنه- قد نال خصوصية وقربا منه -عليه الصلاة والسلام- فهو لوحده معه، ثم هو يناديه باسمه واسم أبيه، كأنه يناديه من بعيد وهو قريب جدا منه، حتى إذا لبّاه معاذ وأسعده سكت! ، والظن أن ذهن معاذ قد ذهب كل مذهب في لحظات الصمت، التي وزعها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين نداءاته الثلاثة!، فالنداء لافت، الصمت لافت أيضا!. حتى إذا كان الذهن في غاية التيقظ؛ جاءت المعلومة على شكل سؤال: “هلْ تَدْرِي ما حَقُّ اللهِ علَى العِبادِ؟”.. جوابه ” أنْ يَعْبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا”. كان معاذ -رضي الله عنه- شابا لم يجاوز العشرين من عمره إلا قليلا، ومع ذلك اختاره رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ بصحبته يخصه بالفقه والإيمان ، ولم يأذن له أن يخبر به غيره؛ مخافة أن لا يفقهوا كفقهه ، وكان دائم التعلم والاستفسار مباشرة من رسول الله ﷺ، وكان النبي ﷺ يعطيه الجواب الكافي ، والدواء الشافي ، وفي هذا إعطاء كل متعلم من العلم ما يناسب إدراكه وفقهه وحاجته .
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنتُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في سفَرٍ ، فأصبَحتُ يومًا قريبًا منهُ ونحنُ نَسيرُ ، فقلتُ : يا رسولَ اللَّهِ أخبرني بعمَلٍ يُدخِلُني الجنَّةَ ويباعِدُني من النَّارِ ، قالَ : لقد سألتَني عَن عظيمٍ ، وإنَّهُ ليسيرٌ على من يسَّرَهُ اللَّهُ علَيهِ ، تعبدُ اللَّهَ ولا تشرِكْ بِهِ شيئًا ، وتُقيمُ الصَّلاةَ ، وتُؤتي الزَّكاةَ ، وتصومُ رمضانَ ، وتحجُّ البيتَ ، ثمَّ قالَ : ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ : الصَّومُ جُنَّةٌ ، والصَّدَقةُ تُطفي الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ ، وصلاةُ الرَّجلِ من جوفِ اللَّيلِ قالَ : ثمَّ تلا قول الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ …﴾..حتَّى بلغَ يَعْمَلُونَ ، ثمَّ قالَ : ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ ، وذِروةِ سَنامِهِ ؟ قلتُ : بلى يا رسولَ اللَّهِ ، قالَ : رأسُ الأمرِ الإسلامُ ، وعمودُهُ الصَّلاةُ ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ ، ثمَّ قالَ : ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ ؟ قُلتُ : بلَى يا رسولَ اللَّهِ ، قال : فأخذَ بلِسانِهِ قالَ : كُفَّ عليكَ هذا ، فقُلتُ : يا نبيَّ اللَّهِ ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فقالَ : ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم . أخرجه الإمام الترمذي وسنده صحيح ..
ومن ثقته به -صلوات الله وسلامه عليه- وتقديره لمكانته العلمية بعثه إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا ومفتيًا وحاكمًا وداعيًا إلى الله -عز وجل-، وزوده -عليه الصلاة والسلام- بمزيد من فقه الدعوة، ثم بيّن له ما ينبغي أن يتنزه عنه الحاكم والمعلم والقاضي، فأوصاه بأمور ونهاه عن أمور.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: ” إنَّكَ سَتَأْتي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، ثم حذره بعد ذلك: فقال :فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ،ثم حذره وبين له –صلى الله عليه وسلم- ما ينبغي أن يتقيه الحاكم والقاضي، فقال له: واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.”
فانظر كيف كان أمره يتدرج في دعوتهم، فيبدأ بالأساس، وهو الشهادتين : الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم إذا استجابوا دعاهم إلى الركن الثاني، وهو الصلاة، فإن أطاعوا انتقل إلى الركن الثالث، وهو الزكاة… وهكذا..
وقد عمل معاذ -رضي الله عنه- بوصايا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بإخلاص وجدّ، فوفقه الله توفيقًا عظيمًا، وأحبه أهل اليمن حبًّا شديدًا، وكان رجلاً عالمًا وعاملاً، فكان قدوة حسنة، وقد بارك الله في فترة وجوده باليمن، فدخل أهلها في الإسلام أفواجًا أفواجًا، وعظم ترحيبهم بهذا الدين العظيم..
وقد مات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومعاذ باليمن يقضي ويحكم بين الناس، وكان –صلى الله عليه وسلم- يحبه ويقربه إليه ويخصه بأشياء..
كل ما سبق من السمت العلمي لشخصية معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لا يتوهم منه أنه كان على غرار ما صار إليه حال كثير من الشخصيات العلمية بعد عهد الصحابة من الانعزال عن حياة الدعوة، ومقاومة الباطل، والانغماس أولاً وأخيرًا في التحصيل العلمي والبحث، بل كان معاذ -رضي الله عنه- يتميز -كما تميز مُصعب- بسمت العالم المجاهد، فلم يغب معاذ عن مشهد من المشاهد القتالية العظيمة، فشهد بدرًا وأحدًا والخندق وتبوك واليرموك وغيرها مقاتلاً حريصًا على الموت، فيقدر الله له الحياة في كل مرة، حتى كان آخر ذلك في خلافة عمر -رضي الله عنه- حين ترك معاذ اليمن متجهًا إلى المدينة ثم إلى الشام حيث الصراع مع الروم والفرس، فذهب مجاهدًا مع أبي عبيدة وإخوانه المجاهدين، ثم أصبح واليًا على الشام بعد موت أبي عبيدة -رضي الله عنه-، وفي الشام تعلق الناس به وأحبوه حبًّا شديدًا، كما حدث في اليمن لِما وجدوه فيه من فقه وحكمة وزهد وتفقد لشؤون المسلمين..
معاذ بن جبل من أفقه الصحابة وأعلمهم بالحلال والحرام ، وأحد النفر الستّة الذين جمعوا القرآن الكريم في العهد النبوي، كان يصلّي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- صلاة الفريضة، ثم ينطلق مسرعاً إلى مسجدٍ في نواحي المدينة ليصلّي بهم تلك الصلاة إماماً، غير مبالٍ بمشقّة الذهاب والإياب كلّ يوم.
وكان -رضي الله عنه- سخيًّا زاهدًا في الدنيا، مؤثرًا على نفسه، بعث إليه عمر بن الخطاب ذات يوم بأربعمائة دينار في صرة مع غلام له، وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، وامكث في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. وكأن عمر -رضي الله عنه- توقّع تصرفًا فريدًا يليق بمعاذ كعادته. فذهب الغلام بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي لفلان بكذا، فطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله- مساكين فأعطنا، ولم يبق معه إلا ديناران فأعطاهما إياها. ورجع غلام عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك ودعا له..
لكل ما سبق كان رسول الله ﷺ يحب معاذ بن جبل ويكن له مكانة خاصة ، ويقسم على ذلك..
روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه :﴿أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك، فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ ﴾أخرجه أبو داود وسنده صحيح..
ويبدو أن الدعاء الذي علّمه النبي –صلى الله عليه وسلّم- لمعاذ أن يقوله دبر كلّ صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) قد ترك فيه أثراً ظاهراً، فكانت صلاته بالناس طويلة وكثيرة القراءة، وما ذاك إلا إحساناً لعبادته وإتقاناً لعمله..
هل ثمت منزلة عظيمة ، وفضائل جليلة كمثل هذه المكانة العالية والمنزلة السامية..
العنصر الثاني..
سبب غضب النبي صلى الله عليه وسلم من معاذ بن جبل رضي الله عنه..
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِعْمَ المُعلِّمُ والمُرَبِّي لِأصحابِه وأُمَّتِه مِن بَعدِه، وكان يَختارُ لِلنَّاسِ ما يُصلِحُهم في أنفُسِهم، وما يُصلِحُ غَيرَهم مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وكان يُحِبُّ التَّخفيفَ على النَّاسِ في أُمورِ العِبادةِ، وخُصوصًا الصَّلاةَ؛ حتَّى لا يَنفِرَ النَّاسُ ويَمَلُّوا.
وفي هذا الحديثِ يُخبرُ جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رضِيَ اللهُ عنه كان يُصَلِّي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجِدِ النَّبويِّ، ثُمَّ يَأتي قَومَه بَنِي سَلِمةَ، فَيُصَلِّي بِهِم الصَّلاةَ الَّتي صَلَّاها مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّلاةُ المشارُ إليها في هذا الحَديثِ هي صلاةُ العِشاءِ..
والرجل الذي شكله قيل: هو حَزمُ بنُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ، وقيل غيرُ ذلك- .. ومعنى فَتَّانٍ: مُنَفِّرٌ عَن الجَماعةِ وصادٌّ عنها؛ لأنَّ التطويلَ سَبَبٌ لخروجِهم من الصَّلاةِ، ثم وَجَّهه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يقرَأْ إذا كان إمامًا بسور قصيرة …
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما صَلَّيْتُ ورَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً، ولَا أَتَمَّ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنْ كانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ.(متفق عليه).
إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُصَلِّي صَلاةً مُوجَزةً خَفيفةً غَيرَ طَويلةٍ، وفي الوَقتِ نَفْسِه يأتي بكَمالِها؛ مِن تَمامِ الرُّكوعِ والسُّجودِ، والقيامِ والقِراءةِ..
ولقد كان من هديه ﷺ أنه إن يطيل في الركعة الأولى ويقصر في الثانية..
والتَّنْفِير هو أن تَلْقَى النَّاس أو تعاملهم بالغِلْظَة والشِّدَّة ونحو ذلك؛ ممَّا يحمل على النُّفور مِن الإسلام ، وهو لون من ألوان التشدد والتنطع في الدين في صورة الحرص على الطاعة والعبادة .
لقد حذَّرت السُّنَّةُ الشَّريفةُ من الإفراطِ بكافَّةِ صُوَرِه وأشكالِه، ولو كان دافِعُ صاحِبِه إليه حَسَنًا؛ فالإفراطُ لا يُقرِّبُ صاحبَه إلى مقصودِه بقَدرِ ما يُبعدُه عنه، وعالجَت السُّنَّةُ المطَهَّرةُ الأفكارَ والأقوالَ والأفعالَ التي تتعارَضُ مع وسطيَّةِ الدِّينِ واعتدالِه، ونصوصُ السُّنَّةِ في ذلك كثيرةٌ.
– عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ﴿هَلَك المتنَطِّعون. قالها ثلاثًا﴾ .
أخرجه الإمام مسلم..
قال النَّوويُّ: («هَلَك المتنَطِّعون» أي: المتعَمِّقون الغالون المجاوِزون الحدودَ في أقوالِهم وأفعالِهم) .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (التَّنَطُّعُ هو التَّعمُّقُ والتَّدقيقُ في الأشياءِ؛ فإنَّ الهَلَكةَ مقرونةٌ به، وهو ممَّا يقرؤُه الجُهَّالُ على غيرِ أصلِ الشَّريعةِ على نحوِ ما ابتدَعه النَّصارى من الرَّهبانيَّةِ التي لم تُكتَبْ عليهم، وإنَّما هم الذين ابتدَعوها ابتغاءَ رِضوانِ اللَّهِ، فما رعَوها حقَّ رعايتِها؛ ولذلك كُلُّ من ابتدَع في الدِّينِ شيئًا أو دقَّق على عبادِ اللَّهِ وعَمَّق ممَّا لم يأذَنْ به اللَّهُ ولم يَشرَعْه رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو الهالِكُ المحتَقِبُ وِزْرَ كُلِّ مَن أهلَكه بتنَطُّعِه) (الإفصاح لابن هبيرة).
– وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما هلَك مَن كان قبلَكم بالغُلُوِّ في الدِّينِ)) أخرجه النسائي وسنده صحيح..
وقال المُناويُّ: («إيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ» أي: التَّشدُّدَ فيه ومجاوزةَ الحَدِّ والبَحثَ عن الغوامِضِ؛ «فإنَّما هلَك مَن كان قَبلَكم» من الأمَمِ «بالغُلُوِّ في الدِّينِ»، والسَّعيدُ مَن اتَّعَظ بغيرِه) (التيسير للمناوي). .
لا زلنا مع سيدنا معاذ -رضي الله عنه- وهو ينازع آخر أنفاس الحياة، ثم هو لا يترك وظيفته التي تلقاها من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهي حسن الطاعة والعبادة والدعوة إلى الله جل في علاه !
فكان يتهجد من الليل ويقول : اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف. اللهم اجعل لي عندك هدى رده إليّ يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد.
ولما مرض معاذ بالطاعون في الشام وحانت ساعة لقائه مع ربه تطلع إلى السماء وهو يقول: اللهم إني كنت أخافك لكنني اليوم أرجوك. وهذا من السنة: أن يغلب العبد الرجاء عند الموت، ويحسن الظن بالله. ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر، ثم بكى فقالوا له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت حل بي، ولا على ديون تركتها بعدي، ولكن إنما هما القبضتان، فلا أدري من أي القبضتين كنت. يعني بذلك حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن الله قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي. أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
ومن ذلك ندرك مدى خوف معاذ من ربه ومدى إشفاقه من الساعة، واشتد النزع وجاءت سكرة الموت بالحق، فبسط معاذ يده وقال: مرحبًا بالموت، حبيب جاء على فاقة. وقبل موته أخبر من عنده بحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي فيه أن الله -عز وجل- لا يعذب من مات لا يشرك به شيئًا. وكان معاذ قد قال للرسول –صلى الله عليه وسلم-: أفلا أبشر الناس؟! فقال: “لا تبشرهم فيتكلوا”. فاحتفظ معاذ بالحديث إلى أن أخبر به من حضره عند الموت حرصًا من الإثم بكتم العلم.
وتوفي رضي الله عنه وعمره بضعة وثلاثين عاماً ، ففعل ما عجز عنه الكثير ممن عمر في هذه الحياة ..
وختاماً: فيا إخوة الإسلام: إن معاذ بن جبل نموذج للشخصية المسلمة المتكاملة التي ندعو إليها، والتي نطمع في تكوينها بدءًا بأنفسنا، وإنه لقدوة لفتية الإسلام جميعًا؛ إذ هكذا ينبغي أن يكون كل منهم: حميةٌ مع علم وفقه مع دعوة، وجهاد مع خوف من الله، وتواضع وخلق، وزهد في الدنيا مع حكمة وعقل ..
لقد كان معاذ بحق قدوة في الجد والصدق مع النفس، كان صادقًا مع نفسه حين دخل في الإسلام وهو صغير، وحين كان يرقى بالإسلام، ومع ظهور الإسلام في شبابه ورجولته، وحين كان قاضيًا باليمن، وحين كان مجاهدًا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك وبعد ذلك بأرض الشام مع أبي عبيدة وإخوانه المجاهدين، كان جادًّا في كل خطوة، مخلصًا صادقًا في طلب الجنة والنجاة من النار، يخشى ربه، يرجو رحمته ويخاف عذابه..
وحين نتوقف مع عمر الصحابي الجليل وقت بيعة العقبة العظيمة ” سبعة عشر عامًا” ، فإننا ندرك مستوى عقليات الشباب الصغير في ذلك الحين، وكيف أنه كان مؤهلاً في ذلك السن لحضور البيعة على نصرة الدين ومنعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وحرب الأحمر والأسود، وكثيرون غير معاذ وأصغر من معاذ أنيطت بهم مثل تلك الأمور وأعظم، فإذا ما نظرنا إلى واقعنا وجدنا بؤسًا؛ إذ لا يزال الأصل في الشباب -في ذلك السن وأكبر- أن ينظر إليهم على أنهم أطفال سذج لا يفقهون شيئًا، تكفيهم هوايات الأطفال وتساليهم، واللعب على الهواتف وأجهزة الكمبيوتر ،وعلى هؤلاء الشباب وأوليائهم أن يفيقوا لأنفسهم، ولبلدهم وأمتهم ، ويعلموا أن الشاب منذ بلوغه الحلم عليه مسئولية عظيمة كمسئولية الكبار، وإنما صعب ذلك اليوم لاختلاف البيئة في هذا الزمان عنها في القديم، فقد تحولت من بيئة خشونة واعتماد على النفس وتحمُّل، إلى بيئة ترف وتفاهة وتدليل، ومن ثم فلابد من إجراءات مع الشباب الصغير لتخليص عقولهم ونفسياتهم من براثن تلك البيئة التي تنشئ عقليات تافهة محدودة لفترة طويلة من العمر، ونحن نعلم أن الله أودع الشباب خاصة في مقدمة العمل طاقات عظيمة وأمثله رائعة لابد من استثارتها..
رحمة الله على سيدنا معاذ بن جبل، نحسبه من عباد الله الصالحين الصادقين المخلصين الفائزين ، الذين نرجو من الله أن نحشر معهم، وهم الذين أنزل الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
لقد سطر سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه مع
مع رسول الله ﷺ وصحابته ، وبعد وفاته صفحات مشرقة ، كانت درة في تاريخ البشرية ، وتاجا على وجه الإنسانية .
كيف انطوت أيامُهمْ وهُمُ الأُلَـى *** نشروا الهُدى وعلَوْا مكان الفرقـدِ. هجروا الديار فأين أزمعَ ركبُهـمْ *** مَن يهتدي للقوم أو من
يقتدي
ياقلب حسبك لن تلم بطيفهم * * * إلا على مصباح وجه محمد
فازوا من الدنيا بمجد خالد * * * ولهم خلود الفوز يوم الموعد
يارب ألهمنا الرشاد فما لنا * * * في الكون غيرك من ولي مرشد(محمد إقبال).
رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل الفردوس الأعلى مثوانا ومثواه ، واللهم احشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وفي زمرة الصحابة الكرام..