خطبة بعنوان (أفتانٌ أنت يا معاذ؟) للدكتور مسعد الشايب

((أفتانٌ أنت يا معاذ؟))

في رحاب الحديث الشريف

الجمعة الموافقة 25 من صفر 1446هـ الموافقة 30/8/2024م

===========================================

أولا: العناصر:

1. حديثٌ نبويٌ شريفٌ، وسببُ وروده، وأهم الدروس المستفادة منه.

2. ستةٌ من مخاطر التشدد، والغلو، والتطرف عمومًا.

3. الخطبة الثانية: (نماذج من نهي النبي صلى الله عليه وسلم  صحابته وأمته عن الغلو والتشدد).

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله ربّ العالمين، سهل علينا كل عسير، ورفع عنا الحرجَ، والمشقةَ، والإصرَ، والتعسيرَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، ما جعل علينا في الدين من حرج، ولا كلف نفسًا إلا وسعها، ولا كلفها إلا ما آتاها، وأَشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عَبدُه ورسولُهُ، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فاللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ، وبعد:

===========================================

(1) ((حديثٌ نبويٌ شريفٌ، وسببُ وروده، وأهم الدروس المستفادة منه))

===========================================

أيها الأخوة الأحباب: يروي لنا الإمامان الشيخان البخاري، ومسلم في صحيحهما، من حديث سيدنا جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، وعن الصحابة أجمعين، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟)، وفي رواية عند الإمام البخاري: (أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟). وفي رواية الإمام البخاري أيضًا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قالها له ثلاثًا.

=====

أيها الأخوة الأحباب: سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) أحدُ السبعين الذين حضروا بيعة العقبة الثانية، وهو في الثامنة عشر من عمره، وشهد غزوة بدرٍ وهو في الحادية والعشرين من عمره، وهو رديف النبي (صلى الله عليه وسلم) على الحمار عُفير، وقاضيه إلى اليمن، وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بأخذ القرآن، وتعلمه منه، كما أخبر نبينا (صلى الله عليه وسلم): إنه أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وقال له نبينا (صلى الله عليه وسلم): (يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)(رواه أبو داود). ودعا له نبينا (صلى الله عليه وسلم) قائلًا: (حَفِظَكَ اللهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خلفك ودرأ عَنْكَ شَرَّ الإِنْسِ وَالجِنِّ)(سير أعلام النبلاء).

=====

وبالرغم من هذه المناقب العظيمة التي تمتع بها سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، وبالرغم من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) له، وحبّه إياه؛ فإن هذا الحديث النبوي الشريف بيّن ويوضح لنا غضب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) على سيدنا معاذ بن جبل، حيث قال له ثلاث مرات: (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟)، وكلمة الفتنة في لغتنا العربية لها عدة معاني، فهي من قبيل المشترك اللفظي، ومعناها في الحديث هنا: صرف الناس، وصدُّهم عن دين الله (عزّ وجلّ)، أو إشغالهم، وإلهائهم عن الصلاة، ومن هنا سمي الشيطان بالفتان، فقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟)، معناه: أصارفٌ الناس أنت وصاددٌ إياهم عن الدين، أو أقائم أنت بإشغالهم، وإلهائهم عن الصلاة؟.

=====

وسبب هذا الحديث: أن سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، كان يصلي العشاء مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم يأتي منازل قومه فيصلي بهم، ويقف إمامًا، فرجع ذات ليلة متأخرًا؛ لتأخير النبي (صلى الله عليه وسلم) العشاء، فوقف إمامًا بهم، فقرأ بسورة البقرة كاملة، أو النساء كاملة.

فتجوز رجلٌ اسمه: (حرامٌ بن أبي كعب)، كان معه ناضحان (جملان) يستقي عليهما الماء لأهله ولنخله ـ فانحرف عن صلاة الجماعة فصلى لنفسه صلاة خفيفة، ثم انصرف، فبلغ ذلك سيدنا معاذ (رضي الله عنه)؛ فقال: إنه منافق.

فبلغت مقولةُ سيدنا معاذ الرجل، فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فشكا إليه، فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وفي رواية الإمام مسلم: (إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ)، أي: إننا لا نستطيع تطويل الصلاة)، وإن معاذا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت (أي: في صلاتي، بعد أن انحرفت عن الجماعة)، فزعم أني منافق، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ…فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ)(متفق عليه، والفظ للبخاري).

=====

وهذا الحديث يعلمنا العديد من الدروس والعبر الفقهية، أهمها، وأعظمها:

النهي عن الغلو، والتشدد، والتطرف في أداء العبادات والطاعات: وهذا مستفادٌ من قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) لسيدنا معاذ بن جبل، في الرواية الأخرى عند الإمام أحمد في المسند: (لَا تُطَوِّلْ بِهِمْ)، فضلًا عن غضبه منه، وتحديده للسور التي يقرأ بها في الصلاة، وهي: سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وعند الإمام الحميدي في المسند: (والسماء ذات البروح، والسماء والطارق)، وكلها سورٌ من أوساط المفصل، فضلًا عن بيانه (صلى الله عليه وسلم) العلة في النهي عن الغلو، والتشدد، والتطرف في الصلاة، بقوله: (فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ).

=====

وانظروا إلى نبينا (صلى الله عليه وسلم)، وهو يحذر أمته، وينهاها عن التشدد والغلو، والتطرف بكافة صوره، وأنه سبب في الهلاك والدمار، فيقول (صلى الله عليه وسلم): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)(رواه ابن ماجه).

قال النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث يوم النحر في حجة الوداع، عند رميه لجمرة العقبة الكبرى، فأمر ابن عباس (رضي الله عنهما) أن يجمع له الحصيات، فجمع له سبع حصيات صغيرة (حصى الخذف) وهو الحصى الصغير الذي يمسك بالسبابتين ويرمى بهما، فجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ينفضهن في كفه، وفي رواية: (يقبضهن بيده)، ويقول: (أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، فَارْمُوا)، فنهى (صلى الله عليه وسلم) عن الغلو، والتشدد، والتطرف في حجم الحصيات.

فالغلو، والتطرف، والتشدد عمومًا لا يثمر إلا المخاطر، ولانجني من ورائه إلا الفواجع، والمصائب، ومنها.

===========================================

(2) ((ستةٌ من مخاطر التشدد، والغلو، والتطرف عمومًا))

===========================================

1ـ تشويه صورة الإسلام؛ بتشويه سماحته، ووسطيته، وحنفيته، وتشويه دعوته للتعايش السلمي، وإقراره للسلم والأمن المجتمعي والعالمي، كما أنه يؤدي إلى النفور من الإسلام، والصدّ عن طريقه، ولنا في ما يبث، وينشر عن الإسلام خارجيا ـ بسبب أصحاب هذه الدعوات المتطرفة والمتشددة ـ دليل وشاهد، فقد وصف الإسلام بسبب هؤلاء، وغلوهم وتطرفهم، وسفكهم للدماء أن اتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب، وسفك الدماء، ومن مخاطر، الغلو، والتشدد، والتطرف أيضًا:

=====

2ـ تهديد الأمن والسلم العالمي، ونشر الإرهاب في جنبات العالم، وما حدث في بعض الدول الأوربية خيرُ دليلٍ على ذلك وشاهد، فإفشاء السلام العالمي، والقضاء على الإرهاب مطلب إنساني لجميع البشر بغض النظر عن عقائدهم، وأجناسهم وألوانهم، ولا غنى للبشرية عنه؛ فبدونه لا تستقيم الحياة البشرية، ولا تستقيم عمارة الأرض، ولا تبني الحضارات، ولا يتحقق التقدم والرخاء، وبدونه لا يأمن الناس على أرواحهم، ولا على أموالهم، و لا أعراضهم، وبدونه لا يستطيعون التعبد في محاريبهم. ولإفشاء السلام عالميا في الإسلام شأن عظيم، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) ما أرسله ربّنا إلا رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].

ومن معاني الرحمة عدم نشر الإرهاب الذي يقضي على السلم والسلام العالمي، وقد دعا القرآن الكريم جميع شعوب الأرض للتعارف والتآلف، وبيّن لهم أنهم جميعا خلقوا من أصل واحد، وهذا مدعاة للألفة، والتعايش السلمي، وإفشاء السلام العالمي فيما بينهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]، ومن مخاطر، الغلو، والتشدد، والتطرف أيضًا:

=====

3ـ ما ظهر من فتاوى التكفير للحكام، والمحكومين، وللعلماء الوسطيين، ولكل من ارتكب معصيةً، ولم يتب منها، وهذا مخالفٌ لما تقرر من عقيدة أهل السنة والجماعة من أن المذنب الذي لم يتب من ذنبه في الدنيا، في مشيئة الله إن شاء عذّبه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته وفضله ـ مالم يكن ذنبه شركا بالله، قال تعالي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء:48].

وقد حذّر النبي (صلى الله عليه وسلم) الأمة من الارتكاس (التردي في مواضع السوء) في هذا المستنقع الخطير، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ)(متفق عليه، واللفظ لمسلم).

=====

4ـ توريث الناس المشقة، وإيقاعهم في الحرج، وتعسير أمور الدين عليهم، وحجب سماحة الإسلام، ووسطيته، وحنفيته عنهم، كما في حديث سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه)، ومن مخاطر، الغلو، والتشدد، والتطرف أيضًا:

=====

5ـ الذهاب بحياة الأشخاص، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: خرجنا في سفرٍ فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجّه في رأسه، ثم نام الرجل فاحتلم؛ فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟. فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبر بذلك فقال: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)(رواه أبو داود)، ومن مخاطر، الغلو، والتشدد، والتطرف أيضًا:

=====

6ـ المخالفة للهدي القرآني، والبيان النبوي، فالحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)(متفق عليه، واللفظ لمسلم).

عباد الله، وأحباب رسوله الكريم: إن المخالفة للهدي القرآني، والبيان النبوي، ومخالفتهما في الأخذ بالتيسير، والوسطية في كل شيء لا تأتي بخير كما تقدم من أمثله ونماذج، وقد ابتلى الإسلام بنابتة، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام تجرأوا على أحكام الدين، والفتيا بغير علم، وتشددوا فضلوا، وأضلوا، مع أن الحق تبارك وتعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، أي: لا تقل ما ليس لك به علم.

عباد الله أقول قولي هذا، وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.

===========================================

(الخطبة الثانية)

((نماذج من نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) صحابته وأمته عن الغلو والتشدد))

===========================================

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأحبة الكرام: مازال الحديث موصولا مع النهي عن الغلو، والتطرف، والتشدد في شريعتنا الإسلامية الغراء، ولا يتبقى لنا في تلك الجمعة المباركة إلا أن نضرب نماذج لنهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الغلو، والتطرف، والتشدد، ومن تلك النماذج:

=====

1ـ النهي عن مواصلة الصيام، والقيام، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما): (يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟). فقال: بلى يا رسول الله قال: (فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا…)(متفق عليه)، وفي رواية: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا سَفَرًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى، فَاعْمَلْ عَمَلَ امْرِئٍ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا، وَاحْذَرْ حَذَرًا يَخْشَى أَنْ يَمُوتَ غَدًا)(السنن والشعب للبيهقي).

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) (قيل: هم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعثمان بن مظعون (رضي الله عنهم)، يسألون عن عبادة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما أخبروا كأنهم تقالوها (عدوها قليلة)، فقالوا: وأين نحن من النبي (صلى الله عليه وسلم)؟، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم، فقال: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)(اللفظ للبخاري)، ومن تلك النماذج أيضًا.

=====

2ـ النهي عن التعبد حالة التعب، والكسل، وفقد النشاط، والتركيز، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسجد، وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين، فقال: (مَا هَذَا؟). قالوا: لزينب (بنت جحش) تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به. فقال: (حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ)(متفق عليه)، وعن عائشة (رضي الله عنها)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل عليها وعندها امرأة، قال: (مَنْ هَذِهِ؟). فقلت: امرأة لا تنام تصلي، قال: (عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَ اللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا). وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه. (اللفظ لمسلم)، ومن تلك النماذج أيضًا.

=====

3ـ جواز تعاطي المباحات الحياتية في الطاعة، والعبادة، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: بينا النبي (صلى الله عليه وسلم يخطب)، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)(رواه البخاري).

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أيضًا، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى شيخا يهادى بين ابنيه (يمشي بينهما معتمدًا عليهما)، قال: (مَا بَالُ هَذَا؟)، أي: ما شأنه يمشي هكذا. قالوا: نذر أن يمشي (أي: إلى الكعبة)، فقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ)(متفق عليه).

وهذه الآثار هي الأصل الذي نعتمد عليه في عمارة بيوت الله اليوم بالأمور التي تولد الرفاهية والراحة، كالمراوح، والتكييفات، والسجاد وما تحته من الفوم اللين، واستخدام سخنات المياه في الشتاء، والأرائك لكبار السن والنمارق…وهكذا، ومن تلك النماذج أيضًا.

=====

4ـ الأمر بالأخذ بالرخصة طالما لا نقدر على العزيمة، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر، فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال: (مَا لَهُ؟). قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ)(اللفظ لمسلم)، ومن تلك النماذج أيضًا.

=====

5ـ النهي عن الغلو والاعتداء في الدعاء، فعن عبد الله بن مغفل (رضي الله عنه)، سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض، عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ)(رواه أبو داود)، ومن تلك النماذج أيضًا.

=====

6ـ النهي عن الغلو والاعتداء في الطهارة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: (هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ)(سنن النسائي).

===========================================

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به كاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.

كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.