خطبة بعنوان (من أسباب الرزق الخفية ) للدكتور مسعد الشايب
adminaswan
22 يوليو، 2024
ش / مسعد الشايب
14 زيارة
((من أسباب الرزق الخفية)) (1)
((صلة الأرحام في الكتاب والسنة))
20من صفر 1444هـ الموافق 16من سبتمبر 2022م
20من المحرم 1446هـ الموافق 26من يوليه 2024م
==================================
أولا: العناصر:
1. مكانة صلة الأرحام في الشريعة الإسلامية، وبيان حكمها.
2. الترغيب في صلة الأرحام بذكر ما تيسر من فوائدها وفضائلها.
3. (الخطبة الثانية): تساؤلات هامة في صلة الأرحام، والجواب عليها.
============================
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، خلق من الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصهرًا، وأمرنا بصلة الأرحام، وأعظم عليها ثوابًا وأجرًا، وأصلى وأسلم على سيدنا رسول الله، أفضل من وصل الأرحام، وأعلى شأنها، ورغبنا في فعلها، وتميزت دعوته بها، وبعد:
(1) ((بيان مكانة صلة الأرحام، وحكمها))
أيها الأحبة الكرام: فإن صلة الأرحام من أوجب الواجبات علينا، ولم لا؟ وهي من أولى التعاليم والمبادئ التي دعا لها سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقرن الدعوة إليها بالدعوة إلى توحيد الله (عزّ وجلّ) وعدم الإشراك به شيئًا، فعن عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: (أَنَا نَبِيٌّ). فقلت: وما نبي؟ قال: (أَرْسَلَنِي اللهُ). فقلت: وبأي شيء أرسلك، قال: (أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ)(رواه مسلم)، ولو تأملنا في الحديث لوجدنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قدم صلة الأرحام على الأمر بتوحيد الله وعدم الشرك به، وهذا لأهميتها، ومكانتها.
===
وقد فسر سيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فقال: العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفرائض، وإيتاء ذي القربى: صلة الأرحام، فالآية على تفسيره قرنت أيضًا بين توحيد الله وعدم الإشراك به شيئا وصلة الأرحام.
======
وصلة الأرحام شعارٌ للإسلام، وسمةٌ وعلامةٌ للتقوى والإيمان، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)(رواه البخاري)، ولذا كانت القطيعة مؤدية إلى الكفر والعياذ بالله، وتأتي في المرتبة الثانية بعده في الأعمال المبغضة عند الحق سبحانه، كما صحّ عن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
======
وصلة الأرحام من أعظم صفات أولى الألباب (أصحاب العقول): قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ*الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ*وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}[الرعد:19ـ21]، فالمراد بقوله تعالى: {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}: صلة الأرحام والقرابة على أحد الأقوال في تفسير الآية.
======
وصلة الأرحام أمرٌ دعت إليه الرسالات السماوية وأخذت العهد على القيام بها: قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}[البقرة:83]، وما وصى الحق تبارك وتعالى به موسى وعيسى (عليهما السلام) وصى الله به أمة نبينا (صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13] .
======
فصلة الأرحام من أوجب الواجبات علينا: وقد أمر الحق تبارك وتعالى بها، وأشار إليها في العديد من الآيات القرآنية كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177]. قلت: (على حبه) أي: يخرج المال حبا لله، أو يخرجه وهو محب لهذا المال، وكقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء:26].
(2) ((الترغيب في صلة الأرحام بذكر ما تيسر من فوائدها وفضائلها))
1ـ سبب من أسباب البركة والزيادة في العمر والرزق: فصلة الأرحام لا تنقص العمر ولا تقلل المال والرزق كما يدعي البعض، ويقول: (الأقارب عقارب، والعم همّ، والخال غمّ، واللي يحتاجوا بيتك يحرم على الجامع)، بل على العكس صلة الأرحام سببٌ من أسباب البركة والزيادة في العمر والرزق، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)(متفق عليه)، (يبسط) يوسع، ويمد، ويزاد. (ينسأ) يؤخر، ويؤجل. (أثره) بقية عمره. (فليصل رحمه) فليبر بأقاربه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ)(رواه الترمذي).
===
قلت (ابن الشايب): وهنا يثور إشكال وهو إذا كان الرزق مكتوبًا، والعمر والأجل معلومًا ومحدودًا كما جاء في قوله (صلى الله عليه وسلم) في الصحيحين من حديث ابن مسعود: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)، فكيف يزيد الرزق على ما هو مكتوب ويزيد العمر والأجل على ما هو معلوم ومحدود؟.
وأقول: ذهب فريق من العلماء إلى أن المراد بالزيادة هنا البركة؛ وعلى ذلك تكون البركة في الرزق بأن يكون كافيًا مصروفًا عنه الآفات، يقنع ويرضى به صاحبه، وتكون البركة في العمر والأجل بالتوفيق للطاعات والعبادات والأعمال الصالحة، وترك المنكرات، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وشغل الوقت في كل ما ينفع في الأخرة وصيانته عن الضياع فيما لا يفيد، ولنا في الإمام النووي نموذجًا في كثرة مؤلفاته النافعة بالرغم من قصر عمره.
===
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن الزيادة حقيقية؛ وذلك بأن يكتب الله (عزّ وجلّ) في اللوح المحفوظ: أن فلان ابن فلان عمره كذا وكذا ورزقه كذا وكذا إن لم يصل أرحامه، فإن وصل أرحامه زاد عمره إلى كذا وكذا، وزاد رزقه إلى كذا وكذا، ويشهد لذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، فالتغيير في علم الملائكة وليس في علم الله وبالتالي فلا إشكال.
===
وقيل: المراد بزيادة العمر والأجل أن يرزق الله واصل الرحم ذريةً صالحةً تكون سببًا في الثناء عليه بعد موته، فعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) قال: ذكر زيادة العمر عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال (صلى الله عليه وسلم): (لَا تُؤَخَّرُ نَفْسٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمُرِ: الذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ يَرْزُقُهَا اللَّهُ الْعَبْدَ، فَتَدْعُو لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قَبْرِهِ، فَذَلِكَ زِيَادَةُ الْعُمُرِ)(المعجم الأوسط).
======
2ـ كما أن صلة الأرحام كفارة للذنوب والخطايا المتعلقة بحق الله (عزّ وجلّ)، فاللحظات التي نقضيها في صلة الأرحام تكفر لنا الساعات التي نضيعها في ارتكاب الذنوب والآثام، فعن ابن عمر (رضي الله عنهما)، أن رجلًا أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنبًا عظيما فهل لي توبة؟ قال: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟). قال: لا، قال: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟). قال: نعم، قال: (فَبِرَّهَا)(رواه الترمذي)، ومعنى الحديث انك إذا بررت وأحسنت إلى خالتك وهى إحدى الأقارب والأرحام كان هذا الإحسان وهذا البر كفارة لذنبك الذى ارتكبت فدل هذا على أن صلة الأرحام كفارة للذنوب والخطايا.
======
3ـ كما أن صلة الأرحام تدفع وتردّ ميتة السوء، التي كان يستعيذ منها النبي (صلى الله عليه وسلم)، ونتخوف نحن من كثرتها اليوم كالموت حرقًا أو غرقًا أو هدمًا أو بالطائرة أو القطار أو السيارة…الخ، فعن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)(رواه أحمد)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)(المعجم الكبير)، والله حينما أمرنا بوضع النفقة وأرشدنا إلى جهة صرفها قال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:215]، واستنادًا لهذه الآية وهذا الحديث وبناء عليهما فان من فوائد صلة الأرحام أنها تدفع وترد ميتة السوء بإذن الله.
======
4ـ كما أن صلة الأرحام سبب في مدد الله (عزّ وجلّ)، وفى عونه ونصره، وحفظه في الدنيا والآخرة، فالذي يشتكي ضيقًا أو تعسيرًا…الخ فعليه بصلة الأرحام فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟). قالت: بلى. قال: (فَذَاكِ لَكِ)(رواه مسلم).
===
قلت (ابن الشايب): هنا يتساءل المسلم هل الرحم تتكلم حقيقة؟. وأقول: المراد بذلك أن الله (سبحانه وتعالى) يوكل ملكًا من الملائكة بالنطق والكلام عنها، وذهب فريق من العلماء إلى أنها تتكلم حقيقة يوم القيامة بلسان ذلق طلق فصيح؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم): (الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، مَنْ يَصِلْهَا يَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْهَا يَقْطَعْهُ، لَهَا لِسَانٌ طَلْقٌ ذَلْقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الأدب المفرد)، (طلق) فضيح. (ذلق) ذو حدة، وفصاحة، وبلاغة.
======
5ـ صلة الرحم طريق موصل للجنة ـ بإذن الله ـ مع الإيمان وأداء الفرائض والأركان، فعن أبى أيوب أن أعرابيًا عرض لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته، أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله – أو يا محمد – أخبرني بما يقربني من الجنة، وما يباعدني من النار، قال: فكفّ النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: (لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ). قال: (كَيْفَ قُلْتَ؟). قال: فأعاد، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ)(اللفظ لمسلم)، وفى رواية لمسلم: (إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)، وكفى بذلك فائدة
…. فهذه هي أهم الفوائد والثمار التي تعود علينا من صلة الأرحام أرجو الله أن ينفعنا بها ويلهمنا الأقبال علي صلة الأرحام إنه ولى ذلك والقادر عليه، عباد الله: أقول قولي هذا، واستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
==========================
(الخطبة الثانية)
((تساؤلات هامة في صلة الأرحام، والجواب عليها))
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
===
أيها الأحبة الكرام: عشنا مع صلة الأرحام، وبيان مكانتها وحكمها، وشيء من فضائلها، وفوائدها تعريفها، والبعض يتساءل عن معنى الأرحام، وكيفية صلتها، وعن الصلة الحقيقية للأرحام، فأقول:
======
(أولا): الرحم هي: منبت الولد، ووعاؤه في بطن أمه هذا عند أهل اللغة، أما في الشرع الحنيف فهي كلمة تطلق على الأقارب: وهم الأشخاص الذين بينهم وبين الشخص صلة سواء كانوا يرثون أم لا، وسواء كانوا ذا محرم (لا يحل الزواج بهم) أم لا، فالرحم كلمة جامعة يدخل فيها الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والإخوة والأخوات، والبنون ذكورًا وإناثًا، والأعمام والعمات وبنوهم، والأخوال والخالات وبنوهم، ويدخل فيهم الأقارب من جهة المصاهرة كأقارب الزوجة، وزوج الأخت، وزوج البنت فهؤلاء هم الأرحام الذين أمر الله بصلتهم.
======
(ثانيًا): أما عن كيفية صلتها: فصلة الأرحام ليس لها في الإسلام ضابطٌ معين ومحدد، ولا تنحصر في مظهر من المظاهر بل هي تختلف باختلاف حال الشخص غنى ويسارًا وفقرًا وإعسارًا، وهى تشتمل على كل جميل يدخل الفرح والسرور عليهم، ويدفع الأذى عنهم، وذلك كالنفقة عليهم، والهدية لهم، والدعاء لهم، والسؤال عنهم، وزيارتهم، ومشاركتهم الأفراح والأتراح… وما أشبه ذلك من قول وعمل، المهم أن يكون بين الشخص وبين أقاربه وأرحامه اتصال على أي جهة تثمر الود والمحبة والترابط..
===
وما يكتفى به من الفقير في الصلة لا يكتفى به من الغنى؛ فالفقير مثلا يكفى منه في صلة أرحامه الأغنياء الدعاء لهم، والزيارة إن أمكن، والسؤال عن أحوالهم، أما الغنى فلا يكفى منه ذلك في صلة أرحامه الفقراء بل لابد له في صلتهم من التصدق عليهم ومساعدتهم بالمال.
وقد أرشد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك، وبيّن أن في ذلك أجرين؛ أجر الصدقة وأجر صلة الرحم فعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود (رضي الله عنهما)، قالت: كنت في المسجد، فرأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: (تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ). وكانت زينب تنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟. فقال: سلي أنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فانطلقت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال، فقلنا: سل النبي (صلى الله عليه وسلم) أيجزي عني أن أنفق على زوجي، وأيتامٌ لي في حجري؟. وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل فسأله، فقال: (مَنْ هُمَا؟). قال: زينب، قال: (أَيُّ الزَّيَانِبِ؟). قال: امرأة عبد الله، قال: (نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)(متفق عليه)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)(رواه النسائي)، وعن حكيم بن حزام، أن رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الصدقات، أيها أفضل؟. فقال: (عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ)(مسند أحمد)، (على ذي الرحم الكاشح)، أي: القاطع المعرض، كأنه يصرف عنك كشحه إعراضا، وقيل: هو العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه، أي: باطنه. والكشح: الخصر، أو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف من الإنسان. فتأمل وتدبر.
======
(ثالثًا): الصلة الحقيقية للأرحام والتي نتحدث عنها ورغب النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها: فهي الصلة التي لا ينظر من وراءها إلى مقابل أو انتظار الرد عليها بمثلها، بل على العكس هي الصلة المستمرة وإن كان الأرحام في قطيعة لصاحبها، قال (صلى الله عليه وسلم): (لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)(رواه البخاري)، (ليس الواصل بالمكافئ) أي: أن الذي يصل غيره مكافأة له على ما قدم من صلة مقابلة له بمثل ما فعل ليس بواصل حقيقة لأن صلته نوع معاوضة ومبادلة. (إذا قطعت رحمه وصلها) إذا قاطعه غيره قابله بالصلة.
===
ويزيد هذا المعنى وضوحًا ما جاء عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)(رواه مسلم)، (ويجهلون عليّ) أي: يسيئون، والجهل هنا القبيح من القول. (تسفهم المل) الملّ هو الرماد الحار أي كأنما تطعمهم إياه، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم. (ظهير) الظهير المعين والدافع لأذاهم.
وعن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال: أمرني خليلي (صلى الله عليه وسلم) بسبع: (أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ، وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ)(مسند أحمد).
===================================
فاتقوا الله يا عباد الله: وصلوا أرحامكم، وأطيعوا ربكم ومولاكم، وخالفوا بذلك أنفسكم وهواكم، واصبروا على أذاهم فبذلك نبيكم أوصاكم، وبالغوا في الإحسان إلى من أساء إليكم منهم تحمد عقباكم، وحسنوا أخلاقكم معهم ترض أخلاقكم، وتنالوا راحتكم، ويطيب مثواكم. والله المسئول أن يوفقني وإياكم وجميع المسلمين والمسلمات لما فيه السعادة، وأن يرزقنا الحسنى وزيادة، ببركة ينبوع الحكم الربانية، ومعدن الأسرار الروحانية، النبي الأواب، من جاء بالسنة والكتاب. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما دجت الأحلاك، ودارت الأفلاك.
فاللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم اجعل قلوبنا متعلقة بك واشغلنا بإصلاح أنفسنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب